وسط المدينة.. قلب أسواق الكويت القديم.. سوق المباركية.. بين جيلين

 وسط المدينة.. قلب أسواق الكويت القديم.. سوق المباركية.. بين جيلين: سعود السنعوسي
        

تصوير: رضا سالم

          ذات يوم شتوي من شتاءات الكويت. كان الوقت ليلًا. لمحته يسير بين الناس متدثرًا بعباءته الشتوية، المستسلمة للهواء، في زقاق من أزقة هذا السوق العتيق: «سوق المباركية»، قلب أسواق الكويت القديمة، لا يحمل شيئا مما قد يبتاعه من يأتي إلى هنا، إلا أنه، لاشك، كان يحمل في ذاته ما يدفعه للسير ذهابا وإيابا في سكك السوق الداخلية على هذا النحو، يمشي بطريقة آلية من دون أن يلتفت، خشية، ربما، من أن يلمح ما يعكر صفوه ويعيده إلى زمن حاضر، أو لعله اكتفى بالأصوات والروائح العتيقة. تبعته تاركًا بيني وبينه مسافة تمكنني من ملاحقته من دون أن ينتبه إلى وجودي، خشية أن أقطع عليه خلوته. ظننته، في النهاية، ينوي شراء شيء ما، أو ربما جاء ليجلس في أحد المقاهي الشعبية، ولكنه اختفى.. هكذا.. كطيف زائر، مبحر مع الرياح، بعد أن اطمأن إلى أن أعشاش الطيور، أو بعضًا منها، لايزال في مكانه. وجدتني أتساءل، هل كنت أتبع الشاعر خليفة الوقيان أم.. شبحه؟!

          سوق المباركية.. روح البلاد في جسدٍ، وإن طاله الترميم، يبقى قديما أقرب إلى صورته الأولى، وإن تطاولت البنايات والأبراج من حوله تحاصره بواجهاتها الزجاجية، يبقى هناك، في قلب مدينة الكويت، في زمن لا يمت لزمننا هذا بصلة. بالبساطة إياها، والروح ذاتها.. برائحة عطور الشرق والبخور والحناء.. روائح التوابل الهندية.. زفر أسماك الخليج.. نكهة الحلويات الشعبية.. عبق الفواكه والخضار بأشكالها وأنواعها وألوانها المختلفة. بأصوات الباعة فيه وهي تكوّن مزيجا تذوب فيه اللهجات بين الكويت ومصر واليمن والهند وبلاد فارس والشام.

          إذا كانت المتاحف شاهدة على إرث البلاد في صمت، بعد أن توقفت فيها الحياة منذ زمن، فإن سوق المباركية متحف حيّ، ناطق، نَشِط، مستمر في حياته منذ أيامه الأولى إلى يومنا هذا.

          قد تكون الأسواق والمجمعات التجارية، المبنية على الطراز الحديث، دليلاً على تطور البلاد عمرانيًا واقتصاديًا، وقد تتمثل واجهة أي بلد في تطورها العمراني الذي يعتبر، أحيانًا، مقياسًا لما وصلت إليه من تطور، إلا أن هذا كله لا يقلل من شأن الأسواق التقليدية التي تعد الإرث الأهم والهوية الحقيقية التي تميّز بلدا عن سواه. ففي الوقت الذي تعكس فيه هذه المجمعات صورة لحاضر أي بلد، نجد أن السوق التقليدي يمثل الأصالة عبر جذوره الممتدة ثقافيا إلى ماضيه. وفي ظل الانفتاح الذي يشهده العالم، والتطور السريع الذي أحال الدول نسخًا مكررة عن غيرها، بقيت الأسواق التقليدية، في كل بلد، صورة لا تشبه إلا بيئتها الحقيقية. وفي الوقت الذي نكاد لا نميّز فيه الفروق بين الأسواق والمراكز التجارية الحديثة في شنغهاي والكويت والقاهرة ونيويورك، نجد أن السوق التقليدي وإن تشابه في بعض الصفات والسلع، فإن لكل سوق خصوصيته التي يتفرد بها.

سوق المباركية

          لعله الوجهة الأهم والمكان الأبرز الذي يقصده السائح في الكويت، والذي يزوره الكويتيون رجالا ونساء ممن يجرهم الحنين إلى زمن لم تعد البلاد تحمل منه سوى شواهد قليلة طال أغلبها التغيير. سوق المباركية، الكائن في قلب مدينة الكويت، والذي حمل هذا الاسم نسبة إلى أول مدرسة نظامية تأسست في الكويت وسميت باسم المباركية على اسم حاكم الكويت آنذاك، أمير الكويت السابع، الشيخ مبارك الكبير (1896-1915). يعتبر هذا السوق واحدًا من أهم الأماكن التراثية التي بقيت صامدة في الكويت حتى وقتنا الراهن. ولعل المسئولين أدركوا أهميته وما يمثله من قيمة تراثية للكويت، وهذا ما تشير إليه عمليات الترميم والتنظيم شبه الدائمة، بدءًا من إعادة تصميم المحال التجارية على الطراز الطيني القديم بأبوابها الخشبية التقليدية، وعمليات التسقيف في السكك المفتوحة، مرورا بتوزيع الإنارة على الأرض، وتجديد «كشك مبارك» في العام 2011، وصولا إلى أبرز التحديثات التي طالت سوق المباركية أخيرًا والتي تتمثل في إغلاق الشارع المقابل لمحال الصرافة أمام السيارات، ليصبح، كبقية الشوارع والسكك الداخلية، مخصصا للمشاة، ما يتيح حرية أكبر لرواد السوق من دون الاضطرار لمزاحمة السيارات.

