الرواية التي كتبها عبدالناصر وأكملها آخرون

  الرواية التي كتبها عبدالناصر وأكملها آخرون
        

  • كان موقف نجيب محفوظ معقدًا فهو ليس مغامرًا للدرجة التي يجاهر بآراء سياسية «نثرية» على نحو مباشر، ولكنه دومًا كان يضع ويضفر وجهات نظره في أعمال روائية، يرصد فيها الواقع السياسى ويحلله
  • اكتشف البعض أن جمال عبدالناصر كان قد بدأ كتابة رواية، وكان مازال طالبا في المدرسة الثانوية في العام 1934. وكانت الرواية تتحدث عن الانتصار العظيم الذي حققه المصريون في «رشيد» في مواجهة الإنجليز بالعام 1907
  • عثرت على نص «سيناريو» فيلمي للرواية، وعدد صفحاته يصل إلى 331 صفحة مكتوب على غلافه: «المتحدة للسينما، صبحي فرحات، تقدم «في سبيل الحرية» قصة كفاح رشيد كما سجلها سيادة الرئيس جمال عبدالناصر

          مهما احتدمت الخلافات حول تقييم جمال عبدالناصر ومرحلته والتوجهات السياسية والاجتماعية التي سلكتها الثورة منذ قيامها حتى رحيله، فإن الاتفاق سيظل بشكل يكاد يكون مطلقا، أنه زعيم وقائد وطني بكل المعاني الإيجابية التي ينطوي عليها التعبير، وحتى الذين هاجموه بضراوة بعد رحيله في كتابات سياسية وإبداعية، وأدانوه وأدانوا المرحلة كلها، كانوا مادحين له.

