الأمير قابوس الزياري بين «كمال البلاغة» و«نهج البلاغة»

الأمير قابوس الزياري بين «كمال البلاغة» و«نهج البلاغة»
        

          عاش حاكمًا ظالمًا، وأديبًا مبرزًا، ومات سجينًا، وشُهر دهرًا، ونُسيَ أدهرًا. إلا أن مثواه في منطقة جرجان (تقع جرجان، اليوم، في محافظة كلستان، وهي قاعدتها) وتحديدا في مدينة كنبد كاووس (أي قبة قابوس، أو برج قابوس) التي سميت باسمه، بسبب وجود ضريحه فيها - يحيي ذكراه، ولو على نطاق ضيق. لكن أبياته الشهيرة هذه بقيت في باب من لم يُعرف قائلها! مع سواها من أبيات توزعتها مصنفات الأدب والتاريخ، وأبيات له، أخرى، ضاعت في عصف الدهر.

          لكن، من هو ذاك الأمير المشهور والمغمور في آن، في مآثره الحسنة والقبيحة، في شعره ونثره؟ إنه الأمير قابوس الزياري صاحب هذه الأبيات التي طارت شهرتها في الآفق، وسرت بها الركبان، ونُسي قائلها:

الدهر يومان: ذات أمن وذا حذر
                              والعيش شطران: ذا صفو وذا كدر
قل للذي بصروف الدهر عيّرنا
                              هل عاند الدهر إلا من له خطر؟
ألا ترى البحر تعلو فوقه جيف
                              وتستقر بأقصى قعره الدرر؟
فإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا
                              ونالنا من تمادي بوسها الضرر
ففي المساء نجوم ما لها عدد
                              وليس يكسف إلا الشمس والقمر
وكم على الأرض من خضراء مورقة
                              وليس يُرجم إلا ما له ثمر
أحسنت ظنّك بالأيام إن حسنت
                              ولا تخف سوء ما يأتي به القدر

          (يتيمة الدهر للثعالبي، 3/290 من طبعة دمشق - 4/58 من طبعة مصر).

          عُرف بلقب شمس المعالي، أما لقب وُشْمْكَير فقد غلب على والده أبي طاهر لأنه كان مولعا بصيد طائر الوشم، وهو ما يسمى، بالعربية، بالسُّمنة، ومعروف بلحمه اللذيذ.

          ولإعجاب قدامى الأدباء بهذه المقطوعة، نقلها ابن يمين، (من شعراء القرن 8هـ/14م) إلى الفارسية شعرا.

          لم تسجل المصادر القديمة تاريخ ولادة قابوس، لكننا نعلم أنه رقي عرش الإمارة سنة 366 للهجرة، وهي السنة التي توفي فيها ركن الدولة الديلمي البويهي، فأفاد قابوس من الفرصة السانحة واستولى على جرجان وطبرستان المحاذيتين لبحر قزوين، أو بحر الخزر، واستقل بهما.

          يعود قابوس بنسبه إلى آل قارن، وهم إحدى الأسر السبع العريقة في زمان الشاهنشاهية الساسانية (225 - 641م)، التي أطلق عليها المؤرخون والكتّاب القدامى «أهل البيوتات»، ومنهم أبوالفرج الأصفهاني صاحب «الأغاني» الذي استعمل هذا المصطلح بالنسبة إلى أسرة الشاعر الجاهلي عدي بن زيد، فقال فيها «وكانوا أهل بيت نصارى. وبمزيد من التفصيل، يرجع العلامة الموسوعي أبوالريحان البيروني نسبه إلى الشاه الساساني «قباذ» (448 - 531م) والد «كسرى أنو شروان» (الآثار الباقية، طبعة سخاو، ص47).

          حكم قابوس جرجان وبطبرستان حتى العام 370هـ. في تلك السنة وقع خلاف بين أبناء ركن الدولة البويهي. فأبعد عضد الدولة ومؤيد الدولة أخاهما فخر الدولة عن ملك والدهما، فلجأ إلى قابوس في جرجان، أي إلى أمير كان أبوه وأعمامه في خدمة أسلافه، وكان، إلى ذلك، والد زوجته.