سوق يخلو من ناسه

          بالرغم من أن السوق يمثل للكثير قيمة كبيرة تربطهم بماضيهم، فإن البعض يحمل مشاعر أخرى تجاه السوق نفسه. فسوق المباركية الذي عاصر تحولات البلاد الكثيرة منذ نشأته إلى يومنا هذا، رغم أنه لايزال في المكان ذاته يحمل شيئًا من ماضي الكويت فإن البعض، لم يعد يفضل الذهاب إليه لأنه يفتقد ناسه الأولين. أتذكر ملامح رجل كبير في السن حين قال لي، ذات يوم، بحسرة: «الكويت لم تعد كويتية». وعندما استرسل في الحديث يبث شجونه عرفت أنه يحن إلى زمن السوق القديم، ولكنه لم يعد يفضّل الذهاب إليه مبررا: «ما جدوى ترميم المباني القديمة إذا خَلَت من ناسها؟!» يقول إن الناس استبدلت الجمعيات التعاونية بالسوق القديم. فالجمعية التعاونية موجودة في كل منطقة تحتوي على فرع الخضار والفواكه.. فرع اللحوم.. بل وحتى فرع الأزياء الشعبية. يقول: «لا أطيق أن أزور السوق بعد تدميره! وبعد استبدال الباعة الجدد بأصحاب الدكاكين والباعة القدامى».

هجرة لابد منها

          والدي من أولئك الناس الذين تربطهم علاقة بالسوق القديم. وفور أن ذكرت له سوق المباركية أغمض عينيه. شرع بتحريك ذراعيه يَصِفُ لي السكك الداخلية المؤدية إلى مكتب والده دكان عقار- في سوق الجت بالقرب من «مقهى الدلالوة». عدّد لي أسماء أصحاب الدكاكين وهو يؤكد: «لم يعد أحد منهم هناك.. ربما القليل من أبنائهم حافظ على المحال القديمة بأسمائها، إلا أنهم في الغالب سلّموا إدارتها لموظفين أجانب». ويرد السبب إلى الطفرة النفطية التي نهضت بالبلاد عبر المشاريع التنموية، بدءًا من هدم سور الكويت وتثمين البيوت في نطاقه بأسعار مرتفعة، وصولا إلى توفير الدولة الوظائف للمواطنين بدخل ثابت مضمون، ربما لهذه الأسباب هجر الكثير من أصحاب السوق دكاكينهم ونشاطهم القديم ليحل محلهم باعة من جنسيات مختلفة لا تربطهم، تاريخيًا وثقافيًا، بالسوق صلة. ولكن، رغم انتقادات البعض حول سيطرة أولئك الجدد على السوق، نجد أن لأولئك الجدد فضلاً كبيرًا في استمرار السوق بنشاطه إلى يومنا هذا، ورغم أن الباعة أصبح جلّهم من الأجانب فإن أصحاب المحال أنفسهم، وإن لم يكونوا بحضورهم السابق، فإنهم من الكويتيين.

بدء التسجيل

          الكتابة عن مكان، أي مكان، تستوجب زيارته. سأترك قلمي الآن لأذهب إلى هناك، وبينما أتجول في المكان قررت أن أسجل جولتي بالصوت:

          أنا هنا، في سوق المباركية. الجو محفّز لإنجاز مهمّة الكتابة عن مكان كهذا. الغيوم تحجب أشعة الشمس، وهذا أمر مهم لمن يرغب في زيارة سوق مفتوح كسوق المباركية. أتنقل بين السكك بشكل عشوائي. يظن الناس من حولي أنني أتحدث في الهاتف، وفي الحقيقة أنا أقوم بتسجيل صوتي مستخدما هاتفي النقال. إذًن.. أنا أوثق مشاهداتي بصوت مسموع!

          ها قد وصلت إلى سوق السمك.. يا لهذه الرائحة..
          - بكم هذا يا حاج؟
          - الكيلو بثلاثة دنانير.
          - غالي!

          أتردد على السوق بين حين وآخر، غالبا في مثل هذا الوقت، فصل الشتاء، حيث يبدو سوق المباركية في أجمل صوره. أزور السوق لا لشيء سوى الاستمتاع ببيئة مغايرة، تعود إلى زمن لم أشهد تحولاته، لا أعرف عنه سوى ما قرأت في كتب التراث، وما شاهدته في لوحات الفنان أيوب حسين، وما سمعته في أحاديث جدتي. ما زرت السوق يوما لشراء حاجة، رغم أنني عادة ما أخرج حاملا منه مسبحة «كهرب»، أو «تولة» بخور أو «دزينة» طاقيّات مصنوعة يدويًا يصعب العثور على مثلها في أماكن أخرى. لا أدّعي أن علاقتي بسوق المباركية علاقة حنين، أو ذكريات تجرني إليه، فأنا أنتمي إلى جيل حديث، لا يمثل سوق المباركية بالنسبة له سوى البساطة والأصالة المفقودة في زمن راهن. أستمتع بزيارته كل مرة، مصطحبا ضيفا زائرا للكويت، مزهوا بما تبقى من إرث بلادي، ربما لأنه المكان الوحيد الذي يحمل شيئا من صورتها الأولى. هنا، في سوق المباركية وحسب، أستطيع أن أكون أنا، بـ«دشداشتي» ونعليّ، بتلقائيتي، مناكفًا الباعة، مفاصلا في أسعار سلعهم، مهما كانت زهيدة، يملؤني شعور بالانتصار مع كل مئة فلس أحققها حسمًا من سعر البائع. سوق السمك، في هذا الوقت، عصرًا، مزدحم بعض الشيء، ولكنه ليس بزحمة الناس فجرًا، حيث تنطلق المزادات بعد صلاة الفجر عادة، يعرض الصيادون حصيلة صيدهم ليزايد عليها رواد السوق وأصحاب محال السمك.

