أثر الثقافة الشعبية في إبداع خيري شلبي

 أثر الثقافة الشعبية في إبداع خيري شلبي

خيري شلبي أديبٌ مسكونٌ بالروح الشعبية للشخصية المصرية، هذه الروح المتكئة على موروث باذخ من المرويات الشفهية والمكتوبة التي نجحت في مزج المتخيل بالواقعي وتشظية المسافة الفاصلة بين الأسطوري والمعيش وتحقيق الالتحام الداهش بين الضحك والبكاء، فجمعت ببراعة بين أفقي المستحيل والممكن، فشلبي - أو العم شلبي كما يطلق عليه مريدوه - يتمتع بحساسية رهيفة مكَّنته من حيازة الوعي بما تنطوي عليه هذه الحكايات من طاقة كامنة تتم استثارتها بشكل تلقائي عبر كل ممارسة تداولية للحكاية، وذلك نتيجة استناد هذه الحكايات إلى فلسفة مسبباتية يمكن تحديدها في كون هذا المحكي ممثلاً لقوة الدفع الرئيسة، التي مكنت الشخصية المصرية من المحافظة على معالمها المميزة وقسماتها الخاصة، والصمود في وجه العديد من التيارات العاتية التي حاولت تهجينها وتدجينها ومسخ ملامحها وتشويهها، ليغدو الحكي بالنسبة للمصري - بطبقاته المتعددة - حيلةً يتوسل بها لحماية روحه من لفحة جمار المعيش المضطرمة، وليصير السرد هو البديل السحري للهزيمة أمام الواقع بسلطته القاهرة وسياقاته القاسية، ولتصبح الرواية بوجهيها الشفهي والمكتوب هي الملاذ الذي تلجأ إليه الذات بغية النجاة من حمأة العجز عن المواجهة والتقهقر أمام شراسة العالم.

ينتمي خيري شلبي إلى سلالة الشخصية المصرية الشعبية بحجمها الحقيقي ومذاقها الفعلي، وهو ما يتضح بالعروج إلى سيرته الخاصة التي تكشف أنه عمل بائعًا جائلاً في صباه، واتخذ المقابر مسكنًا في شبابه، وكتب أعمالاً خالدة على مدار عمره المديد، مثل «السنيورة، والأوباش، والشطار، والوتد، والعراوي، وفرعان من الصبار، وموال البيات والنوم، وثلاثية الأمالي (أولنا ولد - وثانينا الكومي - وثالثنا الورق)، وبغلة العرش، ومنامات عم أحمد السمَّاك، وموت عباءة، وبطن البقرة، وصهاريج اللؤلؤ، ونعناع الجناين، وصالح هيصة، ونسف الأدمغة، وزهرة الخشخاش، ووكالة عطية، وصحراء المماليك والأسطاسية».

يستدعي شلبي هذه الروح الشعبية بتجلياتها المتعددة وروافدها الثرية في عمله الروائي القصير والرائق «لحس العتب»، وهي الرواية التي صدرت طبعتها الأولى عام 1991م ليقدِّم لنا نصًا يمكن التعامل معه بوصفه وريثًا شرعيًا لسير علي الزيبق المصري، وبني هلال، والزير سالم، وعنترة بن شداد، والملك سيف بن ذي يزن، والأميرة ذات الهمة، والسلطان الظاهر بيبرس، والأمير حمزة البهلوان، وغيرها من السير الشعبية ذات المنشأ المصري أو التي استقبلتها الثقافة الشعبية المصرية بالترحاب، فبثت فيها من روحها وأثرتها بجمالياتها وغزلت فيها بلاغتها، هذه السير التي صاغت رؤيتها للشخصية المصرية بامتداداتها القومية والدينية والسياسية عبر ممارسات إبداعية جاوزت المباشرة واغترفت من الأبجدية الجمالية للسرد دوالها الخاصة ورموزها المتألقة التي حفظت لهذه النصوص ألقها حتى الآن.

المنضدة.. أرابيسك صناعة الأسطورة

يبدو خيري شلبي قادرًا على نسج خيوط الأسطورة حول مسروده وإفعامه بمزيد من الجرعات التغريبية التي تزيد من بلاغة النص ومتعته، وجعله أكثر التحامًا بلحمة الوعي الشعبي المغرق في عالم الغيبيات وملابساته التهويمية الثرية، يرفد شلبي نصه بهذا الوهج الأسطوري، دون أن نستشعر عبوسة النص في وجه مبدعنا واستعصاءه عليه كممارسة يلجأ إليها النص، ليعلن تمرده على محاولة المبدع تشويه ملامحه، وهو ما لم يفعله نص «لحس العتب» الذي فتح مغاليقه وفك منعقداته أمام أحد ساحري البيان السردي المعاصرين ثقةً في قدراته الباذخة ورغبةً في الاغتناء بما سيضفيه عليه هذا المبدع من جماليات خاصة.