          في فترة صعوده، وعند رحيله المفاجئ أسالوا قدرا كبيرا من الدموع الحقيقية، لم يكونوا خصوما، بل كانوا مؤيدين لمشروعه، ومادحين له، ودافعين لخطواته إلى الأمام، وعلى رأس هؤلاء كان توفيق الحكيم الذي استفاد من مرحلة الثورة أيما استفادة، وأنقذه جمال عبدالناصر من حركة التطهير، وكان اسم الحكيم قد ورد في كشوف الأسماء التي سيتم استبعادها، وكان آنذاك رئيسا لدار الكتب، ولكن عبدالناصر استثناه وأخرجه من هذه الكشوف، وفي أواخر الخمسينيات عندما تعرض الحكيم لهجوم شديد من قبل النقاد، تدخَّل القائد لوقف هذه الحملة، ومنح الحكيم أعلى الجوائز وهي «قلادة النيل» وتلك كانت إشارة من ناصر إلى أنه شخصيا يساند الحكيم ويؤازره، وكثيرة هي المواقف التي ساند فيها عبدالناصر توفيق الحكيم، وبالتالي كان الحكيم مؤازرا ومساندا ومادحا، واعتبر أن عبدالناصر حقق له نظرية «المستبد العادل» التي كان ينادي بها قبل الثورة، وحقق له نظرية «الكل في واحد» التي جاءت على غلاف روايته «عودة الروح» الصادرة في العام 1933، وتأثر بها عبدالناصر، ولكن الحكيم لم يَعِ هذا التاريخ، وانساق خلف أو في مقدمة جوقة المهاجمين التي نهشت لحم عبدالناصر وثورته وجهوده ووطنيته، وكتب كتابه الشهير «عودة الوعي» عندما أقام الخصوم والأفاقون حفلا ضخما على جثة جمال عبدالناصر وثورة يوليو وإنجازاتها، وركزوا على سلبيات المرحلة، وغضوا النظر عن المتآمرين الذين كانوا سببا رئيسا في إفساد أي إيجابيات، وجعلوا من عبدالناصر هدفا لسهامهم، وحمَّلوه كل الخطايا الديمقراطية والسياسية وكارثة 67، وتعذيب الخصوم السياسيين في المعتقلات والسجون، والتصفية البدنية التي راح ضحيتها أناس شرفاء من تيارات مختلفة وعلى رأسهم الكاتب والمفكر والناقد سيد قطب، والمناضل والكاتب اليساري شهدي عطية الشافعي وغيرهما، ولم يكن توفيق الحكيم فقط هو الذي شارك الجوقة حفلة النهش التاريخية، لكن الحفلة اتسعت وشملت يساريين وليبراليين وإخوان، وبالطبع كان هناك من نستطيع أن نجد لهم مبررات مثل مصطفى أمين وزينب الغزالي وأحمد رائف وعمر التلمساني وطاهر عبدالحكيم وفخري لبيب وفتحي عبدالفتاح وغيرهم من الذين ساموا العذاب في السجون والمعتقلات لأسباب مختلفة، وبعضهم جاهر برأيه في ظل وجود عبدالناصر، وكتب منتقدًا الأوضاع السياسية في حينها، لكن هناك مَنْ لا نستطيع أن نغفر لهم هذه المشاركات في حفلة قتل عبدالناصر من دون أسباب واضحة، سوى ممالأة العصر الجديد الذي أعطى إشارة «ماراثون» الهجوم، وجاء الحكيم على رأس هؤلاء، ثم جلال الحمامصي ونجيب محفوظ، وبالطبع هناك رفاق لعبدالناصر مثل كمال الدين حسين وحسن إبراهيم وعبداللطيف البغدادي، وهناك آخرون على هامش الحفلة كتّاب مثل صالح جودت ومحمد جلال كشك، وكل هؤلاء خدموا في بلاط «الثورة»، إذا صح أن يكون للثورة بلاط، وربما يكون موقف نجيب محفوظ معقدًا إلى حد كبير، فهو ليس مغامرًا للدرجة التي يجاهر بآراء سياسية «نثرية» على نحو مباشر، ولكنه دومًا كان يضع ويضفر وجهات نظره في أعمال روائية، يرصد فيها الواقع السياسى ويحلله، وأحيانا يدين مثلما كان في «أولاد حارتنا» التي فهمها البعض وفسرها على نحو ديني، ولكن المقصد فيها كان سياسيًا محضا، وأظن أن منع نشرها في كتاب له أسباب سياسية تسترت تحت أقنعة دينية، وأن السلطة السياسية كانت قادرة على نشرها، لكن منعها وبالتالي مصادرة نشرها ككتاب في مصر كان على هوى مؤسسة السلطة السياسية، رغم أن عبدالناصر أتاح لها النشر في جريدة «الأهرام» منجمة يوميًا في العام 1959، وروايتا «ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار» انتقدتا السلطة السياسية بشكل واضح، وكاد عبدالحكيم عامر يضع نجيب محفوظ في السجن لولا تدخل جمال عبدالناصر، وإنقاذه من اعتقال مؤكد، وما فعله عبدالناصر مع الحكيم ومحفوظ، فعله مع آخرين مثل صلاح جاهين ومحمد عودة وخالد محمد خالد، ومن الممكن أن يكون موقف محفوظ معقولا ومفهومًا، وإبداعاته تدل على مواقفه دومًا، وهو لم يكن موتورًا في مديحه أو هجومه، ورغم أنه انتقد النخبة السياسية في «ثرثرة فوق النيل» - فإنه لم يفرط في مديح عبدالناصر، ولكنه أثنى عليه وعلى الثورة كثيرا. ففي العام 1965 عندما كانت الحياة السياسية المصرية تطرح تجديد انتخاب جمال عبدالناصر لولاية قادمة، قال نجيب محفوظ في 18 يناير 1965 في مجلة روزاليوسف: «انتخاب جمال عبدالناصر بديهية، لماذا؟، والإجابة صعبة لماذا 1+1=2؟ إن انتخاب جمال عبدالناصر هو انتخاب الثورة، وأنا مع الثورة، مع الثورة التي حققت الاستقلال، واستعادت لمصر وجهها الدولي للمجموعة الإفريقية الآسيوية، وسارت في طريق الاشتراكية.. وأخيرا توجت كل هذا البناء بالديمقراطية».

دع الأزهار تتفتح

          ويستطرد: «وإذا كان الإنسان أديبا مثلي فهناك أسباب خاصة تدفعه أيضا إلى انتخاب عبدالناصر، هذه الأسباب أن الثورة فتحت باب الحرية للأديب على غير المنتظر في دولة توجه كل ألوان النشاط في المجتمع وتسيطر عليها، لقد جعلت الثورة شعارها في الأدب «دع كل الأزهار تتفتح»، كل هذا يجعلنى أنتخب عبدالناصر».