          هنا بائع السمك أبوغلام، يطلب مني أن ألتقط له صورة مادمت لا أنوي الشراء على حد قوله: «أنت تفاصل في الأسعار ولا تريد أن تشتري.. التقط لي صورة بكاميرتك هذه على الأقل!». يقول أبوغلام - بعد التقاط الصورة طبعًا - إنه يعمل في سوق السمك منذ ما يربو على الثلاثين عاما. وكغيره من باعة السوق يقول: «كان السوق أفضل في ما مضى. رغم أني لم أكن أملك مسطبة كهذه، حيث كنت أعرض أسماكي على الأرض، فإن البيع كان كثيرا، وخيرات البحر كذلك، وكانت الأسعار في متناول الجميع». وعن الأسعار يقول: «كان كيلو «الزبيدي» بثلاثمائة وعشرين فلسا.. «الهامور» يتراوح سعره بين نصف الدينار والـ 750 فلسا». ويضيف أبوغلام هازّا رأسه: «تصوّر أن خمسة كيلوات من «الحمرة»، في ذلك الوقت، لا تتجاوز ربع الدينار، واليوم الكيلو الواحد منها يباع بدينارين وأكثر أحيانا»!

          يذوب الثلج سريعًا على مساطب السمك هنا، وهذا ما يجعل الأرض زلقة على الدوام.. سأذهب إلى مكان آخر..

          - شكرا أباغلام..
          - ماذا عن الصورة؟!
          - تجدها في مجلة العربي قريبا.

في سوق الغربللي

          هنا، أقدم أسواق المباركية، سوق الغربللي، يبدأ بسوق الصرّافين، وهو الشارع الذي تم تخصيصه للمشاة أخيرًا، وينتهي بشارع عبدالله السالم. يعود أصل التسمية إلى عدد من المحلات التجارية الشهيرة التي ينتمي أصحابها إلى عائلة الغربللي، وخاصة محلات الغربللي لبيع الأحذية، وكانت أول صيدلية افتتحت أبوابها في الكويت، هنا في هذا السوق. يشتهر السوق بدكاكين الملابس الشعبية والأحذية والتوابل والأواني والـ.. انظروا ماذا هناك!

          أرني هذا «المسباح» من فضلك..
          أحب السبحة ذات الحبات الصغيرة..
          - بكم هذا؟
          - ثلاثون دينارا.
          - آخر سعر!
          - سعر ثابت.. هذا «كهرب» تُحسب كلفته وزنا بالجرام..
          - حسنا.. سلام عليكم.

          بعض السلع هنا تشدّك إليها بشكل غريب، وبخاصة «المسابيح» بأنواعها العديدة، كالكهرب والعقيق والعاج  واللؤلؤ والكريستال والفيروز والصندل بل وحتى البلاستيك. ورغم أن المعروف عن السبحة (المسباح) هو استخدامها للتسبيح، ومن هنا جاء اسمها، فإنها في الغالب، بالنسبة للرجال في الكويت، هي نوع من الإكسسوار. يمكنك تمييز صوت احتكاك خرزها بين الأصابع في تجمعات الرجال كالمقاهي الشعبية والديوانيات.

          سأواصل جولتي.. تتفرع من هذا السوق أسواق عدة.. سوق الزّل (السجّاد).. سوق الصّـ..

          - تعال! خمسة وعشرون دينارا.. آخر سعر..
          - شكرًا.. لا حاجة لي به.

          سوق الصّفافير أو سوق التَنَك، حيث تباع الأواني النحاسية والمعدنية والقدور والأباريق والدوّة (المنقلة) وغيرها من الأدوات. ينتعش هذا السوق في مثل هذا الوقت شتاء لما يوفره من سلع ضرورية للـ«كشتة»، حيث يُخيّم الكثير من أهالي الكويت في البرّ في مثل هذا الوقت من السنة. ومن الأسواق المتفرعة من سوق الغربللي سوق البشوت (العباءات الرجالية).. وسوق السلاح، وقد اشتهر قديما ببيع مختلف أنواع بنادق الصيد المستوردة من أوربا لصيد الطيور والغزلان والأرانب، ورغم أن نشاط السوق قد اختلف بعض الشيء عن نشاطه السابق، فإن الناس لاتزال تطلق عليه تسميته القديمة. ومن الأسواق التي تتفرع من سوق الغربللي أيضا سوق الجت (البرسيم) والسمك وسوق المقاصيص الذي اشتهر ببيع التحف والبضائع المستعملة بأسعار مناسبة.

          «عليَّ أن أستأنف جولتي.. يبدو أنها ستمطر»!