إن التغريب ممارسة يلجأ إليها المبدع لتحقيق جملة من الأهداف «ويقصد من التغريب النظر إلى الأشياء برؤية جديدة»، ويمكننا أن نختبر كفاءة هذه الممارسة التقنية على مستوى نص «لحس العتب» بمقاربة آلية تعامل المبدع مع أحد العناصر الرئيسة في الرواية، إنها المنضدة، أو كما يطلق عليها السارد - إمعانًا في التصريح بالانتماء إلى الثقافة المصرية الشعبية وشفرتها العامية الخاصة - الترابيزة، وتحضر المنضدة داخل النص منذ افتتاحيته، مما يطرح مؤشرًا أوليًا حول القيمة الوظيفية لهذا العنصر الحكائي ودوره الحيوي الذي ينهض به داخل البنية السردية. يقول السارد:

«ليست هذه الترابيزة العجيبة هي كل ما تبقى من آثار العز والنغنغة التي كانت تتمتع بهما ديارنا ذات يوم بعيد، فهناك صيت الزعالكة نفسه، وهو وحده يكفي لجلب الاحترام عند كل من يسمعه، وهناك أعمامي الكثار الذين تكاد تتشكّل منهم ومن أبنائهم وأبناء أبنائهم وبناتهم بلدة كبيرة جدًا تسمى بالزعالكة لا يسكنها مخلوق واحد لا ينتهي اسمه بزعلوك، كما أنه ليس في «العب كله» من لم يحلم بالزواج من بنات الزعالكة أو يزوِّج بناته من شبان الزعالكة، وهناك أبي نفسه الحاج عبد الودود زعلوك الذي عشق العلم فتعلّم حتى شهادة عالمية الأزهر الشريف، ثم خلع عمامة العلم واشتغل بالفلاحة وتجارة الحبوب، نفس مهنة أبيه التي عيشته كالبرنس وكونت له ثروة هائلة تقاسمتها قبائل من أولاده، غير أن أبي لم يكن في براعة جدي ولا حصافته ونصاحته، ولا قدرته على التحويش والادخار، إلا أنه يرمي الذنب كله على اتضاع الزمن ونذالة الأيام وكثرة العيال، فكل ذلك أتى على كيس نقوده، فصار مخزن الحبوب يتناقص حتى بات لا يحتوي على قوتنا الضروري، فأصبحنا نشتري القمح والذرة والشعير من تجار كانوا صبيانًا عند أبي ذات يوم.. معظم الأشياء الثمينة التي ورثها أبي عن جدي قد فرطنا فيها بشكل أو بآخر، لسبب أو لآخر، مع أن كل شيء فرطنا فيه لم نفرط فيه بسهولة، لكن الأشياء تسربت في النهاية، ولم يبق من معالم تاريخنا أثر حي إلا هذه الترابيزة العجيبة، ولهذا رفض أبي أن يفرِّط فيها بأي ثمن..».

إن المنضدة تشكل على المستوى الحكائي النقطة المركزية التي تشد إليها الخيوط السردية كافة، فالبطل الطفل الذي يسرد الحكاية من منظور منفتح بعد أن صار رجلاً واتخذ من الحكي سبيلاً لقراءة ماضيه ووضعه موضع المُساءلة في ضوء الخبرات المعرفية والمعلوماتية، التي اكتسبها بفضل التطور التاريخي للشخصية وتنامي وعيها الإدراكي، هذا الوعي القادر على حسم لحظات التشكك بحس يقيني صارم، يظل هذا المنظور مهيمنًا على المسرود الذي يدور حول حكاية هذا الصبي الصغير وعائلته الكبيرة التي كانت تحوز مكانة مميزة على المستويين الاجتماعي والاقتصادي قبل أن تتعرض لأزمات متتالية حولتها إلى عائلة معدومة لا يبقى من تاريخها الباذخ سوى بعض دلائله، وأهمها هذه المنضدة العجيبة ذات الأوصاف بالغة الدقة والإغراب، فالمنضدة تظل حاضرةً بقوة داخل السرد في أثناء رحلة البطل وانتقاله من حالة المرض المفاجئ إلى الشفاء المفاجئ كذلك.

