قال موليير مقولته المأثورة إن للمسرح مهمتين: المتعة والتعلم Instruire Et Amuser.وعندما أصاب التطور مفهوم مهمة المسرح، صار يستخدم كوسيلة وأداة تعليمية في المدارس، لا بل لقد أقرت المناهج التعليمية على أن تمسرح المناهج، كي تسهل للطالب عملية فهم المواد، وخاصة العلمية منها. واستمر تطور مفهوم مهمة المسرح ووظيفته وصار يستخدم في مجالات علمية وطبية، وذلك نظرا لفعالية المسرح، ولأهمية العلاقة التي يخلقها مع المتلقي والتي تحدث عملية تفاعل مع الدور والشخصية، إذ يبلغ، من جرائها، الممثل والمتلقي معا حالة سماها أرسطو بحالة التطهر Catharsis.
أفاد علم النفس من هذه الحالة التفاعلية والتفريغية (من تفريغ الشحنة الانفعالية)، وأسس ما سمي بالعلاج بالدراما أو السيكودراما.
والسيكودراما كمفهوم هي شكل من أشكال المعالجة النفسية من خلال التقنيات المسرحية، وأول من استخدم هذه التسمية هو الطبيب النفسي الروماني مورينو Moreno وهو يعرِّفها بأنها علم «يستكشف الحقيقة بوسائل درامية». وقد انطلق مورينو من مبدأ تمثيل الواقعة ضمن مجموعة (وهذا هو مبدأ ديناميكية المجموعة)، بدلا من الكلام عنها كما في التحليل النفسي التقليدي، لأن تكرار الواقعة من خلال التمثيل يساعد المريض على الخلاص من الكبت، وهذا ما يطلق عليه في علم النفس اسم «نظرية المرة الثانية».
وانطلاقا من هذا المفهوم، وتجسيدا لمبدأ تمثيل الواقعة ضمن مجموعة، خاضت زينة دكاش المخرجة المسرحية اللبنانية تجربتها المسرحية. وزينة هي المؤسسة لأول مركز علاج بالدراما في لبنان، وهو مركز يوفر العلاج للأفراد والمجموعات من خلال استخدام أسلوبي المسرح والفنون، ويقدم كاتارسيس خدمات السيكودراما كوسيلة درامية لهذه الغاية.
وتشمل هذه الخدمات البرنامج التأهيلي للعلاج بالدراما داخل السجون اللبنانية، مما مهد لزينة وجمعية كتارسيس Catharsis (المركز اللبناني للعلاج بالدراما أي السيكو دراما)، تقديم تجربتها المسرحية «شهرزاد ببعبدا».
اعتمدت دكاش، في هذا العرض، تقنية السيكودراما التي تقوم على طريقة علاج نشطة وفعالة عن طريقِ التعامل مع الماضي، وهذا التعامل - حسب رولان بارت Rolland Barth - يجعل المسرح يعتمد على الفعل المرتد Feedback، وهذا الفعل هو الذي يجعل اعتبار المسرح آلة سبرنتيكية (Cybernetic).من هذا الفعل المرتد راحت السجينات تسترجعن ماضيهن الذي يكشف عن أسباب دخولهن السجن، ويبرز الحدث المأسوي في سير حياتهن بأسلوب سردي مؤثر وصادق ودافئ، وبرؤية خصبة بحيث بدت أحداث الماضي وصراعاته كما لو أنها تحدث الآن، الأمر الذي أدى للوصول إلى مستوى جديد من الفهمِ للموقف الدرامي المرتكز على واقعهن.
سير حية لسجينات/شهرزادات/ ممثلات على الخشبة المسرحية
سمت زينة دكاش عرض مسرحيتها «شهرزاد ببعبدا». وشهرزاد هي التي تمثل السجينات اللاتي توالدن وتشظين إلى شهرزادات، والعامل المشترك بين شهرزاد «ألف ليلة وليلة» وشهرزادات «بعبدا» هو الحكي /السرد، أما الفرق فيكمن في أن شهرزاد «ألف ليلة وليلة» حكت لتحيا فكانت الحكاية معادلا للحياة، بينما «شهرزادات بعبدا» السجينات فقد حكين وسردن سيرهن ليبلغن حالة التطهر.
لقد مسرحت المخرجة سير هؤلاء النساء/ السجينات الحية. وعملت على توليف الخطوط الرئيسية من هذه السير، واختارت منها ما يصلح لتشكيل الحالة الصراعية التي عاشتها المرأة /السجينة مع الآخر /السلطة الذكورية ومع الذات، ولتبلغ مرحلة التطهر من كل ما أصابها وكل ما دنسها، من تعاطي المخدرات إلى التفلت والانحلال الأخلاقي بشتى أنواعه، إلى العذابات التي عاشتها المرأة قبل دخولها السجن، وداخل السجن، وهي الآن تتحضر لمواجهة مجتمع بأكمله بقيمه الأخلاقية، لأن هؤلاء الشهرزادات السجينات أنهين عقوبة السجن، وأطلق سراحهن.