بشوت

          سوق البشوت معروف جدًا هنا. وصناعة البشوت لها تاريخ طويل في الكويت. ورغم أنه قلما تشاهد رجلاً يرتدي البشت في الأحوال العادية، فإن سوق البشوت مستمر في نشاطه منذ زمن، ربما بسبب أن بعض أنواع البشوت باهظة الثمن والتي يضمن بيع الواحد منها استمرار نشاط الدكان لشهور عدة. يرتدي البشت في الغالب الشخصيات العامة وكبار السنّ، والرجال في بعض المناسبات، أما بالنسبة للرجل العادي فغالبا لا يلبس البشت سوى مرة واحدة في حياته، تكون عادة في حفل زفافه، حيث إن البشت جزء أساسي لا تكتمل من دونه أناقة «المعرس». هذا في وقتنا الحاضر، أما قديما فكان البشت جزءًا أساسيًا من لباس الرجال خصوصا في فصل الشتاء.

          وهناك أنواع عدة للبشوت، منها الصيفي، وأشهرها النجفي والدورقي والياباني والإنجليزي، أما البشوت الشتوية فأشهرها الأردني والحساوي والبوشهر والسوري والكشميري. يصنع البشت يدويًا في الغالب من وبر الجمال وصوف الماعز، وتستغرق عملية خياطة البشت وقتًا طويلاً وتستوجب دقة ومهارة، لهذا يرتفع ثمنه مقارنة مع البشت المصنوع بواسطة الآلات.

كشك مبارك

          يبدو الأمر مثيرًا للاهتمام! لعل فكرة مراقبة الأشياء هنا والتسجيل الصوتي جعلتني أنتبه إلى ما لم أنتبه إليه من قبل. هنا، بين سوق الجت وسوق التمر، كشك مبارك، يعلوه العلم الكويتي القديم. والكشك، في لهجة أهل الكويت قديما، هو البناء المربع الشكل المكوّن من طابقين. وكشك مبارك، كما هي حال سوق المباركية، تعود تسميته إلى الشيخ مبارك الصباح. وقد شيّد هذا البناء في العام 1897، أي بعد توليه الحكم بعام واحد.

          في منتصف 2010 تم تجديد الكشك، وتم افتتاحه في مارس 2011 بحضور أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح. والاهتمام بهذا المبنى يؤكد أن منطقة سوق المباركية ليست مجرد سوق وإنما هي منطقة تراثية تمثل قلب المدينة، انتبه إليها المسئولون أخيرًا وأولوها اهتمامهم.

          يحتوي الكشك على مجلس الشيخ مبارك، حيث كان يستخدمه في جلساته العامة، قبل انتقاله إلى «قصر السِيف»، يلتقي هنا رجالات البلد وعامة الناس للاستماع إلى آرائهم ومشكلاتهم. لم يستمر نشاط المبنى على ما هو عليه، فقد تحول في العام 1928 إلى أول محكمة في الكويت، ترأسها، آنذاك، الشيخ عبدالله الجابر الصباح. وفي العام 1934 أصبح الكشك مقرا للمحكمة الشرعية قبل أن يصبح إدارة للبلدية، ثم مقرّا للبريد في العام 1942، ثم فرعا للمكتبة العامة لإدارة المعارف في العام 1952. وفي فترة من الفترات، ربما في فترة الكشك الأولى، ضمّ الطابق الأرضي مكتب شئون الغواصين ومكتب التسجيل العقاري. وهنا.. الآن، كما هو مكتوب أمامي في لوح معلق أعلى باب خشبي في الطابق الأرضي «الصيدلية الإسلامية للعلاج وبيع الأدوية.. شعبان 1337هـ». هذه أقدم صيدليات الكويت، وهي صيدلية عبدالإله القناعي التي افتتحها في العام 1919. ويضم المبنى، إلى جانب أقسامه الأساسية، قسما يحوي أهم المعلومات عن كشك مبارك وتطور استخداماته.

          أطلت البقاء أمام الكشك.. والحديث عن تاريخه يطول..

مطعم الرعيل الأول

          رواد السوق الحقيقيون يعرفون، عزّ المعرفة، مطعم الرعيل الأول، وهو يحمل اسما على مسمّى بحق. بدأ نشاطه بصفيح شواء (شوّاية) على الأرض في سوق الغربللي منذ سنوات طويلة. يقول أحد أبناء صاحب المحل في لقاء صحفي نُشِرَ قديما: «ليس المطعم جزءا من التراث وحسب، بل إن زبائننا جزء من هذا التراث والذكريات التي لا تنسى». بالتفاتة بسيطة إلى الشيخين الجالسين إلى جانبي أدرك ما كان يعنيه ابن صاحب المطعم في حديثه!

          - ماعون كبدة وماعون قلوب لو سمحت.
          - حاضر.

          ذهب الولد إلى سوق اللحم القريب من هنا لإحضار اللازم قبل عملية الشواء. كل شيء هنا يتم تحضيره أمام عينيك. وكل المواد تُجلب من السوق.. اللحم والخضار وخبز التنور واللبن. لست أدري ما الذي يميّز هذا المطعم عن سواه. رغم أن منطقة سوق المباركية تغص بالمطاعم الشعبية التي تستقطب الشباب والعائلات، خصوصًا في العطل والمناسبات، فإن لهذا المطعم خصوصية تميِّزه عن غيره. الكثير من الرجال وكبار السن حولي لا يستطيعون بدء يومهم من دون تناول إفطارهم هنا، في مطعم الرعيل الأول. يقول الرجل الجالس بقربي إن هذا المطعم يشكل صورة حيّة لمعنى البركة. فبرغم تهالك المكان وبساطة ما يقدمه من مأكولات فإن الكثير من الزبائن لا يفضلون سواه. المطعم قديم جدا، تجاوز وجوده في هذا المكان الثمانين عاما. أمامي على الجدران قصاصات من الصحف اليومية التي تتحدث عن المطعم ذاته. إحدى هذه القصاصات تعود إلى العام 1983، تحمل صورة للمطعم وتقريرا عنوانه: «أقدم مطعم كبدة في الكويت عمره خمسون عامًا». يتكون  المطعم من طابقين. صغير إلى درجة لا تتسع مساحته لطاولات. يجلس زبائنه باتجاه الجدار، حيث يتناولون أطعمتهم على لوح طويل مثبت إلى الجدار ذاته. وفي إحدى زوايا المطعم مكان صغير للشواء. لا يقدم مطعم الرعيل الأول سوى أطباق الكبدة والقلوب المشوية، أما في ما يخص المشروبات فهو يتميّز بتقديم اللبن بالزبد إلى جانب المشروبات الغازية.