شخصنة المنضدة ورمزيتها

ويستند الحضور المركزي للمنضدة إلى معيارين كمي وكيفي؛ ويتحدّد المعيار الأول في الظهور المتكرر للمنضدة أمام عين المتلقي في أثناء ممارسة الأخير دوره القرائي الاستكشافي، فهذا المعيار يتعلّق «بلحظات الظهور.. التي تشكِّل دائمًا لحظة قوية داخل حركة الفعل السردي»، فالنصوص كلها ترسِّخ لتوافر حضور شخصية المنضدة بشكل دائم في الوعي القريب المُحِيل إلى وعي أكثر عُمقًا للمتلقي الذي يلقي ذاته في مواجهة مُستمرة مع المُكوِّن الحكائي.

أما المعيار الثاني فهو معيار كيفي، ويقصد به الارتباط بين بناء النص وتطوره وحضور المنضدة، فإذا كان النصُ يؤسّس حضورَه الناجز عبر تتابع عدد من المتواليات الحكائية التي تنبني بدورها عبر تراكب عدة أفعال تختص بكل متوالية وتندمج عبرها في بنية النص الكلي، فمقاربتنا للنص تكشف التعالق الحيوي بين هذه الأفعال وحضور المنضدة المُستقطِبة لحركة السرد داخل الحكايات، فالتاريخ الحافل للعائلة وماضيها الثري، ثم حاضرها المأساوي، ومرض الصبي، ثم شفاؤه، وحضوره داخل القرية، ثم انتقاله للمدينة، وعودته للقرية مرة أخرى، تظل جميعها أفعالاً تدخل في علاقة مباشرة أو ضمنية مع التوافر النصي للمنضدة - التي تسند إليها الحركات السردية المفصلية الممثلة في الأفعال وما تحيل إليه من أحداث - داخل الرواية.

إن هذا الحضور القوي للمنضدة على المستويين الكمي والكيفي يقدِّم أسانيد تعاملنا النقدي معها بوصفها إحدى الشخصيات الحكائية، وتعد هذه الشخصنة أول الإجراءات التغريبية التي تنقل عبرها الذاتُ المبدعة المتلقي من تخوم النص الواقعي إلى أتون النص البرزخي، الذي يمتزج فيه الأفقان المتخيل والمعيش، «فالشخصية هي أحد أهم مُكونين يقوم عليهما السردُ، مع الوضع في الاعتبار أن الأحداث هي المُكوّن الثاني الذي لا يمكن أن يؤدي سردًا إلا من خلال شخصية تقوم به»، فكأن الشخصية داخل النص السردي «هي كل شيء فيه، بحيث لا يمكن أن نتصور رواية دون طغيان شخصية مثيرة يقحمها الروائي فيها، إذ لا يضطرم الصراع العنيف إلا بوجود شخصية، أو شخصيات تتصارع فيما بينها، داخل العمل السردي»، لا يمكننا النظر إلى المنضدة بعيدًا عن هذه المواصفات التنظيرية. وباستقبالنا هذا النمط التشخيصي على المستوى الإبداعي بممارسة تشخيصية موازية على مستوى القراءة النقدية، فإنه يمكننا تحديد هوية هذه الشخصية العجائبية من خلال رصد أفعالها وتلقف ما يجود به السارد من معلومات حولها، فإذا كانت الشخصية هي التي تدفع البنية السردية إلى التنامي والتطور من خلال التداخل بين أفعالها وأفعال الشخصيات الأخرى الحاضرة ضمن شبكة العلاقات النصية - فإن تحديد هوية الشخصية يرتهن برصد ما تقوم به من أفعال، فضلاً عن المعلومات - الخاصة بالشخصية - التي يقدّمها السارد، حيث «تنسج جدائل الفعل والمعلومات والصفات الشخصية مع بعضها لتكوّن خيط الشخصية»، وهو ما يرشح للتعامل مع الشخصية بوصفها «دليلاً له وجهان، أحدهما دال والآخر مدلول.. وتكون الشخصية بمثابة دال من حيث إنها تتّخذ عدة أسماء أو صفات تلخّص هويتها، أما الشخصية كمدلول فهي مجموع ما يُقال عنها بواسطة جمل متفرقة في النص أو بواسطة تصريحاتها وأقوالها وسلوكها». وهنا تبدأ ملامح هوية الشخصية في التجلي، وهو ما يتضح في النص التالي: «إن هذه الترابيزة قد احتلتْ ركنها هذا من هذه الخزنة، قد وضعت فوقها تلالٌ من أشياء تنوء بحملها الجبالُ وتضيق باحتوائها دارٌ بأكملها، أكياس من قطن تنجيد وسخ مخلوط بالتراب والحصى وفتات الخرق، والخيوط البالية كانت في الأصل مراتب وألحفة ووسائد.. صفائح كبيرة لتخزين الملوخية الناشفة والحلبة الحصى وزيت وسكر التموين، تضاف إليها وفوقها صفائح أخرى لتخزين كعك العيد.. صندوق خشبي من صناديق الصابون النابلسي يمتلئ بأشياء لا حصر لها من متروكات ومهملات، صواميل، مسامير، أغطية كازوزة.. ركام لا حصر له من أشياء قديمة بالية لا لزوم لها على الإطلاق، ومع ذلك لا أحد يعرف لماذا نحتفظ بها؟... الذي أنا متأكد منه أن أي شيء يزحف تحت هذه الترابيزة أو يسقط سهوًا، فإنه يكون قد وُري تحتها إلى الأبد، ولن تستطيع قوةٌ في الأرض أن تكتشف المكانَ الذي سقط فيه هذا الشيءُ أو ذاك، ومع ذلك فإنه لا يحلو لنا عد القروش أو فحص بيض إلا على الجزء المتبقي من فراغ الترابيزة، وقد تعوّد الواحدُ منا أن يمسك الشيء بأعصاب متوترة، فما أن يرتبك أدنى ارتباك حتى يسقط الشيءُ من بين يديه، فيندفع الواحدُ منا في الحال منقضًا عليه قبل زحفه تحت الترابيزة، ولكن عبثًا، إنه لابد أن يكون قد اختفى في لمح البصر، إذا كان قرشًا قد فر ليستقر في منعطف مجهول، وإن كان فردة حلق فإن الأرض تنشق وتبلعها، وإن كان فردة حمام أو دجاجة فإن أيدي الجن نفسه لن تفلح في الإمساك بها، بل لن تعرف في أي ركن تختبئ، إلا أن تخرج هي بمزاجها بعد انتهاء المطاردة، ربما تعطلت عن الخروج نهائيًا، وإن حاول أحدٌ أن يقل عقله وينحني غاطسًا تحت الترابيزة في محاولة يائسة للبحث، فإنه سيشعر من أول نظرة أن الأمر مستحيلٌ.. أي رجل من عائلتنا أو أي زائر يضطر للدخول إلى هذه الخزنة يصيح أبي من خلفه محذرًا إياه في جدية بالغة: إياك والاقتراب من الترابيزة! وإلا فنحن غير مسئولين عنك».