          وقد أجار قابوس ضيفه وأكرم وفادته بما تقتضي تقاليد الحكّام من أمراء وملوك، ساعيًا إلى مساعدته لاسترداد حصته من ملك أبيه. وفي هذه الأثناء، حاول عضد الدولة ومؤيد الدولة أن يستميلاه ويغرياه كي يتخلى عن أخيهما، إلا أن قابوس لم يستجب لطلبهما، ولم ينقض عهده لفخر الدولة، وقاد حملة لاسترداد الملك السليب. إلا أن عضد الدولة هزمهما. فاضطر قابوس مع فخر الدولة إلى مغادرة ملكه واللجوء إلى نيسابور، في حمى الأسرة السامانية الحاكمة خراسان (عام 371هـ).

          وكانت خراسان أيامئذ في قبضة السامانيين، فأوعز نوح بن منصور الساماني إلى حسام الدولة تاش قائده الأعلى في خراسان بإكرامهما ومساعدتهما على استرداد ملكهما المتوارث. كما جهّز حسام الدولة جيشا لهذه الغاية ووجهه معهما إلى جرجان. إلا أن الحملة فشلت. ولما توفيّ مؤيد الدولة، استقدم وزيره المعروف الصاحب بن عباد فخر الدولة من خراسان وأجلسه على كرسي الملك في دار الملك بمدينة الري.

          وهكذا أبعد قابوس عن إمارته في جرجان وطبرستان مدة ثماني عشرة سنة، أي من العام 370 إلى العام 388 للهجرة. لكنه - وهو الشاعر والأديب والكاتب البليغ - أفاد من منفاه ليتّصل بأهل العلم والفكر والأدب في بلاد خراسان التي كانت تزخر بهم وبكل فنون المعارف، كما كان يكاتب نظراءهم في المناطق الأخرى ببلدان الخلافة.

          وفي العام 388هـ، إثر وفاة فخر الدولة عاد إلى ملكه وحكم حتى العام 403هـ، إلا أن استبداده بالسلطة وقمعه المعارضين له بقساوة ووحشية، على الرغم من شمائله وثقافته الموسوعية، بلغا أوجهما بعد عودته، فتضاعفت ظنونه بمن حوله واستسلم لضغينة الانتقام، وساورته الظنون في أقرب المقربين منه، حتى إنه أعدم أحد كتّابه الحاجب نعيم بتهمة الاختلاس، فكانت هذه الحادثة هي القشة التي قصمت ظهر البعير، فثار به قواده وبطانته، وخلعوه وحبسوه. ثم بايعوا ابنه منوجهر الملقب «فلك المعالي»، فقصد جرجان من طبرستان وأعاد الأمور إلى نصابها.

مقامه العلمي وتبريزه في الشعر والنثر

          وكما كان قابوس شغوفا بالسلطة، كان شغوفًا بتحصيل المعارف المتوافرة في عصره، من علوم الأوائل إلى علوم الدين والأدب والفلسفة، كما حرص - تحقيقًا لهدفه هذا، فضلاً عن جهده الشخصيّ - على مكاتبة العلماء والأدباء، وعلى استقطاب من استطاع منهم إلى بلاطه.

          وهكذا، كان بلاطه إحدى البؤر الأربع للثقافة في عصره التي استقطبت إنتلجنسيا ذلك العصر الذهبي من تاريخ حضارتنا بين القرنين الرابع والخامس للهجرة، وهي:

          - بلاط قابوس الزياري في جرجان وطبرستان.

          - حضرة الصاحب بن عباد، وزير البويهيين في أصفهان والري.

          - بلاط السامانيين في بخارى.

          - بلاط ملوك خوارزم المعروفين باسم «مأمون» في خيوه.