          الرعيل الأول.. ذات الاسم تحمله الديوانية في السوق الداخلي «ديوانية الرعيل الأول» والتي افتتحت في العام 1968. سأذهب إلى هناك بعد تناول وجبتي..

          - «ليمونة ورأس بصل من فضلك».

زلابيا ورهش ودرابيل

          هذا ما لم أحسب له حسابا! يبدو أنني لن أتجاوز هذه السكة للوصول إلى السوق الداخلي قبل أن أتوقف عند هذه الدكاكين. للحلويات الشعبية هنا ألوان ورائحة تصعب مقاومتها. علاقتنا، بشكل عام في الكويت، مع الحلويات الشعبية لا تتوطد إلا في المناسبات، كالأعياد وشهر رمضان المبارك، وربما لهذا السبب تحيلني هذه الروائح إلى تلك الأجواء. أمرر نظري الآن على الأطباق المصفوفة بعناية في هذا الدكان.. قرص العقيلي.. الدرابيل والكليجة.. الرَهَش والزلابيا وكبدة الفرس والسمسميّة.. والحلوى  البحرينية والعمانية. تُحضّر هذه الحلويات في الغالب هنا. يحثني البائع على الشراء: «هذا شغل بيت». يشير إلى بعض الأطباق يشرح مكوناتها.. سمسم مطحون.. هيل وحبة بركة.. دبس التمر.. سكر ودهن العداني.. بيض وطحين ومكسرات.

          بدأت السماء تمطر قبل أن أنهي جولتي!

          - «ربع كيلو زلابيا لو سمحت.. سأعود لآخذ الطبق لاحقًا».

السوق الداخلي

          هنا السوق الداخلي، وإن كان لا يتبع سوق المباركية بتقسيماته، فإنه قريب جدًا منه بالمسافة والتصميم والجو العام و.. الناس. ولحسن الحظ أن معظم الأماكن هنا مسقوفة، شعرت بأهمية السقف هنا مع انهمار المطر فوق رأسي في المسافة الفاصلة بين سوق المباركية والسوق الداخلي. أعيد بناء هذا السوق في عهد أمير البلاد الراحل الشيخ جابر الأحمد في مارس 1990.

          عن يميني ديوانية الرعيل الأول بطرازها القديم، وناسها الذين اعتادوا لقاء بعضهم هنا. آتي إلى هنا في وقت مبكر جدا، بعد صلاة الفجر أحيانًا، ورغم ذلك أجد الرجال يجتمعون كما لو أنهم في زمن آخر بعيد. مكتبة دار داوود للنشر عن يساري، وهي وإن لم تكن مكتبة حديثة المنشأ فإنها تضاهي المكتبات القديمة في محتوياتها من كتب نادرة وطبعات من المجلات والصحف القديمة، بل وحتى ملصقات الأفلام العربية زمن الأسود والأبيض. هذه منطقة غنية بحق! خلف مكتبة داوود تقع المدرسة المباركية، أول مدرسة نظامية تم تأسيسها في الكويت بالعام 1911، وخلف ديوانية الرعيل الأول مجموعة من دكاكين العقار، تقع بينها مكتبة الرويّح، التي تعتبر، وإن تغيّر مكانها، أول مكتبة تجارية لبيع الكتب في الكويت، حيث تأسست في العام 1920. وفي الطرف الآخر هناك، حيث أتجه، خلف المدرسة المباركية، يجلس عدة شيوخ بينهم بعض الشباب في مقهى «بوناشي» الذي تعود تسميته إلى أول مقهى في الكويت، والذي كما تشير بعض المصادر، أنه تأسس في زمن الشيخ عبدالله بن صباح الأول 1776.

          هذه تجربة مغايرة.. وكأنني أتعرف إلى صورة مغيبة من صور الكويت. لايزال هناك الكثير، أشعر بأنني لم أقل شيئا حتى الآن. إن واصلت جولتي سوف لن أنتهي من التسجيل عبر هاتفي قبل ساعات، كما أن المطر لايزال يواصل انهماره، وفي الطرف الآخر هناك.. ربع كيلو زلابيا في انتظاري.

          جولتي هذه ناقصة. أنا هنا أشاهد قشور المكان، وأتصور أنني بحاجة إلى من يعرف هذا المكان، أكثر من شاب جاء ليشاهد ما تبقى منه.. شخص له تاريخ هنا.. ذكريات وحنين.