توظيف المعجم الشعبي

نلاحظ بداية هذا التدفق اللغوي الذي يقوم بتهجين الفصحى بالعامية أو اللغة الشعبية بنظيرتها الرسمية ولطمها ببراعة حكّاء من طراز خاص «يعرف باقتدار بليغ كيف يوظف المعجم الشعبي في بث روح المكان والزمان في مناخ أعماله وعلى ناقده أن يكون مثل عالم الحفريات الضليع في الآثار كي يعرف عمر الصخور اللغوية ويقدر المرحلة التي تنتمي إليها»، وفضلاً عن هذه البراعة المزجية، وفضلاً عن دقة الرصد والعناية المدهشة بالتفاصيل التي لا يدرك حجم واقعيتها إلا من عايش أجواء القرية واندمج في مقتضيات حياة الفلاح المصري الحقيقي، فضلاً عن هذا كله، فإن شلبي هنا ينزع إلى العزف على محوري الثابت والمتحول لشخصية الترابيزة، مما ينقل المتلقي من إطار الشكل الثابت المتعارف عليه، إلى تخوم السياق العجائبي المغازل لمرتكزاته الغيبية، لتغدو الترابيزة كائنًا ينفصل عن خبرات المتلقي الذهنية، ويرتمي في أحضان الداهش، فما بين استخدام أسفل المنضدة بوصفه فضاءً للتخزين وتحول هذا المخزن إلى عالم مفعم بالحس الأسطوري القادر على ابتلاع الأشياء وإخراجها عبر إرادة خفية لا يمكن فهمها أو تقديم تفسير لها تتشكل ملامح المنضدة العجيبة وتتحدد ماهيتها الأسطورية، وما بين الحدث الواقعي والآخر العجائبي تتشكل البنية الروائية لنص «لحس العتب».