          ومن مفارقات التاريخ أن تدول دول هؤلاء الحضارية، بين اغتيال ووفاة، ليرث هذه البؤر الحضارية السلطان محمود الغزنوي الذي أمَّه الأدباء والعلماء والفلاسفة والشعراء، إضافة إلى الذين كان يقنصهم لبلاطه، قهرا.

          من أولئك الأعلام في بلاط قابوس العلامة الموسوعي أبوالريحان البيروني (363هـ/973م - 430هـ) الذي التحق ببلاط قابوس، بعد مدة قضاها في بلاط أسرة مأمون في خيوه. وقد أهدى إلى قابوس كتابه الوزين الشهير «الآثار الباقية» في حدود العام 391هـ/1000م.

          ومنهم الفيلسوف والطبيب والموسوعي ابن سينا (370 - 428هـ) الذي فرّ من بلاط السلطان محمود الغزنوي إلى بلاط قابوس. وكان شفى أحد أقارب قابوس، فلمّا طلبه السلطان محمود أبى تسليمه وأكرم وفادته، وأحلّه مكانة سامقة، وبقي في خدمة قابوس إلى أن قصد مدينة الري في حمى علاء الدولة محمد، ملكها، الذي قلده الوزارة في ما بعد، وهناك انصرف ابن سينا إلى تأليف كتابه الشهير في الفلسفة الموسوم «الشفاء»،

          إلى ذلك، استقطب بلاط قابوس الشعراء والكتّاب من كلّ حدب وصوب. فقد كان بيانه مثالاً فذًا للبلاغة في العربية حتى إنّ اليزدادي الذي جمع رسائله أسماها «كمال البلاغة» كما سنرى.

          كان قابوس يغدق الجوائز والصلات على الشعراء الذين أموا بلاطه في جرجان، على الرغم من إعراضه عن سماع مدائحهم، سواء بالعربية أو بالفارسية.

          يذكر أبوالريحان البيروني في كتابه «الآثار الباقية» الذي قدّمه إلى الأمير قابوس، كما سبق أن ذكرنا، أن قابوس كان يُعرض عن سماع المدائح فيه، في حضرته. ويضيف البيروني أنه كان يرى في ذلك تصرفا محمودًا. كما أن قابوس كان، في مناسبة حلول عيدي النوروز والمهرجان، يخص الشعراء المقيمين في بلاطه بجوائز معينة. وكان يكل إلى أبي الليث الطبري القيام بهذه المهمة. وقد علل إعراضه عن سماع مدائحهم بأنه لا يطيق سماع الكذب والنفاق، لأن ما يقولونه يخالف ما يضمرونه، وأنه يتجنب الوقوع في الخداع (راجع كذلك معجم الأدباء 1/149).

          أما الشعراء الذين مدحوه فكثر، نذكر منهم:

          - أبو بكر محمد بن أبي العباس الطبري (تاريخ اليميني 177).

          - القاضي أبوالحسن علي بن عبدالعزيز الجرجاني (يتيمة الدهر، 3/249، تاريخ اليميني، 179).

          - القاضي أبو بشر فضل بن محمد الجرجاني (يتيمة الدهر، 3/278 و«لباب الألباب» للعوفي، 1/13).

          - أبو منصور عبدالملك الثعالبي، الكاتب والشاعر النيسابوري المعروف صاحب «يتيمة الدهر». وقد أهدى إلى قابوس اثنين من كتبه هما: «التمثل والمحاضرة» و«المنهج».

          - الحكيم أبوبكر محمد بن علي الخسروي السرخسي (لباب الألباب، 258/18 - 19، ودمية القصر للباخرزي، بذيل شعراء خراسان وقهستان).

          - أبوالقاسم زياد بن محمد القمري الجرجاني

          (لباب، ص257).