(جيل الأمس) الوقيان
وحنين إلى ذاك الزمان

          منذ بدأت في التحضير لكتابة هذا الموضوع وأنا أمام مشهد، كنت قد رأيته قبل سنوات، هنا، في هذا المكان، مشهد لا يبارح مخيلتي.. وبما أنني تطرقت إلى الحنين الذي يجرّ البعض إلى زمن لا يشبه هذا الزمن، كان لابد من الكتابة عن ذلك الإنسان الذي رأيته صدفة هنا، ذات يوم شتوي من شتاءات الكويت كما أشرت في بداية هذا الموضوع. لكني أضيف أنني حين رحت أتتبع خليفة الوقيان  في ذلك المساء الشتوي كنت أتبعه مشدوها بطقس يمارسه في صمت، حتى خلتني أنصت إلى صوته هامسا في مسامعي يردد أبياتًا كان قد كتبها قبل سنوات:

«أرضنا كانت وتبقى
                                        دوحة الحب الكبير
بحرنا قد كان رزقا
                                        وبه عشنا دهور
كيف نرضى في رُبانا
                                        هدم أعشاش الطيور؟».

          واليوم، وجدتها فرصة مناسبة للحديث معه عن سوق المباركية، وما يمثله بالنسبة إليه كشاعر وإنسان ينتمي في نشأته إلى أجواء قريبة من تلك التي كنت قد رأيته فيها قبل سنوات. وإذا كنت قد أنجزت الجزء الأول من استطلاع العدد بمشاهداتي كشاب ينتمي إلى جيل حديث لم يعاصر ماضي السوق وتحولاته، كان لابد من أن أفسح مجالا، وهو الأهم، لمعرفة ما يمثله سوق المباركية لمن عاصره حق المعاصرة.

          يقول الوقيان في بوح خاص لمجلة العربي: «تمثل منطقة سوق المباركية البقية الباقية من مدينة كانت لها نكهتها وهويتها، اضمحلت هذه الهوية، ولم يبق منها سوى شذرات قليلة». ويواصل حديثه في ما يربطه بهذا المكان: «كنت في الصغر أرتاد هذه المنطقة بحكم وجود دكان والدي فيها، ووجود بيت عمي أيضا بالقرب من الدكان، وكان عليّ أن أمر في منطقة المباركية وسوق الخضرة وسوق السلاح، حيث يوجد دكان لأحد أعمامي أيضا بالقرب من تلك المنطقة وما جاورها من أسواق متراصة مع بعضها. كان لهذه المنطقة نكهتها الخاصة ورائحتها الفريدة، ولعلي لا أكون مبالغا إذا قلت إنني لاأزال أشتمّ هذه الرائحة حين أمرُّ بالمكان، وبخاصة قرب سوق التمر. كان هناك زقاق ضيّق جدا تنبعث منه رائحة مميّزة، لعلها رائحة «الدهن العداني»، لا أدري، ولكنها رائحة محببة ولذيذة جدا، الآن اختفت، ولكن لايزال في المنطقة شيء قليل منها أشعر به حين أمر في هذه السكك».

أسرى الماضي

          وعن ارتباطه بالمكان القديم، وإذا ما كان السبب في زياراته الدائمة هو تفضيل الماضي على الحاضر، يقول أبوغسّان: «أنا لست ممن يتعلقون بالماضي كثيرًا، ولست ممن يؤمنون بأن الماضي أفضل من الحاضر، وأن الناس قديمًا كانوا جميعًا من الطيبين الأخيار، أو أن الناس في الوقت الحاضر هم من الأشرار، ولا أؤمن أبدا بأن المدينة كانت في الماضي أفضل مما هي عليه الآن، وأن حياتنا كانت بسيطة وبريئة وأنها الآن غير بريئة.. أبدا، هذا الأمر لا يعنيني كثيرا، ولا أتعلق به، ولا أريد أن نبقى أسرى للماضي. الأزمان السابقة كان فيها الكثير من الظلم، فيها الأشرار والمرابون والظَّلَمة، ليسوا جميعًا من الخيرين، وفي هذا الزمان هناك طيبون وأشرار كثر. الخير والشر لا يرتبطان بمكان أو زمان. وعملية تقديس الماضي والإعلاء من شأنه أكثر مما ينبغي عادة سيئة، ربما هي موجودة في كل مكان، ولكنها مُبالغ بها في الكويت، ربما لأننا انتقلنا بشكل مفاجئ إلى واقع جديد، بينما الآخرون انتقلوا بشكل متدرج، ولهذا نجد أن صلتهم بالماضي لم تُبّتّ بشكل مفاجئ، ولهذا هم لا يشعرون بالذنب كما نشعر».