إن الانتقال بالمنضدة من صورتها الاعتيادية إلى صورتها المؤطرة بحدود الغرائبي، فضلاً عن دوره في التوغل في تضاعيف الموروث الشعبي يسهم في إدماج المتلقي في المتن السردي وتوثيق علاقته بالمسرود؛ وذلك من خلال الانتقال بهذا المسرود من وضعه التقليدي المألوف إلى وضع جديد يجمع بين العالمين الواقعي والخيالي، فإذا ما قمنا بعملية مقارنة بين السمات المرجعية للمنضدة ونظيرتها الحاضرة في نص شلبي، سنجد أن منضدة شلبي تثور على السمة الثابتة والجامدة لنظيرتها المرجعية، فهي هنا تُظهر وتُخفي، تجمع وتفرّق، تحوز وتدمر، تعي وتدرك، تخطط وتنفذ، إننا أمام شخصية لها كينونتها الخاصة التي تتكئ على فلسفة بالغة العمق لا يدركها البشر من حولها، لقصورهم المعرفي الناتج عن طبيعتهم البشرية المحدودة، هذا القصور الذي نلمحه في لهجة السارد المؤطرة بالدهشة والتعجب من قدرات هذه المنضدة، وعجزه عن إيجاد تفسير لهذه القدرات، فهذا العجيب هو الدليل الناجع على حدود المفارقة بين ما يستوعبه الإنسان بقدراته المحدودة وما تستوعبه الأسطورة بتجلياتها المتعددة وجمالياتها الثائرة، فهذا التباين بين الصورتين المرجعية والنصية للمنضدة يدعم هدف السارد في استقطاب المتلقي وحفزه على متابعة مسروده بمزيد من الانتباه وهو في هذا يستند إلى أن مألوفية الشيء المُستقبَل بالنسبة للمتلقي على المستوى المرجعي تقلّل من فرضية تقبله لأي انزياح في آلية التعامل معه، فمد خطوط التغريب في النص يساعد السارد على تهيئة أفق المتلقي لاستقبال سلوك مخالف برحابة تقبلية لا تتأتى إلا عبر فعل التهيئة السابق.

عبق الأسطورة

كذلك يؤدي تأطير المنضدة بعبق الأسطورة دورًا جماليًا عبر ما يسبغه على النص من بعد شعري نابع من قدرته على استثارة الحس التأويلي لدى المتلقي وإغوائه بممارسة دوره في فك شفرات الدلالات الرمزية المنطرحة عبر حضور الكائن المغرب داخل النص «والقارئ أمام هذا النص ليس مستهلكًا وإنما هو مُنتج له، والقراءة فيه هي إعادة كتابة له... فالقارئ هنا لا يقرأ وإنما يفسِّر ويكتب، لأن النص ليس بنية من الدلالات ولكنه مجرَّة من الإشارات»، وتكتسب القراءة التأويلية مشروعيتها بمعاونة المؤشرات التي يقدّمها النص، والتي تغري بالاستمرار في تبنيها منهجًا في القراءة، فشعرية المنضدة هنا تتخلق بإيحاءاتها ومأزقيتها وتوزعها بين الرمزية والواقعية، فالمنضدة، في أثناء هذا التخلق، متفلتة من المرجعية الواقعية.

فإذا كانت طبيعة العائلة التي انتقلت من مرحلة الارتقاء إلى مرحلة التقهقر تأخذ بيد المتلقي لإقامة ترابط ثنائي بينها وبين العائلة العربية الكبيرة في حضورها الفعلي الممزق والمشتت، فإن الترابيزة هنا تبدو هي المعادل للوطن في صورته اليوتوبية، الوطن الحاضر في وعي الشخصيات بوصفه المساحة القادرة على احتواء أحلامهم وتحقيق أمنياتهم والاحتماء بصلابتها أمام قابلات الأيام بمصائبها وتياراتها العاتية، ويحقق هذا الربط بين المنضدة والوطن أعلى درجات فداحته وأشدها فجاعة في المشهد الأخير الذي تظهر فيه المنضدة، إنه مشهد بيع المنضدة وخروجها الدرامي من منزل البطل، هذا البيع الذي يمكن بسهولة ربطه بسياقات واقعية تحيط بنا وتجاوز فضاء الزمان والمكان للرواية لتنفتح على أفضية ماضية وحاضرة وربما قادمة.

«.. فرفعها الرجالُ ومضوا، فإذا هي تبدو من باطنها الداخلي جديدةً ناصعةً رغم السوس في الأركان، كاد أبي يصرخ صائحًا أن اتركوها لكنّه حوَّل وجهَه عنها، وحين اختفى بها الرجالُ، وضع يديه على وجهه، وانفجر في بكاءٍ شديدٍ حارق، وكانتْ هذه أول مرة أرى فيها أبي يبكي كالنساء، فانزويتُ مع أمي وإخوتي في ركن قصي ورُحنا نبكي لبكائه، حتى مطلع الفجر..».

إن أسطورة المنضدة تحتفظ بوهجها حتى في لحظات انفلاتها من ثنايا النص، وذلك عندما تتعالق نهايتها السردية بمشهد بالغ المأساوية يزيد من إحكام قبضة العجائبي على المسرود ومضاعفة استشعار المتلقي بتغريبة المنضدة التي اضطر والد السارد إلى منحها لـ «سيد جودة البنَّاء» في مقابل قيامه ببناء سقف البيت وجداره المتهدمين، فتتبعنا لمشهد رحيل المنضدة العجيبة من بيت السارد وأهله يكشف لنا بجلاء أننا إزاء حدث جلل تدرك العائلة فداحة الخسارة التي ستتعرض لها بمغادرة هذا الكائن الأسطوري المكان، وهو ما يزيد من دهشة المتلقي، لتظل مغادرة المنضدة للبيت وانتقالها إلى خارج النص إمعانًا في بث روافد الأسطورة في النص.