          وهناك طبعا مفارقات كثيرة في حديث نجيب محفوظ، لكن هناك كذلك حقائق كانت موجودة على الأرض، ففي ظل المرحلة الناصرية تنفست أقلام كثيرة، ونشأت مؤسسات ثقافية كبرى، وارتقت الحركة المسرحية بشكل كبير، وكان هناك كتّاب كبار مثل نعمان عاشور وألفريد فرج وسعد الدين وهبة وميخائيل رومان ومحمود دياب وصلاح عبدالصبور وعبدالرحمن الشرقاوي وغيرهم. وأنجبت هذه المرحلة الجيل الذي أعطى وصاغ حركة إبداعية في الشعر والقصة والرواية والنقد مثل بهاء طاهر وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وعبدالحكيم قاسم ومحمد روميش وصنع الله إبراهيم وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر ومحمد إبراهيم أبوسنة وفاروق عبدالقادر وإبراهيم فتحي، والقائمة تطول وتتنوع، ولا نستطيع حصرها في مقال كهذا، رغم أن الرقابة كانت تعمل كذلك على تعويق بعض الأعمال هنا وهناك، وكان هناك بعض المثقفين مشغولين بالاحتجاج والاعتراض على أعمال فنية، من وجهات نظر سياسية أحيانا، مثلما حدث مع مسرحية «الفتى مهران» لعبدالرحمن الشرقاوي، ورواية «تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم، التي صودرت تماما بعد نشرها في العام 1966، وكذلك رواية «الرجل الذي فقد ظله» لفتحي غانم التي حذف منها 250 صفحة عند نشرها في كتاب، ورواية «تلك الأيام» التي حذف منها 135 صفحة عند نشرها في كتاب، وكان الذي حذف هذه الصفحات الراحل إلهامي سيف النصر مدير تحرير سلسلة «الكتاب الذهبي» التي نشرت الروايتين، وسيف النصر هو أحد اليساريين الذين اعتقلوا في حملة 1959.