تكفير عن ذنب

          ويبرر الوقيان أسباب عودة الكويتيين، الكبار منهم على وجه الخصوص، إلى مثل هذه الأماكن بعد قطيعة: «أعتقد أن الكويتيين كافة، كما قلت لك، يشعرون بقدر من الذنب، لأنهم قضوا على ملامح مدينتهم القديمة، وانتقلوا إلى مدينة جديدة، وهذه حالة ربما لم تحدث في مدن عربية أخرى. كان هناك توسع في المدن، كأن تنشأ على أطراف المدينة ضواح جديدة، ثم يبدأ الناس بالانتقال إليها ولكن يبقى قلب المدينة كما هو، أما ما حدث في الكويت، وبخاصة في المناطق السكنية التي أبيدت كاملة، فقد خرج الناس منها إلى مناطق جديدة، وبخروجهم هذا لم يحملوا معهم أشياءهم، حتى أن الكثير منهم ترك مقتنياته، ظنا منهم أن الحداثة تتطلب التخلص من كل ما يمتُّ للماضي بصلة، ثم استقروا في مناطق جديدة ذات نمط معماري مغاير للنمط الذي كانوا يعيشون فيه، وفرضت طبيعة تكوين هذه المناطق أن يبقى الناس في بيوتهم منعزلين، ليست هناك حارة يلتقون فيها، ليست هناك أماكن آمنة للسير. حين تخرج من بيتك مباشرة تجد الطريق مبلطًا تمر عليه السيارات، ولهذا السبب لا يستطيع الطفل أن يخرج من البيت للعب كما في السابق، ولا يستطيع كبير السن أن يخرج، فنشأت نتيجة هذا التغيير عادات جديدة، وحينذاك أحس الكويتيون أنهم فرطوا بأشياء كان ينبغي أن يحتفظوا بقدر منها، وهذا الإحساس ربما إحساس بالذنب دفعهم إلى العودة بشكل مُبالغ فيه إلى الماضي، وأصبح كل واحد يبحث في الأسواق وفي كل مكان عن أشياء قديمة ويجلبها إلى بيته، وبعضهم ربما يبني بيتًا حديثًا ويقيم إلى جانبه بيت شعر (خيمة من صوف الماعز) مثلا، حتى يشعر أنه في بيئة مغايرة للبيئة التي فُرضت عليه، وبعضهم يبني غرفة من الخرسانة ثم يسقفها بالـ«جندل»، وهو خشب من جذوع الشجر، أو ينتزع الشبابيك الحديثة ويضع شبابيك قديمة، وقد تكون مزيفة أحيانًا، حديد أو ألمنيوم مصبوغ بطريقة توحي بأنه خشب قديم، كل هذا نوع من التعويض عما فقده المواطن الكويتي حين انتقل، فجأة، إلى منطقة جديدة».

«بَر وتَن»

          أما في ما يخص طبيعة دكان والده في السوق فيقول: «كان دكانا لبيع المتفرقات، يسمونه في ذلك الوقت «بر وتن». كان الصبي يذهب إلى سوق واجف مثلا، يلتقي الباعة الذين يعرضون بضائعهم المختلفة في مزادات، يبتاع بعض السلع المتفرقة، تجد كل شيء، من الإبرة إلى الصاروخ كما نقول الآن.. ماكينة خياطة.. قطع ذهب.. كتاب قديم.. أو الـ«ترتر» الذي تستخدمه النساء في ثيابهن قديمًا، ومتفرقات أخرى لا يجمع بينها جامع، ولا تنتمي إلى فصيل معيَّن كأن تقول بقالة لبيع المواد الغذائية، أو قرطاسية لبيع الأدوات المكتبية. وهكذا كان الصبي يشتري بعض السلع من المزادات في السوق ويجلبها إلى الدكان».

مشروع عظيم

          وعن بداية القطيعة مع السوق والعودة إليه، يقول: «حين انتقلنا إلى المناطق الجديدة انقطعت صلتي بالدكان، وخاصة بعد ترك والدي لدكانه ومن ثم وفاته، لم يعد هناك مسوّغ للعودة إلى ذلك المكان، وبقيت منعزلا عنه، ولكن بعدما تقدّمت بي السّن، وبعد إحياء منطقة سوق المباركية، وهو مشروع عظيم بالمناسبة، وبعدما دبّت فيها الحياة من جديد، أصبحتُ أتردد عليها وأشعر بشيء من بقايا رائحة الماضي وملامحه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تكاد تكون هذه المنطقة هي المنطقة الوحيدة التي ترى فيها بعض الوجوه التي تنتمي إلى المكان، وتشعر بقيمته. أنا لا أحب الذهاب إلى المجمعات الحديثة ولا أعرفها في الحقيقة».

شاي مغاير

          ويستطرد د.خليفة ذاكرًا ما لا يجده في غير سوق المباركية: «أحيانًا أنا أذهب إلى بعض المقاهي في هذه المنطقة لكي أشرب الشاي الحقيقي. لدينا في البيت لا يستطيعون إتقان صناعة الشاي، وأستطيع أن أقول أيضًا في كل مكان لا أجد الشاي الصحيح الذي يستحق أن يُشرب إلا في المقاهي الموجودة في منطقة سوق المباركية. أذهب هناك أحيانا، لأشرب  «استكانتين» من الشاي بالأواني القديمة، لأنها تعطي طعمًا مغايرًا، وهذا نوع من إيهام النفس، وهذا ما نشعر به عندما نشرب الشاي بهذه الآنية القديمة، حيث يكون له طعم مغاير، وإن كان ذلك غير صحيح. ألتقي بعض الأصدقاء أحيانا، وأحيانا أجلس وحدي مستمتعا بشرب الشاي، ثم أترك المكان لأعود وأنا ممتلئ إلى حد ما بشيء يعيد إليَّ قدرًا من التوازن بين الإحساس بهوية المكان وبين العودة إلى مكان آخر أشعر بأنه بلا هوية».

          وعن تفضيله لسوق المباركية على أسواق أخرى تقدم السلع ذاتها، يقول: «إذا أردت أن أشتري سمكا مثلا، هناك، كما تعرف، سوقان للسمك، سوق شرق وهو الأكبر والأحسن، وسوق المباركية. أنا أذهب إلى سوق المباركية، لأنني لا أستطيع أن أشتري سمكًا من سوق شرق، وهذا ما يثير دهشة زوجتي أحيانا، لتؤكد لي أن سوق شرق أفضل، نعم هو أفضل، ولكن سوق السمك في المباركية محبب إلى نفسي، أشعر فيه بشيء مغاير، وأجدني نفسيا منجذبا إليه، وهذا ما يتعلق أيضا بالأسواق الأخرى في سوق المباركية.. ما كان يسمى بسوق السلاح قديما.. سوق البشوت والزّل، وكل هذه الأماكن لايزال لها أثر في النفس.