إن خيري شلبي «فنان ولد عجوز داهية، تشرّب عصارة الثقافة الشعبية وقام بتخميرها وإعادة تعتيقها حتى لتصبح كتابته - في كل سطر منها - دليلاً فائقًا على أن نسغ الحياة ونكهة الأرض وتغضنات الوجه هي ملامح الروح كما تتجلى في الكتابة»، إنه أسطى متمثلين: الروح الشعبية المصرية ومعجمها العبقري صناعة الأسطورة القادر على تعشيق فسيفسات الغيبي بالعجائبي بالواقعي بمهارة صانع خبير ودقة معلم عجوز ليخرج لنا في النهاية تحفة سردية مصنوعة من خامات مصرية خالصة وممهورة بعبارة موجزة ودالة وهي «صنعت في ورشة العم خيري شلبي».

السخرية.. والضحك في مواجهة الموت

علينا ألا نتعامل مع السخرية بوصفها أداة لبث روح الدعابة داخل النص السردي، فهذا لا يعدو أن يكون أحد وجوهها المتعددة، فالسخرية التي تعد أحد أبرز معالم الشخصية في المجتمعات المغلوبة على أمرها أو التي تقع في مواجهة العديد من الصعاب كحال المجتمع المصري، هي الآلية الفارهة التي يلجأ إليها الطرفُ الأضعف في إطار ثنائية القاهر والمقهور. إن القهر المادي والمعنوي اللذين تتعرض لهما الذات يضعها بإزاء اختيارين؛ الأول الاستسلام لهذا القاهر أو مقاومته، ولأن المقاومة المادية تغدو في كثير من الأحيان خطوة مؤجلة تصبح المواجهة المعنوية هي القادرة على تحقيق التكافؤ بين الطرفين، وتتمثل المواجهة المعنوية هنا في منح الذات نفسها أحاسيس الانتصار على الآخر من خلال تأسيس مباراة ذهنية تعادل المباراة الواقعية التي تدرك أن الغلبة فيها ستكون للطرف الأقوى ماديًا، ولأن المباراة ذهنية فأدواتها تختلف وقوانينها تتباين، وهنا تتبدى البراعة الشعبية في توظيف عنصر الفكاهة الذي تشكل السخرية أحد عناصره المائزة، فالسخرية من الآخر والضحك منه تقدم الطمأنينة المعنوية للذات التي تشعر بأنها الأقوى، هذه القوة التي خولت لها التفوق المعنوي ممثلاً في القدرة على السخرية منه.

«عندما التحقتُ بمدرسة البلد لم يمض عامان حتى أصابني مرضٌ غريب حار في فهمه حلاقُ صحة البلد، لكنه سلَّمنا بعض أقراص صغيرة صفراء تسمى الكينين، وأوصى بأن آخذ قرصًا بعد الأكل ثلاث مرات يوميًا، فما فعلت هذه الأقراص شيئًا سوى أنها صبغت بياض عيني بلون الاصفرار الكابي، وهدّلت كل أطرافي، فصرتُ أقضي النهار كله جالسًا القرفصاء فوق الكنبة العتيقة في المندرة، آكل أطباق الأرز باللبن وأشرب الليمون، حتى كرهتُ طعم الحلاوة فانقلبت في حلقي إلى مرارة دائمة، وما هي إلا أيام قليلة حتى لحق بي أخي خالد، فانضم إلى جواري على الكنبة مصفر العينين والوجه، بارزة عروق رقبته، مكثنا على ذلك طويلاً، حتى بات منظرنا مألوفًا كأنه جزء من هذه الكنبة، وصار ضيوف أبي يسموننا «المتهمين»، إشارة إلى جلستنا القرفصاء معاً لا نفعل شيئًا ولا نتكلم ولا نبتسم ولا نبكي، كأننا في انتظار حكم سيصدر علينا بعد قليل».