شهادات على حقبة ناصر

          ولا أظن أن عبدالناصر كان له دخل بكل هذه المصادرات التي كانت تتم في الحياة الثقافية، والذي يتتبع تاريخ ناصر في تكوينه الفكري والثقافي، ويتعرف على علاقته هو بالثقافة والمثقفين، يدرك أنه كان يعتمد طوال الوقت على مستشارين، وهناك شهادات بالغة الرقي كتبها كتّاب ومفكرون ونقاد وساسة على درجات رفيعة من الاحترام، تشهد على البعد الديمقراطي الذي كان يتمتع به عبدالناصر، أشير فقط إلى كتاب فتحي رضوان «72 شهرا مع جمال عبدالناصر»، وكتاب «مذكرات ثقافة تحتضر» للدكتور غالي شكري، ويتضمن شهادة تحت عنوان «عبدالناصر والمثقفون»، كذلك المفكر خالد محمد خالد في مذكراته، وفي شهادته مع غالي شكري المنشورة في مجلة «القاهرة» الصادرة في مارس 1996، وهناك كثيرون قدموا شهادات صادقة، وبعيدة عن أي هوى أو غرض سياسي، لكن هؤلاء الثلاثة على وجه الخصوص كتبوا من مواقع مختلفة، وكتبوا بعد رحيل الرجل، رغم معارضتهم له في ظل سلطته، وكتبوا عن علاقة ناصر بالثقافة، وأحلامه في ثقافة راقية ومتحضرة، رغم أن كل هذه الأشياء حدثت في عصره، ومن مفارقات الزمن أن عبدالناصر يعود بقوة في المراحل التاريخية التي تمر بها مصر، فكانت صوره ومقولاته حاضرة طوال الوقت في تظاهرات الاحتجاج العارمة التي انفجرت في ثورة 25 يناير 2011 حتى الآن، كأنه الملهم الأول لهذا الشعب وقائده، رغم أنه رحل منذ أكثر من أربعين عاما، وفي 15 يناير الماضي حلّت ذكرى ميلاده الخامسة والتسعين، جمال عبدالناصر الذي ترتفع صوره ومقولاته وأفكاره الآن في مصر وميادينها كان يرى الثقافة من منظور راق، ولعله هو الرئيس الذي كان يعطي للثقافة اهتماما حقيقيا، وهذا لم يأت من فراغ، بل إنه ذو خلفية عريضة، والذي يقرأ كتاب «عبدالناصر والمثقفون والثقافة» للكاتب الروائي يوسف القعيد، وهو عبارة عن حوار كبير مع رفيق عمر عبدالناصر الكاتب الصحفي الأول والأقرب إليه (محمد حسنين هيكل)، سيعرف عن قرب الوجه المثقف لهذا القائد، هذا الوجه هو الذي لعب دورا في تكوين هذا الزعيم، وتشكلت روحه وعقليته ومنهجه في التفكير، فرغم عسكريته الصارمة فإنه كان يتابع بدقة المشهد السياسي العالمي، وكان ذا معرفة طيبة بالأدب والثقافة والفن، وهذه الثقافة هي التي وجَّهت خطى عبدالناصر وخطابه السياسي والفكري، رغم أنه لم يشارك في محافل ثقافية قبل قيام الثورة، وحتى بعد قيامها مباشرة، وصدرت مجلة التحرير في منتصف سبتمبر من العام 1952، أي بعد شهر ونصف الشهر من اندلاع الثورة، وكتب بعض أعضاء هذا المجلس منذ العدد الأول بأسمائهم، وكتب عبدالناصر في العدد الثاني الصادر في 1 أكتوبر تحت عنوان «كيف دبَّرنا هذا الانقلاب»، وقدمته المجلة بهذه الكلمات، وكان هذا هو أول تقديم له على سبيل الحصر في الصحافة المصرية: «إن الذين صنعوا تاريخ مصر الجديد، ووثبوا بمصر هذه الوثبة المباركة، يريدون أن يتواروا وراء ستار كثيف من السرية والكتمان، والناس يريدون أن يعرفوهم، وأن يقرأوا عنهم، ولهم.. ولكنهم يأبون أن يخرجوا على الحدود التي رسموها لأنفسهم.. أن تخلو الحركة من أي غرض، ومن أي دعاية، وهم يلزمون هذه الحدود في قسوة... قسوة تضايق فضول الناس.. وفضول التاريخ !، لقد أرادت «التحرير» أن تسجل قصة التحرير من أحد أعلام التحرير.. من واحد ممن رسموا الخطوط الأولى في حركة التحرير، من واحد ممن وضعوا رءوسهم على أكفهم في إصرار وطني عنيد، مقسمين إما أن ينتصروا، وإما أن ينتهوا، ولكن هذا الواحد أصر على أن يظل اسمه مختفيا وراء الحدود السميكة التي رسمتها الحركة لنفسها، وحاولنا أن نقنع البطل المرموق.. ولكن البطل الذي انتصر على الملك السابق، انتصر أيضا على إرادة مجلة التحرير، على أنه انتصر هذه المرة بالإقناع، فما كان من «التحرير» إلا أن تحيي هذا البطل، على هذا الاتجاه السليم»، ثم يأتي العدد التالي من المجلة في 15 أكتوبر لتنشر الحلقة التالية من مقالات جمال عبدالناصر، وتكون «الحركة المباركة» قد ثبتت أقدامها، واكتسبت تأييدا شعبيا واسعا، فتعلن المجلة عن كاتب هذه المقالات وجاء في التقديم: «استطعنا أن نقنع أحد أبطال التحرير، أحد الذين رسموا الخطوط الأولى في تلك الحركة أن يكتب قصتها.. قصة الكفاح الطويل الذي قام به أبطال مصر في سبيل تحريرها.. إنه البكباشي أركان حرب جمال عبدالناصر»، كانت هذه هي التجليات الثقافية والسياسية الأولى لجمال عبدالناصر على صفحات مجلة التحرير، التي كان يرأس تحريرها أحمد حمروش، وهو من أبرز الضباط الأحرار، والذي لعب أدوارًا مهمة في الحياة الثقافية، ويكفي أن مجلة التحرير هذه، هي أول لسان حال لثورة يوليو، وأظنه كذلك هو الذي كتب هذين التقديمين لعبدالناصر من موقع العارف والقريب والشريك أيضا، ثم جاءت كتابات كثيرة عن جمال عبدالناصر وله.

          وفي العام 1954 صدر كتاب «فلسفة الثورة» وهو ليس تاريخا لثورة يوليو، بقدر ما هو تأمل عميق في المسارات السياسية والفكرية والاجتماعية التي من أجلها تقوم الثورات، ولكنه أيضا يتطرق إلى أمور خاصة بتكوين حركة الضباط الأحرار، والحوارات التي كانت تدور بينهم، والمؤثرات الكثيرة التي ساعدتني على نقل رؤيته، ولا مانع من ذكر بعض الذكريات الشخصية فيورد جزءا من خطاب شخصي له كان قد كتبه إلى صديق، ويتحدث باستفاضة عن حرب فلسطين في العام 1948، ويعرض لأفكاره التي كانت تنتابه على مدى السنوات التي انخرط فيها في الهم العام.