في هذه الترجمة الدرامية للسير الذاتية، تخترق زينة دكاش الأطر التقليدية التي استخدمت في المسرح للتعبير عن المرأة لجهة بناء النص، وتكوين شخصيات وخلق حالات صراعية، وإعمال تشغيل المتخيل، فكان نصها مبنيا على شهادة حية لحالة المرأة الضحية، وسردت كل واحدة من هؤلاء النساء السجينات سيرتها، مستعرضة حياتها والأسباب التي أدت إلى دخولها السجن:
فالمرأة الأولى سردت سيرتها عندما كانت طفلة وزوجوها من «عمو» وكما في جاء في الزغاريد للاحتفاء بزواجها كتبت دكاش:
«ولكنها على بيت «عمو» بعتوها وبالضرب زوجوها وإذا رجعت على بيت أهلها.. على بيت زوجها ردوها، ثم على سجن بعبدا ودوها».
أما المرأة الثانية وهي التي كانت الفتاة الوحيدة المدللة، وهي تتقن اللغة الفرنسية وتعلمت في مدرسة داخلية، فقد تعرضت لتحرش جنسي من صديق أبيها، ثم مرضت وأدخلت المستشفى، وكانت تحلم بالحصول على مسدس، فحصلت عليه كهدية، وقتلت هذا الصديق الذي تحرش بها، ودخلت السجن.
والمرأة الثالثة هي الفتاة التي ظلت تبحث عن طفولتها وأنوثتها.. كان حلمها أن تتزوج وأن تعيش في بيتها وتود العيش مثل سائر النساء: فتبني أسرة ويحتضنها منزل، وتعيش أمومتها. ولكنها لم تجد من يرعاها، فكانت تخرج مع كل من يدعوها، فتعاطت المخدرات ودخلت السجن، أما الفتاة التي أهملتها والدتها، فتزوجت وحلمت ببيت، ولكنها لم تحصل عليه.
إننا أمام تجربة معاناة حية في نص «شهرزاد ببعبدا»، لا تفتعل ولا يتداخلها متخيل الإبداع، بل هي تجربة تفجر المكبوت واللاوعي عندما سردن، وفي سردهن انبثق التطهر والكاتارسيس، ومن سيرهن تعالت أصوات المعاناة والقهر الذي جعلهن ضحايا السلطة الذكورية والمجتمع معا، لأن هؤلاء النساء يحلن أسباب سجنهن إلى السلطة الذكورية كونهن ضحاياها، وبسبب هذه السلطة عشن تجربة تجسد القهر من الاغتصاب والتحرش والطلاق والخيانة، فتمردن ولكن تمردهن لم يكن ضد هذه السلطة بل ضد أنفسهن، وكان الانتقام ردة الفعل الانفعالية ضد الذات، الأمر الذي أدى بهن إلى السجن.
المونولوج Monologue / صيغة التعبير الأعمق في حوارات المرأة /السجينة.
اعتمدت زينة دكاش حوارا انبعث من المعاناة القابعة في اللاشعور، تلك التي تؤثر سلبا على الإنسان، فيكون فريسة لها، بشكل غير مرئي. وفجرتها على الخشبة لتبوح شهرزادات بعبدا بالسرد والحكي، ولتفجرن المكبوت على خشبة المسرح، حيث أعطيت لهن الحرية للتعبير عن أنفسهن، عندما قمن بتمثيل الدور المستعاد من الذاكرة /السيرة. واستخدمت المخرجة صيغة حوارية تسهم في استنطاق هؤلاء النساء، هي صيغة المونولوج أي الإطار الذي يعبر به عن الصراع الوجداني Dilemma.
فهو خطاب الشخصية مع نفسها في لحظات تأزمها، وقد أسهم هذا الحوار الداخلي أو المونولوج في نقل الحياة الداخلية للمرأة السجينة بشكل دينامي وعفوي وحي. وجاء نوعا من مسرحة الحياة الداخلية. وبدا كأنه حوارات داخلية في لحظات تتأمل فيها السجينة لذاتها وللآخر. ثم يتصاعد هذا المونولوج على الخشبة ليبدو كأنه انبثق من لحظات الأزمة الداخلية القصوى للشخصية وتمردها، فكشف عن همومها، وأسرارها، وأعماقها الداخلية، وأفكارها، وتأملاتها الذاتية. وقد تلجأ المرأة بشكل عام إلى المونولوج الداخلي لكونه كلاما صامتا مفتوحا لأنها تفتقد إلى من تحاوره, أو لأنها تفتقد قدرة الكلام مع الآخرين، أو طلب منها الصمت والسكوت أو مورس عليها الإسكات، لهذا سمى لوكاش المونولوج «لغة المخذول الذي هجره الإله».