يبدو النص مفعمًا بالحس الفكاهي الذي هو «استجابة معقدة لا يمكن اختزال مسبباتها بسهولة لتكون سمة واحدة أو مجموعة صغيرة من السمات» الناتجة، عن الحالة الانفراجية التي تطرح نفسها على النص كفعل ختامي لحالة التوتر الدرامي الناتجة عن الوضع المأساوي المهيمن على حضور البطل، فالفكاهة تتولد من «حالة التوتر في الموقف الهزلي التي عادة تتصاعد حتى تنفرج فجأة عن طريق الانفجار، مصحوبة بالضحك بصفة عامة»، فالبطل الطفل الراغب في الاستمتاع بطفولته يجد نفسه في مواجهة صراع مع السياق الواقعي الرافض لحضوره والمتعمد قهره عبر ممارسة قدرية تتمثل في المرض غير المعلوم الأسباب الذي أصابه، هذا الصراع الذي يسهم في «تكوُّن الموقف الدرامي الناضج الذي يمثل أعلى درجات الارتفاع البياني في خطابنا القصصي العربي»، ويتعقّد الموقف الدرامي بانضمام طرف آخر يتمثل في الأخ الأصغر للبطل لهذه اللوحة السوداوية التي تعضد الطابع المأساوي المسيطر على أقدار العائلة كلها، وبقدر ما يرتفع المؤشر الدرامي الناتج عن حالة التوتر الاستقبالي بالنسبة للمتلقي لتبعات هذه الحالة بقدر ما يتضاعف الحسُّ الفكاهي بتحول هذه الحالة المأساوية إلى حالة فكاهية عبر عنصر السخرية الذي يخلط الملهاة بالمأساة بما يستدعي مفهوم الفكاهة، الذي هو «تلك الصفة في العمل أو في الكلام أو في الموقف أو في الكتابة التي تثير الضحك لدى النظَّارة»، فصورة البطل الجالس بجوار أخيه، غير القادر على الكلام أو الحركة مكتفيًا بالأكل والتأمل، تدفع الجميع إلى الضحك، ولكن الضحك هنا لا يتم بغية النيل العاطفي منهما وإنما بغية الدعم المعنوي لهما، وذلك من خلال قهر المسبب الرئيس في هذه المأساة وهو المرض، بتحويله إلى موضع للتأمل والانتقاد اللاذع عبر شفرة غير مباشرة تنتقم منه وتقهره من خلال تحقيق الاعتلاء النفسي عليه، فالضيوف عندما يسخرون من هذا المنظر إنما يصدرون هذه الحالة الانفراجية إلى البطل الذي يكتشف هشاشة هذا الكائن المخيف - الموت - وإمكانية مواجهته عبر سلاح السخرية الناجع، هذا الانكشاف الذي يولّد حالة انفراجية جديدة تعيد الإيقاع الدرامي إلى استقراره، وتمنح البطل درجة النجاح الكاملة ؛ فالفكاهة تمتاح هنا من حالة التوتر التي تسبق اللحظة الانفراجية؛ حيث إنه «قد يساعدنا استغراق سيكولوجي معين مع شيء ما في توليد التوتر الذي ينفرج بعد ذلك من خلال إحدى النكات»، فحالة الضحك التي يستقبل بها الضيوف منظر الطفلين تقدِّم مؤشرات لإمكانية التعامل معها من زاويتين متباينتين؛ الأولى اعتبار أن الضحك هو نتاج مباشر لمرض الطفلين؛ ومن ثم يغدو الضحك هنا فعلاً عقابيًا يتم عبره الانتقام المعنوي من الطفلين البريئين بالسخرية منهما، وهو أمر لا يتسق مع الطبيعة الإنسانية بصفة عامة، والمصرية بصفة خاصة، أما الزاوية الثانية وهي الزاوية الأكثر عمقًا من وجهة نظرنا فإنها تنظر إلى الطرفة التي ألقاها الضيوف بوصفها حيلةً بديلة يلجأ إليها الوعي الشعبي للوصول إلى هدفه، وهو ما يتسق مع تعريف الطرفة بوصفها «القول البليغ المثير للانتباه الذي يتميز بالجدة والطرافة، وإظهار البراعة في التفكير والقدرة على تسلية القارئ أو السامع»، فالطرفة هي البديل الإستراتيجي الذي يستعين به السياق الجمعي عندما يتبدّى له عجز وسائله التقليدية عن تحقيق غايته أو عندما يدرك أن فاعلية مقاومته لا يمكن أن تتمدد لتحقق له مآربه، بما يجعل الطرفة إحدى هذه الوسائل، ومن ثم تصير الطرفة وفق هذه القراءة التحليلية إحدى تنويعات الممارسة المقاومتية للثقافة الشعبية، فالمقاومة التي تتسلح بها ذات البطل وهي تصارع الموت الموشك ترتبط بحضور عنصر الفكاهة الذي يكتسب كينونته بدوره من اتساقه وتناغمه مع عنصر مقاومة الموت، هذا الاتساق الذي ينتقل بعنصر الفكاهة من دوره الاستتباعي؛ بوصفه إحدى استجابات فعل المرض، إلى دوره الاستبدالي؛ باعتباره فعلاً بديلاً للهزيمة أمام سلطان الموت.