قال الرئيس

          وفي فبراير من العام 1957 أصدرت دار الهلال كتابا تحت عنوان «قال الرئيس»، وهو عن أهم الخطابات التي لعبت دورا كبيرا في إيضاح رؤية عبدالناصر لما يحدث، وقدم للكتاب الراحلان فتحي رضوان وطاهر الطناحي، ويقول رضوان في تقديمه: «لا أحسب أن العالم قد شغل في السنين المائة الأخيرة برجل، مثلما شغل بجمال عبدالناصر، ففي الصباح الباكر، قبل أن تطلع الشمس، وفي الليل المتأخر، حين يخلد الناس إلى مضاجعهم، يتردد اسم جمال عبدالناصر، في الأنباء والبرقيات على ألسنة المذيعين في المحطات، وتجمع حروف اسمه في مطابع الصحف والمجلات»، وفي يوليو 1958 وبمناسبة الاحتفال بالعام السادس لثورة يوليو صدر كتاب «يا ولدي هذا عمك جمال» لأنور السادات، وفيه يسرد السادات علاقته بعبدالناصر وقيادته للحركة منذ ولادتها.

          هذه الإشارات العابرة التي أوردناها نقصد منها ظل الثقافة الذي صاحب عبدالناصر في سنوات صعوده الأولى، واختياره لأناس يقودون العمل الثقافي باحتراف ومسئولية.

          وهناك مجلات ثقافية صدرت على مستوى عال من الإتقان، وعلى رأس هذه المجلات مجلة «الرسالة الجديدة» التي كان يرأس تحريرها يوسف السباعي، وكتب فيها شباب وشيوخ مثل محمود أمين العالم والدكتور محمد مندور وتوفيق الحكيم وأنيس منصور ونجيب سرور وأحمد عبدالمعطي حجازي وأحمد حسن الزيات ومحمد حسين هيكل وصبري موسى وعبدالرحمن الشرقاوي وغيرهم، ويكفي أنها نشرت «بين القصرين» منجمة لنجيب محفوظ في العام 1954، ثم كانت هناك مجلات مستقلة، ودور نشر خاصة مثل دار الفكر ودار النديم ودار الديمقراطية ودار إيزيس، وكانت جريدة الجمهورية التي صدرت في عهد الثورة تعطي مساحة واهتماما بالغا بالثقافة، وكانت تصدر ملحقا منفصلا للثقافة يكتب فيه أعلام، وعلى رأسهم الدكتور طه حسين، ثم في العام 1956 صدرت جريدة المساء برئاسة تحرير خالد محيي الدين، ومجلة صباح الخير، التي رأس تحريرها الكاتب الشاب أحمد بهاء الدين، وفي هذين الإصدارين شهدت مصر حراكا ثقافيا لم تعرف مثله من قبل ومن بعد.

مدرستان في الكتابة والفن

          ويكفي أن نذكر بعض الأسماء التي تجلت أجمل إبداعاتها في هذين الإصدارين، فمنهم على سبيل المثال صلاح جاهين ومحمود السعدني وأنور عبدالملك وصبري موسى ومصطفى محمود ولطفي الخولي ومحمد الفيتوري وجيلي عبدالرحمن وحسن فؤاد وصلاح عبدالصبور وفوزية مهران وسعاد زهير ولويس جريس وفتحي عبدالفتاح وفتحي غانم وعلاء الديب وغيرهم، هذان الإصداران لم يكونا مساحة حرة للنشر فقط، بل كانا مدرستين في الكتابة والصحافة والفن، وأظن أن مرحلة الخمسينيات كانت مرحلة انتعاش الثقافة بشكل مذهل، وقبل أن تحدث الصدامات العنيفة بين السلطة والمثقفين، والتي لعبت دورًا في انخفاض المستوى في ما بعد.

          في هذه الظروف اكتشف البعض أن جمال عبدالناصر كان قد بدأ كتابة رواية، وكان مازال طالبا في المدرسة الثانوية في العام 1934.