قابوس شاعرًا

          كان قابوس شاعرًا بلساني العرب والفرس. وقد وصلنا من آثاره الشعرية بعض المقطوعات المتفرقة التي نقلتها كتب التاريخ والأدب والمجموعات الشعرية، مثل لباب الألباب للعوفي ويتيمة الدهر للثعالبي ومعجم الأدباء لياقوت الحموي وسواها.

          وفضلاً عن المقطوعة الشعرية الشهيرة التي استهللنا بها مقالنا هذا، والتي تنمّ عن كبرياء أمير قلب له الدهر ظهر المجَنّ، فعلل نفسه بأن الكسوف لا يعتري سوى الشمس والقمر من بين الكواكب والأبراج - لقابوس مقطوعات أخرى، منها هذه المقطوعة التي قالها بمناسبة استيلاء البويهي على إمارته، في العام 371هـ:

لئن زال أملاكي، وفات ذخائري
                              وأصبح جمعي في ضمان التفرق
فقد بقيت لي همَّة ما وراءها
                              منالٌ لراج، أو بلوغ لمرتقي
ولي نفس حر تأنف الضيم مركبًا
                              وتكره ورد المنهل المتدفق
فإن بلغت نفسي فلله درها
                              وإن بلغت ما أرتجيه فأخلق
ومن لم يردني، والمسالك جمّةٌ،
                              فأي طريق شاء فليتطرّق!

          هذا، وكما نرجّح أن قابوس قال مقطوعته الأولى التي استهللنا بها المقال، إثر نكبته وخروجه من دياره، فالمقطوعة الآتية يرجّح أنه أنشدها بعد خلعه. قال:

بالله لا تنهض يا دولة السفل
                              وقصِّري فضل ما أرخيتِ من طول
أسرفت فاقتصدي، جاوزت فانصرفي
                              عن التهوّر، ثم امشي على مَهلِ
مخدّمون ولم تُخدم أوائلهم،
                              مخوّلون وكانوا أرذل الخول!

          ومن شعر المناسبات، كذلك، ما كتب به إلى عضد الدولة البويهي، إذ بعث له سبعة أقلام:

قد بعثنا إليكَ سبعة أقلا
                              م لها في البهاء حظّ عظيم
مرهفات كأنها ألسن الحيّا
                              تِ قد جاز حدّها التقويم
وتفاءلتُ أن ستحوي الأقاليم
                              بها، كل واحد إقليم

          وبعيدًا عن مناسبات الحكم في صعوده وهبوطه، للأمير قابوس هذان البيتان اللذان يرشحان رقة وعذوبة معنى، ويخلصان إلى تخريج عاطفي مبتكر:

خطرات ذكرت تستثير مودتي
                              فأحس منها في الفؤاد دبيبا
لا عضو لي إلا وفيه صبابة
                              فكأن أعضائي خُلِقْن قلوبا

شعره بالفارسية

          ذكرنا أن الأمير قابوس كان متضلعا من العربية والفارسية مثل الشعراء الكثر في عصره من ذوي اللسانين. وقد أثر عنه، بلغته الأدبية الأم، أي الفارسية، مقطوعات مثل هذه:

كارجهان سراسر آزاست يانياز
                              من بتش دل نيارم آر ونيازرا
من بيست جيزرا بجهان بركَزيده ام
                              تا هم بدان كذارم عمر دراز را
شعر وسرود ورود ومي خوش كَوار را
                              شطرنج ونرد وصيدكَه ويوز وباز را
ميدان وكَوى وباركَه ورزم وبزم را
                              اسب وسلاح وجود ودعا ونماز را.

          (لباب الألباب، 1/31).

          وقد افتنّ قابوس فيها في جمع كل ما يحبّ في الحياة، أي عشرين أمرًا، بينها الشعر والحسان والشطرنج والحرب واللهو والسلاح والخيل والصلاة.