المؤرخ الشعبي للمهمشين

ويعضد من اعتمادنا هذه الرؤية التفسيرية نهاية الرواية المؤطرة بهذه الروح الساخرة عبر ممارسة ساخرة.

«وذات يوم كنتُ جالسًا على هذه المصطبة مع شوشة ابن عمي.. وإذ بامرأة عجوز تمر حاملة سفطًا على رأسها.. حدقت المرأة في وجهي ومصمصت شفتيها في أسف وقالت: يا حبة عيني الواد ده عيان بالطحال.. العارف هو الله لكن طحال هذا الولد منتفخ منذ وقت طويل، يكاد والعياذ بالله ينفجر، فبكت أمي على الفور قائلة: دخنا بيه على الحكما، قالت الغجرية في ثقة مذهلة: شفاؤه على الله وعليّ،.. قالت المرأة: شوفي يا بنت أخوي، تجيبي قزازة خل وتجيبي حتة خميرة، تحطي الخميرة في فنجال مليان خل، وتحطي الفنجال بالخل والخميرة فوق سطح الدار يسمع التلات أدنات: المغرب والعشا والفجر، وتخلي المحروس ده يشرب فنجال الخل بالخميرة على ريق النوم الصبح، تلات تيام ورا بعض أول كل شهر عربي، لمدة تلات شهور والباقي على الله، وفي الشهر التالت حافوت عليكي عشان آخد الحلاوة.. ناولتني أمي الفنجال المرطب بالندى وقطعة حلوى، ثم قسرتني على تجرعه..في اليوم الثالث من الشهر الأول شربت الفنجال وحدي بغير مدافعة، وفي نهاية الشهر كانت بطني قد هبطت قليلاً وزال عنها الانتفاخ، في اليوم الأول من الشهر الثاني كنت أنا الذي يملأ الفنجال ويضعه فوق السطح، وأقوم مبكرًا لأدلقه في جوفي.. وفي نهاية الشهر الثاني كنت قد تمكّنت من الذهاب إلى المدرسة وحدي وقد زال انتفاخ بطني تمامًا، وفي الشهر الثالث كانت أمي تبحث عني فتجدني ألعب الكرة الشراب في الجرن كالعفريت».

إن انتصار الخبرة الشعبية الممثلة في الوصفة الشعبية الجامعة بين الفطرة والطبيعة والدين على الحكمة المدنية الممثلة في علم الأطباء يظل دليلاً ناجعًا على مهارة الشخصية المصرية في مراوغة المرض ومهادنة الاستلاب والفقد وقهر الموت، وعلى قدرة خيري شلبي على تمثل الروح الشعبية المصرية مما رشحه لأن يكون المؤرخ الشعبي لطبقة المهمشين في مصر من بين أدباء الرؤية الستينية، التي نؤيد استبدالها بمصطلح «جيل الستينيات»، وذلك باعتبار أن الستينية هي في حقيقتها حالة أو بالأحرى رؤية تشبه ملكة النحل التي تجذب إليها الكثيرين من أبناء الخلية, محاولين اللحاق بها والفوز بالاقتران بها، والحقيقة أن بلاغة المتعة تتحقق بهذا الوصل المعنوي الذي قد لا يترجم بوصل مادي سوى لفرد واحد من هؤلاء الكثر، فالستينية رؤية إبداعية استقطبت أجيالا أسبق وألحق من عقد الستينيات بمفهومه التاريخي على مستوى البزوغ الإبداعي، وقد تحقق هذا الاستقطاب بفضل ما جمع أصحابها من التدرع بالغضب الناتج عن انكسار الحلم القومي، هذا الانكسار الذي دفع العديد من أبناء هذه الرؤية إلى العودة الفنية إلى منابعهم الأولى؛ القرية، والحارة، والزقاق، ليتخذوا من هذه المنابع الأصيلة أفضية يجوبون فيها بعقولهم، ويرسمونها بأقلامهم، ويكتشفونها بممارسات تأملية تتغيا البحث عن أسباب الهزيمة الفاجعة عبر إعادة قراءة الماضي والحاضر واكتشاف عيوبه التي أفضت إلى هذه النتيجة المأساوية، ومن هؤلاء خيري شلبي صاحب البورتريه المائز للشخصية المصرية، الباكية والضاحكة، الجادة والساخرة، المهادنة والمنتفضة، المستسلمة والثائرة.
----------------------------------------
* كاتب من مصر.

 

علاء عبدالمنعم إبراهيم*