          وكانت الرواية تتحدث عن الانتصار العظيم الذي حققه المصريون في «رشيد» في مواجهة الإنجليز بالعام 1907، وما تعارف عليه المؤرخون بتسمية هذه المعركة بـ «حملة فريزر»، وكانت هذه الحملة تعبر عن مطامع الإنجليز في السيطرة على مصر بعد ذهاب الفرنسيين عنها، وبهذا يكون الجو قد خلا، وكان محمد علي الوالي مشغولا بمحاربة بعض أعدائه في صعيد مصر، ورأى الإنجليز أن الفرصة سانحة تمامًا لتنفيذ أغراضهم الاستعمارية، وإحكام قبضتهم الغليظة على البلاد، وبالفعل توجهت سفنهم إلى الإسكندرية، ولم يفعل حاكم الإسكندرية سوى أن سلَّم المدينة للإنجليز، وهكذا أصبح الحلم قريبًا ودانيا لاقتطافه، فتوجهوا إلى رشيد، المدينة الباسلة، التي تعتبر بذاتها موقعًا حربيًا وتجاريًا على جانب كبير من الأهمية، وهى تعتبر - حسب عبدالرحمن الرافعي- مفتاح النيل على البحر الأبيض المتوسط، وطريق المواصلات النيلية إلى داخل البلاد، وزادت أهميتها بعد طمر ترعة الإسكندرية التي كانت تصل الإسكندرية بالنيل، ودون تفصيلات كثيرة في جغرافية المدينة، فقد أجمع المؤرخون والجغرافيون والاقتصاديون على أن المدينة بالفعل موقع تجاري وحربي وجغرافي ذو أهمية حيوية شديدة، إذ صارت المدينة هدفًا عسكريًا أساسيًا للاستيلاء عليه، واعتباره مستعمرة إنجليزية، في ظل انشغال محمد علي بحروبه مع خصومه وأعدائه الذين أنهكوه بالفعل، وبعد سقوط مدينة الإسكندرية في يد الإنجليز كان محمد علي قد أصيب بالإحباط، فلم يرسل أي مساعدات للمقاومين في رشيد، بل إنه كان يجهز نفسه للهروب إلى الشام في حالة الاحتلال الإنجليزي، ولكن أهل رشيد أعطوا درسا تاريخيا في المقاومة والتحرير، ليس للإنجليز فحسب، بل للعالم كله.

في سبيل الحرية

          من هنا التقط الشاب الوطني والطالب في المدرسة الثانوية (ابن الستة عشر عاما) هذا الخيط ليكتب فصولا خمسة تمهيدا لرواية باسم «في سبيل الحرية»، وظلت هذه الرواية مختفية حتى اكتشفها بعض المقربين لجمال عبدالناصر، واقترح هذا البعض إجراء مسابقة لاستكمالها. وهناك روايتان لفكرة المسابقة، إذ يقول هيكل في حواره مع يوسف القعيد عندما جاء ذكر الرواية وسأله القعيد: ولكنه لم يكتب منها سوى عشر صفحات فقط، فيجيب هيكل: «فعلا، وعملتها موضوع مسابقة في «آخر ساعة»، مسابقة للأدباء، وذلك لإكمال هذه الرواية، لكن يلفت النظر في ذلك شيء غريب، أنه كان متأثرا في كتابتها برواية «قصة مدينتين»، كان يتكلم في الرواية عن معركة رشيد، وعن شخصية ركز عليها كثيرا، هو بطل الرواية، وهو مثل بطل رواية «قصة مدينتين»، الذي كان غامضا في زمن الثورة الفرنسية، ويظهر في مواقف حاسمة، ينقذ بعض الناس، وينقلهم إلى أماكن أخرى، وهو شخص موجود في رشيد، ويقوم بدور في مقاومة الإنجليز، وينقذ أسرى المصريين».

          ويستطرد هيكل في الحديث عن أن عبدالناصر يستخدم التصوير والعبارات الأدبية في أحاديثه وخطاباته، رغم أنه لم يكتب سوى هذا النص، أما الرواية الأخرى فهى للكاتب يوسف السباعي، وهي الرواية الأكثر فاعلية والأكثر تصديقا، لأنها كتبت في حياة عبدالناصر، وبالتحديد في 3 أغسطس سنة 1959، بينما رواية هيكل حكاها للقعيد في حوار طويل نشر في كتاب بالعام 2003 وصدر عن دار الشروق المصرية، ويكتب السباعي في مقاله: «كيف أكملت قصة الرئيس؟» عن قصة المسابقة التي أعلن عنها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وتقدم لهذه الجائزة ما يقرب من أربعمائة محاولة، وشكى السباعي في هذا المقال من امتناع الكتَّاب الكبار عن الاشتراك في المسابقة، لذلك جاء المستوى ضعيفًا فعلاً، وإن كان السباعي قد حاول إكمال الرواية بالفعل، لكنها تكملة كروكية، ولم تكن سوى تخطيط لإكمالها كما هو واضح من الملخص الذي نشره في مقاله، لذلك هي تكملة لا يعتد بها، ولكن الروايات التي فازت بالفعل، كان قد كتبها عبدالرحمن فهمي وعبدالرحيم عجاج وكان ضابطا في القوات المسلحة، ودار كلام كثير حول اللغط الذي حدث لمنحه الجائزة الأولى مناصفة مع عبدالرحمن فهمي، رغم التفاوت الواسع بين النصين، ويبدو أن المجاملات والضغط على لجنة التحكيم لـ «تفويز» هذا الضابط كانا عاملين مؤثرين ليحصل على المركز الأول مناصفة، وتم احتفال مهيب في مدينة رشيد للاحتفال بذكرى الحدث في 19 سبتمبر 1959، وحضره عبدالناصر وقام بتسليم الجائزتين للفائزين، وتم نشر النصين بعد ذلك في العام نفسه.