          وعن الترميمات التي تطول السوق بين حين وآخر، وإذا ما أثرَّت سلبًا في أصالة السوق يقول: «الترميم شيء، أو لنقل، شرٌّ.. لابد منه، ولكن أعتقد أن هناك مهنية عالية في إعادة السوق إلى ما يقترب من شكله القديم، وأعتقد أن المسئولين سعوا إلى حد كبير إلى المحافطة على أكبر قدر ممكن من طبيعة هذا المكان، من المؤكد أنهم لا يستطيعون إعادته كما كان، لأن المواد التي بُنيَ بواسطتها هذا السوق بدائية كالطين مثلا، لا تقاوم، والأسقف كانت من الـ«تشينكو» الذي يصدأ بسرعة، ولهذا تم إبدالها. وأعتقد أن السوق فقد جزءًا لابد من أن يفقده تبعا لتغير مواد البناء، أما في ما يتعلق بالشكل الخارجي والبناء العام فهو قريب من صورته الأصلية».

وجوه

          أما في ما يخص أهم الأشياء التي يفتقدها السوق اليوم في نظر الشاعر خليفة الوقيان: «فبالطبع السوق فقد، بالدرجة الاولى، أهله وناسه الأساسيين الذين كانوا يبيعون هناك. قديمًا، في منتصف سوق الخضار، على سبيل المثال، كانت هناك مجموعة من السيدات يبعن منتجاتهن الزراعية من الكزبر والشبنت والفجل وما إلى ذلك.. نساء مبرقعات جميلات لهن مكانهن المعروف. وكان هناك بعض الشعراء، الكبار في السن آنذاك، كشعراء النبط الذين كانوا يمرون في السوق، وأنا أعتقد أن الكثير من قصائد الغزل لديهم كُتبت تغزلا بمرتادي السوق من النساء والبائعات، وقد عاصرتُ آخر هؤلاء الشعراء، وكنت صغيرا آنذاك، ولكنني لن أذكر اسمه (يضحك). كان يسير في السوق وهو في كامل زينته، أنيقا يرتدي البشت، يقضي وقتا في السوق يتفرج على الناس من حوله. كنت أشاهد أيضا الرجال الكبار في السن، يجلسون يلعبون «الدامة» وأصحاب المحال والباعة كانوا من الكويتيين كذلك. بالتأكيد هؤلاء اختفوا الآن من السوق، وحل محلهم آخرون من جنسيات أخرى.

          ختاما، يقول الوقيان بأسف: «هناك بعض المحال التي تبيع سلعا لا تمت للسوق بصلة، كالمحال التي تُسمىّ «بو 100 فلس» التي تبدأ أسعار سلعها بمائة فلس، هؤلاء مع الأسف غزوا سوق المباركية، وبدأوا يدمرون هويته فقط لأنهم يدفعون إيجارًا أعلى. وبمجرد أن ينهار محل للخضار، نتيجة لعدم قدرة صاحبه على دفع الإيجار، نجد هناك من يحتله من أولئك الباعة الذين أفسدوا روح السوق بسلع ليس لها علاقة بسوق الخضار أو سوق المباركية، وكان ينبغي على الجهات المسئولة أن توقف هذا الزحف الذي سوف يقضي على هوية المكان في ما بعد.
----------------------------------------
* كاتب وروائي من الكويت.
* الصور الملونة في كل الموضوع من تصوير سعود السنعوسي.

 

 

سعود السنعوسي*   
  




صورة الغلاف





سوق المباركية





سوق المباركية.. ملتقى أجيال الكويت.. يربطهم بالماضي لأنه عاصر التحولات وظل على حاله مركزًا وجسرًا بين الماضي والمستقبل





مدخل سوق التمر





الأسواق التقليدية وإن تشابهت في العالم يظل لكل سوق خصوصية لا يشترك فيها مع آخر





الأسواق التقليدية وإن تشابهت في العالم يظل لكل سوق خصوصية لا يشترك فيها مع آخر





بعض التجار في السوق يستهويهم فتح أبوابهم في المساء وحتى منتصف الليل





لقطة قريبة من سوق الغربللي





مسجد سوق المباركية





الشاي على نار الفحم.. طقس أساسي في سوق المباركية





في السوق لا يفرق العمل بين عمر وآخر.. والرزق سعي





أحد المحال في سوق التمور





سوق الخضراوات جزء أساسي في السوق





كثير من المحال يحتفظ أصحابها على جدرانها بصور توثق لتاريخها وتاريخ أصحابها





مهن أخرى داخل السوق





السوق الداخلي.. نكهات وجنسيات مختلفة





في سوق المباركية تمثل خياطة البشت أهمية خاصة





ألوان من التمور والرطب





العاديات وقطع نادرة من أجهزة قديمة تعود وتؤكد الحنين لزمن مضى





حرف مختلفة داخل السوق





الكتب والمطبوعات القديمة جزء من روح المباركية





في السوق تجد كل شيء من الأقمشة إلى اللحوم





في السوق تجد كل شيء من الأقمشة إلى اللحوم





وجوه من سوق المباركية





وجوه من سوق المباركية





وجوه من سوق المباركية





خليفة الوقيان: تقديس الماضي ظاهرة مبالغ بها في الكويت





أبوغلام في سوق السمك





المطعم الشعبي من أهم ملامح المباركية وأكثرها شيوعًا