أداء واقعي حي على الخشبة المسرحية
عملت دكاش على جعل هذا العرض عرضا حيا مستلهما من واقع الحياة، وقادت السجينات إلى لعب هذه الأدوار بالشكل والصورة التي تتوافق مع مقتضيات المسرح وشروطه، ومع طبيعة العرض.
ولعبت زينة المخرجة دورًا مهمًا في إدارة الممثلات على خلفية التحليل النفسي، عندما أولت هؤلاء الممثلات مهمة تمثيلها الأدوار اللازمة لشخصيات تقع ضمن التجارب الحياتية لهن.
واستتباعًا وتنفيذا لمبدأ العلاج النفسي الذي يرتكز عليه العلاج الدرامي، طلبت زينة دكاش من كل سجينة أن تلعب أدوارا متعددة، ربما متضاربة على مسرح الحياة، منها دور الطفلة التي مثلتها السجينة التي تزوجت زواجا مبكرا، ودور الزوج، وكذلك دور الفتاة التي تعرضت للتحرش الجنسي والاغتصاب، ولعبت أيضا دوري الأب وصديقه... إلى غير ذلك من الأدوار، كما جسدت كل واحدة منهن الصوت واللهجة لكل من الشخصيات التي أدت دورها والصفات.
ثم جعلت السجينات الممثلات الحاكيات الساردات، معتمدة المونولوج التلقائي المتصاعد، لكي تكشفُ السجينات/وتعرفُن بالوقائع التي قد تُسهم في تقوية «أناهن» وتعطيهن فسحة أمل، ونظرة أكثر اشراقا حتى يتمكن من الاستمرار في الحياة، ومن إعادة رد اعتبارهن في المجتمع. وتقول زينة: «إنهن نساء مسجونات وراء القضبان ونساء «مسجونات» وراء قضبان من نوع آخر.. قضبان واقع مرير تعيشه كثير من النساء في مجتمعات عدة».
واكتملت شروط السيكودراما التي استخدمتها زينة دكاش في هذه التجربة، عندما تشكل الجمهور/ الحاضرون من الرأي العام والمجتمع المدني ووزير الداخلية، مما أتاح لهؤلاء الممثلات السجينات عرض مشاكلهن لدرجة أدت إلى تعديل بعض القوانين الخاصة بالسجن والسجناء عامة، ولدرجة جعلت المتلقين من هذا الجمهور في حالة تفاعل أودت بهم إلى حالة من التطهر Catharsis وهي التي شكلت بالأساس هدف الممارسة المسرحية لدى أرسطو، لكن مع إعمال العقل لقبول هؤلاء السجينات أيضا، وليس الاكتفاء بالتعاطف معهن.
السجينات حاورن نساء طليقات
هذا العرض هو سيرة نساء واقعية تعرضن للسجن وهن شبيهات بنساء سجن الكاتبة المصرية فتحية العسال التي طرحت هذه القضية في نصها «سجن النساء»، ولكن الفارق بين نساء النصين أن العسال عمدت إلى المتخيل لصياغة سيرهن، إضافة إلى أنها استمعت إليهن عندما كانت سجينة سياسية، وسردن سيرهن في نص صيغ من خلال بنية درامية مسرحية. لكن سجينات دكاش عشن هذه التجربة القاسية وسردنها. وهذا السرد أدى بهن إلى التطهر، وإلى مغادرة السجن، وهن بهذا المسرح التطهيري واجهن مجتمعهن، الذي كن ضحاياه، كسرن حاجز الصمت وحجاب الكلام عندما توجهن إلى النساء يدعوهن لمراجعة نظرة المجتمع إليهن، أي إلى السجينات، ولنقل رسالة التغيير كما عبرت إحدى السجينات خير تعبير عندما قالت:
«مصيري فيه يتغير!.. يعني التاريخ فيه يتغير؟»
تجربة مهمة قامت بها المخرجة زينة دكاش وتخلت فيها عن سلطتها كمخرجة، بل عملت نفسيًا على تطهير هؤلاء النساء مما ألحقته بهن الأيام والظروف من قهر ومعاناة وممارسة المحرمات، فدفعن الثمن وسجنن.
------------------------------------
* بعبدا هي منطقة في جبل لبنان أقيمت فيها السجون ومنها سجن للنساء
** «شهرزاد ببعبدا» إعداد وإخراج الكاتبة والمخرجة المسرحية اللبنانية زينة دكاش
-------------------------------------
* أستاذة بالمعهد العالي للفنون المسرحية - الكويت.