          إلا أن له - كما في شعره العربي اللطيف - أبياتًا بالفارسية يطغى عليها التخريج العاطفي اللطيف كمثل قوله:

شش جيز دران زلف تو دارد معدن
                              بيج وكره وبند وخم وتاب وشكن
شش جيز دكَر نكَر وطنشان دل من
                              عشق وغم ودرد وكم وتيمار وحزن

          ومفاد المضمون أن ما يحبه الشاعر في شعر الحسناء ستة أشياء: جعده وعقدته.. يقابل ذلك في قلبه ما استوطنه من عشق وغم وألم وكرب وعذاب وحزن. (لباب الألباب 1/30).

كمال البلاغة

          هذا بعض ما وصلنا من آثار الأمير قابوس الشعرية. وحبذا لو قيّض له من يجمع شعره كاملا في مجلد واحد، كما فعل اليزدادي بالنسبة إلى نثره القائم على رسائله إلى أدباء عصره.

          ففي المدة التي انقضت بين وفاة قابوس (سنة 403هـ) وأواخر القرن السادس للهجرة/12 للميلاد، قام فاضل من أهل طبرستان المعروف باليزدادي بجمع رسائل قابوس في كتاب أطلق عليه اسم «كمال البلاغة». في هذا الصدد، يرى البحاثة المرحوم عباس إقبال آشتياني أنّ اليزدادي ربما كان معاصرًا لقابوس، ويورد حججا مقنعة ونتيجة مضمونها أن جمع «كمال البلاغة» لم يجر في أزمنة متأخرة، بل بُعيد وفاة قابوس (403هـ)، أي ما بين العام 403هـ والأعوام 410هـ و420هـ.

          لكن، من هو اليزدادي جامع مكاتبات قابوس؟ في الكتاب المطبوع بعنوان كمال البلاغة الذي اختاره اليزدادي، ورد اسمه على الغلاف هكذا: عبدالرحمن بن علي اليزدادي، وكذلك في نهاية المقدمة التي كتبها الواقف على طبع الكتاب في القاهرة محبّ الدين الخطيب. غير أنّ عباس إقبال آشتياني، في المنشور المشار إليه سابقًا، يذكر أن اسمه أبوالحسن علي بن محمد، وأن له مؤلفات كثيرة بينها تاريخ لطبرستان بعنوان «عقد السحر وقلائد الدر». لكنّ هذا اليزدادي قد يكون غير اليزدادي جامع رسائل قابوس.

          مهما يكن من أمر، فإن عبدالرحمن بن علي اليزدادي ينتمي إلى أسرة عريقة في العلم والمعارف اشتهر منها في القرن الثالث للهجرة/ التاسع للميلاد أبوصالح عبدالله بن محمد بن يزداد الذي اختاره الخليفة العباسي المستعين وزيرًا له في العام 429هـ. وفي القرن الرابع - العاشر، ذكر أبوالعباس اليزدادي المعاصر لمحمد بن أحمد البشاري الذي ذكره في «أحسن التقاسيم» المؤلف في فارس بالعام 375هـ. كما عرف منهم أبوالسفر يحيى بن يزداد في علم الحديث. أما جامع رسائل قابوس فلم يعثر له أحد حتى الآن على ترجمة، وبينهم الواقف على بعض الكتاب وكاتب مقدمته محب الدين الخطيب.

          وهنا لا بد من إيضاح مضمون «كمال البلاغة». نبدأ بالعنوان فنقول: لم يوضح اليزدادي وجه التسمية الحقيقية في رأيي. وما قدمه في ما جمعه قدامة بن جعفر من كلام البلغاء بالعربية وجد رديفه في رسائل الأمير قابوس، بل إنه وجده على وجه أفضل، وبأفصح وأوجز وأكمل في المعاني مما «لم يكن يخطر ببال قدامة أن تتسع لمثله قدرة فصيح بليغ».

          لذلك، قام بجمع رسائل الكتاب، مصرّحا بقوله: «وأنا أقول بلسان مطلق: إن أحدًا لم يسمع كلاما مؤلفا باللغة العربية (والفصاحة الأدبية) مثل كلام هذه الرسائل في الفصاحة، والوجازة، والروعة، والعذوبة واعتدال الأقسام، وبداعة المعاني. وليس وراء هذه نهاية يرجى بلوغها، لأن اللسان العربي قد أتى منه ببيضة العقر، فلا ثانية لها. ولهذا سميّت الكتاب «كمال البلاغة»، لأن هذا الكتاب بلغ النهاية في الكمال».