          ولكن الاحتفاء بالنص الأضعف كان هو الأبرز، إذ قدم له كمال الدين حسين وزير التربية والتعليم المركزي - آنذاك - وربما لأن عبدالرحيم عجاج كان ضابطًا في القوات المسلحة، فمن الطبيعي أن يحصل على هذا الامتياز، ثانيًا أنه وضع الرئيس عبدالناصر شخصية رئيسة في الرواية، وهذه العناصر ربما تكون فاعلة في تمرير الرواية وتفعيلها، ثم فرضه على أن يكون ضمن المواد التي تدرس في المدارس، رغم أن نص عبدالرحمن فهمي كان باهرا وفارقا ليس بالنسبة للرواية الأخرى فقط، ولكنه إحدى روائع الرواية التاريخية في مصر، وتم إهماله بشكل جسيم، وتجنيب هذه الرواية من الإعلام والتسويق يعد أكبر دليل على هذا الإهمال.

دماء في الفجر

          بالإضافة إلى هاتين الروايتين هناك رواية ثالثة، وآثر المؤلف أن يضع لها عنوانا رئيسا وهو «دماء في الفجر» بالإضافة للعنوان الأصلي (في سبيل الحرية) وقد فازت هذه المحاولة بالمركز الثاني وهي للكاتب فاروق حلمي، ونشرت في سلسلة «اقرأ» في يونيو من العام 1966، كما تحولت القصة إلى مسرحية شعرية كتبها الشاعر سلامة العباسي، ونشرت في العام 1961، واللافت للنظر أن الملكة دينا هي التي كتبت المقدمة للمسرحية، وضمن ما جاء في المقدمة: «لقد كنت أعتبر دائما أن المسرحية لون دخيل على أدبنا العربي، لكن شاعر «في سبيل الحرية» قد أقنعني في عمله الأدبي هذا أنها أداة مثلى لتصوير مثل هذه الفترات الفذة من تاريخنا، فقد أبدع حقا في تصوير الشخصيات التي جعلها رمزا للمعاني التي قصد أن يجسدها في المسرحية»، وتعتبر المسرحية من النصوص المبكرة للمسرح الشعري الحديث مع صلاح عبدالصبور وعبدالرحمن الشرقاوي ونجيب سرور في ما بعد، وإن كان يغلب عليها الطابع الحماسي والواعق إلى حد ما، وربما تكون المرحلة التاريخية هي التي صبغت المسرحية بهذا الطابع.

          ولا ينقطع سيل المشاركة في تفعيل نص «في سبيل الحرية»، فقد عثرت على نص «سيناريو» فيلمي للرواية، وعدد صفحاته يصل إلى 331 صفحة، وهو إضافة فعلية لتفعيل وتفجير طاقات كامنة بالنص الناصري، والحالة التاريخية التي قامت عليها الرواية، هذا النص السينمائي مكتوب على غلافه: «المتحدة للسينما، صبحي فرحات، تقدم «في سبيل الحرية» قصة كفاح رشيد كما سجلها سيادة الرئيس جمال عبدالناصر، سيناريو علي الزرقاني، إخراج كمال الشيخ بالتعاون مع مخرج أمريكي»، والنص كان مفاجأة فنية بالنسبة لي، فهو مكتوب بتقنيات عالية جدا، وقمت بسؤال أهل الذكر عن تنفيذ هذا السيناريو، ولكنهم قالوا لي إنهم لا يعرفون شيئا على الإطلاق عن هذا الفيلم، وبالطبع فكل هذه النصوص الروائية والمسرحية والسينمائية يحتاج بعضها إلى إعادة اكتشاف، ويكفينا نص عبدالرحمن فهمي، وسيناريو علي الزرقاني.. ولا يفوتني هنا التنويه عن إنجاز تمثيلية عن الرواية تمت إذاعتها في منتصف الستينيات، وأعدها للإذاعة الشاعر طاهر أبو فاشا، ووضع لها الموسيقى عبدالحليم نويرة وقام بإخراجها يوسف الحطاب، واشترك في تمثيلها ممثلون كبار منهم حسين رياض وماجدة وزوزو نبيل وشفيق نورالدين وآخرون.