          وعندنا أن هذا الوصف لبلاغة قابوس صحيح في مجمله، مع الإشارة إلى المبالغة في المقارنة مع أرباب الفصاحة العربية من العرب، الإيرانيين.

          أما مضمون «كمال البلاغة» فيتوزع على أربعة أقسام:

          أولها أنواع البديع التي تبيّنها اليزدادي في كلام قابوس ووصفها بأن أحدًا لم يسبقه إليها. وثانيها رسائل قابوس إلى الوزراء الأدباء والكتّاب وسواهم. وثالثها رسائله إلى الصاحب بن عبّاد وزير البويهيين الشهير ببلاغته وموسوعيته، وأجوبة الصاحب. ورابعها رسائل قابوس الفلسفية.

منزلة «كمال البلاغة»

          يقول عبدالرحمن اليزدادي، جامع رسائل قابوس، في مقدمة الكتاب الذي أطلق عليه تسمية «كمال البلاغة»، مشيرا إلى ما قام به قدامة بن جعفر من جمع رسائل الكتّاب وكلام البلغاء، «فوجدت في رسائل الأمير شمس المعالي (قابوس ابن وشمكير) كثيرًا مما ذكره وأشار إليه مما جمع تلك الأنواع بأفصح وأوجز من تلك الألفاظ وأكمل في تلك المعاني، مع زيادات في غرائب النظم وبدائع المعاني لم يكن يخطر ببال قدامة أن تتّسع لمثله قدرة فصيح بليغ...» (كمال البلاغة، ص16).

          هذا القول يلخّص خصائص الكتابة الفنية المميزة - في رأي اليزدادي - التي أحلّت رسائل قابوس في مرتبة دونها مرتبة من وصفوا قبله بالفصاحة والبلاغة. وهي، على تفصيل القول في خصائص رسائل قابوس، تتناول بيانه الفريد من جهة، وبدائع معانيه، من جهة أخرى. ففي المنحى الأول أي البيان يتّسم أسلوب الأمير بأحسن مما اتّسم به أسلوب أئمة البيان العربي السابقين، وفي المنحى الثاني، شدّد اليزدادي على بدائع المعاني لدى قابوس، أي المعاني المبتكرة الحافلة بالجدة.

          أما من ناحية السجع الذي قام عليه بيان قابوس أسوة بفطاحل السجع في عصره - القرنين الرابع والخامس للهجرة - مثل بديع الزمان الهمذاني، وأبي بكر الخوارزمي، والصاحب بن عباد، وابن العميد، وأبي إسحاق الصابي وسواهم، والذي كان زيّ الكتابة الرائج - فيرى اليزدادي أن قابوس تفوّق عليهم جميعا بما أسماه «اعتدال الأقسام، واستواء الأوزان، واتساق النظم..».

          ويختم هذه الفقرة بقوله: «وليس وراء هذا نهاية يرجى بلوغها، لأن اللسان العربي قد أتى منه ببيضة العُقر، فلا ثانية لها».

          من هنا اختار للكتاب الجامع رسائل قابوس اسم «كمال البلاغة»، «لأن هذا الكلام قد بلغ النهاية في الكمال» (كمال البلاغة، 17 - 18).

          واقع الأمر أن ميزة بيان قابوس بالنسبة إلى أعلام النثر المسجّع في زمانه وبعده تقوم على قصر الفواصل واستواء أوزانها، عبر معظم رسائله، لكأن جمله صاغها مهندس يقيسها بالمسطرة. إلا أن هذا التفرد يغرقها في الرتابة بحيث لا تحس بطبعية التعبير، واسترسال النفس على سجيتها، ولو من حين إلى آخر، كما في مقامات الهمذاني ورسائل الصابي. إلا أن وجازة قابوس في اقتناص المعاني وسبكها في سجع متوازن أمر يشهد له.

          أما من ناحية بدائع المعاني فلم أتبيّنها متوافرة لدى قابوس بشكل بارز إلا في الرسائل الأربع «الفلسفية» التي أثبتها اليزدادي في آخر الكتاب. ففي هذه الرسائل التقى الفكر «الفلسفي» لدى قابوس، بالبيان غير المتقيّد، أحيانًا، بموازين الأسجاع، واعتدال الأقسام، واتساق النظم. والسبب أن المعاني الفلسفية لا يمكن التعبير عنها بمثل معاني المجاملات في المكاتبات، بل هي تستدعي جهدًا فكريًا ودقة في التعبير لا يمكن زنتهما بالقراريط والدوانق السجعية. وفي هذا الصدد

          لا بد من الاعتراف بأن بيان قابوس في تبيان المعاني الفلسفية الدقيقة بيان محكم، واضح فصيح، بليغ العبارة، دقيق المصطلحات، لا يعتريه غموض، يؤدي المعاني العميقة بيُسر كأنما يتكلم صاحبه على شئون عادية من شئون الحياة.

          فسواء ساق الكلام على تكوّن العالم وعجز البشر عن معرفة البارئ، أو تكلّم على النفس الناطقة أو في بطلان أحكام النجوم، أو في ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته، فإنك في راحة من تبيان كلامه للمعاني، بحيث تشعر أنه

          - وإن التزم السجع الرفيق فيه - أوضح من أسلوب الفلاسفة الذين عاصروه، على بلاغة راسخة في صلب العربية. وفي هذا يصحّ قول اليزدادي فيه: «وقد ختمت الكتاب بها (أي الرسائل الفلسفية ليتعجب الناس منها). فمن أصعب الأمور استعمال الكلام الرسائلي في شرح المعاني الفلسفية بتلك الفصاحة والعذوبة التي يعجز عنها الخلق قاطبة». (كمال البلاغة، ص33).

          والجدير بالذكر، في هذا الصدد، أن الأمير قابوس كان مطلعًا على الفلسفة، بل متبحّرًا فيها، كما يقول بعض المؤرخين. فقد حفل بلاطه برجال العلم والأدب والشعر، وبينهم الفلاسفة وعلماء الفلك. وكان، من خلال مطالعاته الفلسفية والفلكية يذاكرهم في هذه الأمور. فإضافة إلى مكاتباته لأبي إسحاق الصابي، كان يتذاكر علم الفلك مع العالم المعروف في بلاطه كوشيار الجيلاني. جاء في كتاب «ذخيرة خوارزمشاهي» لسيد إسماعيل الجرجاني (المتوفى في مرو، بالعام 513هـ) حول كوشيار الجيلاني ما ترجمته بالعربية:

          «كان في مدينة جرجان من أعمال جيلان رجل منجم وفاضل يطلقون عليه اسم «كيا كوشيار»، وذلك في أيام الأمير قابوس الذي كان يُعرف بشمس المعالي، وكان كوشيار في خدمته، وعزيز المقام لديه. وفي أيامنا هذه يقيم أولاده في نواحي مدينة قم ويشتغلون بعلم النجوم، وقد لقيتهم في مدينة قم، ورأيت بين أيديهم كتبًا بخطّ كياكوشيار» (هزاره كوشيار كيلي، مجموعة مقالات، به كوشش دكتر محمد رضا نصيري، دانشكاه كيلان، ص79، به نقل از ذخيره خوارزمشاهي).