          ومن الطبيعي أن تتعدد المعالجات للنص الناصري.

          وأزعم أن كل المعالجات كانت جيدة مع اعتبار أن نص عبدالرحمن فهمي الذي استخدم المادة التي كتبها عبدالناصر مجرد دليل للعمل، ولم يلتزم حرفيا بما ورد في نص ناصر، وعلى مدى 500 صفحة استطاع فهمي أن ينقل لنا الجو التاريخي بكل ملابساته وتعقيداته التاريخية والسياسية والاجتماعية، ووردت شخصيات عنده نموذجية فعلاً.

          وتخلت الرواية عن الحماس الذي من الممكن أن ينتاب مثل هذه الروايات التي تستدعي فترات تاريخية حاسمة، وهناك اشتباك وتلاحم بين التاريخي الواقعي، والتاريخى المتخيل، وأبدع في شخصية الملثم التي أوردها جمال عبدالناصر في النص، بينما كان النص الآخر أضعف، واستسلم للنبرة الحماسية التي حولت النص إلى أغنية انتصار تاريخية، مثل الأناشيد الوطنية والحماسية، وأزعم أن السيناريو الذي كتبه علي الزرقاني لو كان قد وجد طريقه إلى السينما، مع مخرج رائد مثل كمال الشيخ، كنا حصلنا على تحفة سينمائية فريدة، أما المسرحية فرغم النبل الذي تنطلق منه، فإنها انزلقت للجو الحماسي والانفعالي الذي يحيط بالحكاية التاريخية.

          يُذكر أن الأرضية التي وضعها عبدالناصر أتاحت لكل هؤلاء المبدعين - على تنوع الأجناس الفنية والأدبية - أن يكتبوا نصوصًا راقية، ولا أعرف لماذا تقاعست المؤسسات عن إعادة نشر هذه النصوص، وهناك مفاجأة كان قد أطلقها عبدالرحمن فهمي نفسه قبل رحيله بشهور، ففي 22 يونيو 2002 أجرت جريدة المساء - وفق الناقد محمد عبدالله الهادي - حوارًا مع الكاتب عبدالرحمن فهمي بمناسبة الاحتفالات بمرور 50 عاما على قيام ثورة يوليو، وقال إنه اكتشف أن الجزء الذي كتبه عبدالناصر لم يكن مؤلفًا، ولكنه كما كان يفعل جميعنا أن ننقل بضع صفحات تكون قد أعجبتنا من هذا الكتاب أو ذاك، وجمال عبدالناصر لم يزعم أبدا أنه أديب، ولكن أقرباء السوء زينوا له الأمر على هذا النحو، ووفق كلام فهمي، فإن هذا الجزء المنقول جاء من رواية عنوانها: «ذو القناع الجلدي» للبارونة أوركيزي، وانتهز هذه الفرصة كل من له عداء مع عبدالناصر، وعلى رأسهم أنيس منصور، وكتب مقالا في جريدة الشرق الأوسط في 8 فبراير 2008 تحت عنوان «هؤلاء الزعماء وهواياتهم الغريبة»، قال فيه: «حاول عبدالناصر أن يكتب رواية وأجريت مسابقة على إكمالها، وكانت ركيكة الأسلوب والفكرة»، ولكن القدر لم يمهل كاتبنا الكبير عبدالرحمن فهمي ليكمل لنا حقيقة الاكتشاف، وتركنا حيارى، خاصة أن هناك ما يدخل في قلوبنا الشك لصحة هذا الاكتشاف، فالكاتبة البارونة التي ذكرها، ما الذي سيدفعها أن تكتب رواية عن مصر، وعن واقعة شديدة المحلية؟ وينطوي الجزء الذي كتبه ناصر على أسماء عربية، ومن ناحية ثانية فقد بحثت مخلصًا عن هذا النص الذي ذكره فهمي فلم أجد له وجودًا.

          وفي النهاية، أود أن أكون قد أثرت بهذه السطور وجها يكاد يكون مجهولا عن نصوص استلهمت مادتها الأساسية من النص الذي أبدعه الزعيم والقائد الراحل جمال عبدالناصر، في ذكرى ميلاده الخامسة والتسعين.
------------------------
* شاعر وكاتب من مصر.

 

شعبان يوسف*