          من هذا المنطلق، يعتقد بعض العلماء في علم الفلك والباحثين أن ثمة احتمالاً بأن يكون «كياكوشيار الجيلاني» هو المصمم وصاحب الطرح المعماري الذي بموجبه بني برج قابوس. وهذا الاحتمال يعزز النظرية القائلة بأن هذا البرج بني ليكون مرصدًا فلكيًا. وقد يكون الفراغ المخروطي في أعلى البرج من دلائل هذا الاحتمال. وهنا لا بد من تكرار الإشارة إلى رسالة قابوس في بطلان أحكام النجوم المثبتة في «كمال البلاغة» (99 - 105)، حيث يسوق الأمير الكلام بأستاذية في الموضوع وعقلانية ممتازة.

خاتمة

          قصارى الكلام أن هذا المقال وجّه الضوء من جديد على تراث بليغ من بلغاء العربية شغل الناس في عصره بالسياسة والمعارك والعطاء الأدبي، شعرًا ونثرًا. إلا أن الدهر بدل عزه، في آخر أيامه، ذلا، وأحال سطوته هباء، وهو القائل فيه، في رسالة إلى ابن العميد: «الدهر مرآة النوائب، ومجناة العجائب، يأتي بما لا يُدرى، ويرمي عن وتر لا يرى» (ص48).

          وكان من شأن ذلك، وبُعد إمارته عن مركز البلاد الإيرانية، ومدار الدولة العباسية، أن غمره النسيان. كما أن تراجع اللغة العربية أمام اعتماد الفارسية لغة للدواوين في خراسان الكبيرة وآسيا الوسطى، وحِرْص الأسر الإيرانية التي حكمت بعد رحيل قابوس، كالأسرة السامانية في خراسان وما وراء النهر، والأسرة الصفّارية في سجستان وخراسان على تشجيع الكتابة والشعر بالفارسية من أسباب إهمال ذكر قابوس وأشباهه.

          كما أن أولاد قابوس، بعد اهتزاز إمارته وحكم ابنه منوجهر، لم يهتموا برعاية الأدباء والشعراء مثل قابوس، ولم يهتموا باللغة العربية شأنه، فألّف حفيده عصر المعالي كيكاووس كتابًا، باللغة الفارسي، بعنوان «قابوس نامه»، أي كتاب قابوس، سنة 415هـ/ 1082م. وجّهه إلى ابنه كيلانشهاه وحاز شهرة كبيرة، وتدور موضوعاته على أمور أخلاقية وشئون حياتية ترشح حكمة وتجربة من تجارب الحياة وتقلباتها.

          وقد هالني أن يُنسى قابوس وكتابه «كمال البلاغة» كما تناست برامج تدريس الأدب العربي في الجامعات أباحيّان التوحيدي والصاحب بن عبّاد وسواهم، فيما هم ليسوا في منزلة أدبية دون منزلة الجاحظ وابن المقفع وبديع الزمان الهمذاني. كما بدا لي أن أعلامًا في الشعر العربي كذلك غيّبوا عن هذه البرامج، نظير مجموعة من شعراء أصفهان المنسيين الذين أبدعوا في وصف الطبيعة فضاهوا ابن الرومي والصنوبري. لذلك كتبت حول هؤلاء مقالا في مجلة العربي (العدد 604/ مارس 2009م) أسترعي نظر أقسام اللغة العربية وآدابها بالجامعات العربية للنقص المشار إليه. أما في شأن قابوس فقد كلّفت أحد طلابي في الماجستير في منتصف الستينيات من القرن العشرين بكتابة رسالته حول قابوس وكتابه «كمال البلاغة».

          واليوم، أدعو الأقسام المذكورة إلى عقد جلسات أكاديمية تُعيد النظر في تراث العربية، وتجبر النقص المتمادي في برامجها التدريسية، تبيانًا لحقيقة الإبداع فيه وتنشئة لطلاّبنا على مواطن الجمال والإبداع في هذا التراث.
-----------------------------------
* أستاذ دراسات عليا في الجامعات اللبنانية - الأمين العام للمجمع الثقافي العربي.

 

فكتور الكك*   
  




مقبرة ابن سينا





برج قابوس في بلدة كناباد





خراسان - خريطة تاريخية