من المكتبة العربية: البنى الحكائية في أدب الأطفال العربي الحديث

  من المكتبة العربية: البنى الحكائية في أدب الأطفال العربي الحديث
        

عرض: عبدالمجيد زراقط*

          صدر أخيرًا في سبتمبر عام 2012، في سلسلة عالم المعرفة (رقم 392) التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، كتاب «البنى الحكائية في أدب الأطفال العربي الحديث»، تأليف د. موفق رياض مقدادي.

          يكتسب البحث النقدي في موضوع أدب الأطفال العربي الحديث أهمية كبرى، وذلك لأن الدراسات النقدية فيه قليلة، إن لم نقل نادرة، وما يعزّز هذه الأهمية اعتماد الباحث، في هذا الكتاب، كما يقول، منهجًا نقديًا حديثًا هو نظرية السرد الحديثة.

          إنّ إدراكنا لهذه الأهمية المزدوجة: أهمية الموضوع وأهمية المنهج المعتمد في نقده، علاوة على سعة انتشار كتاب «عالم المعرفة»، وحرص المؤسسة التي تصدره على مستوى علمي رفيع لمنشوراتها، جعلنا نحرص على إجراء هذه المقاربة النقدية، وتقديمها للقرّاء.

          يثير عنوان الكتاب ومصطلحاته أسئلة: أولها: لم اختار الباحث مصطلح «الحكائية»، نسبة إلى «حكاية»، وليس مصطلح «قصصية» نسبة إلى قصة، أو مصطلح «النص القصصي»، ومصطلح «الحكاية»، كما هو معروف، في النقد الأدبي السردي، يعني المادة الأولية للقصة، أو الوقائع التي يتحول بها القاص إلى نص قصصي، ما يقتضي، إن أراد الباحث دراسة النص القصصي، وليس مادته الأولية، أن يدرس البنية القصصية وليس الحكائية؟

          وثانيها: هل يشمل مصطلح «أدب الأطفال» المستخدم الشعر القصصي والقصة القصيرة (الأقصوصة) والقصة القصيرة جدا والرواية المسرحية؟ يبدو أن عنوان هذا الكاتب يجيب بالإيجاب عن هذا السؤال، ما يثير إشكالية منهجية مفادها أن بنية كل نوع من هذه الأنواع الأدبية تختلف عن بنية النوع الآخر، فهل تم حل هذه الإشكالية المنهجية في البحث؟ وكيف؟

          تفيد قراءة الكتاب أنّ هذه الإشكالية لم تلحظ أبدًا، ولم يتم التطرق إليها.

          وثالثها: كيف يمكن لكتاب واحد، عدد صفحاته 215 صفحة، أن يتبيّن البنى الحكائية في نماذج أدب مثل أدب الأطفال العربي الحديث الذي تتعدّد أنواعه، وتكثر إصداراته، وهي إصدارات لا تنفك تتوالى منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى اليوم، وفي أقطار الوطن العربي جميعها، وقد غزرت في الآونة الأخيرة حتى كادت تساوي ما يصدر للكبار؟

          وهنا لا تفوتنا ملاحظة مفادها أن الباحث لا يكتفي بالاستشهاد بنصوص من أدب الأطفال العربي الحديث، وإنما يستشهد، أحيانًا بنصوص من الأدب الغربي، وليس من الأدب العربي، الحديث فحسب (ص54)، وبنصوص غير قصصية وغير موجهة للأطفال، (ص87) على سبيل المثال، وبقصة من الأدب العربي القديم (ص89)، غير أنه في دراسة المكان والزمان يقتصر على دراسة قصص الأطفال العرب (ص130)، هكذا تتسع مساحة البحث وتتنوع، ما يجعلنا نقول: إنّ إنجاز هذا البحث، كما ينبغي، غير ممكن.

          وإن كان من إصرار على إجرائه، بوصفه رسالة أو أطروحة جامعية، كما يبدو، فإن ذلك يقتضي إجراء عمليات منهجية منها: تصنيف الأنواع القصصية، «مرحلة» تاريخ كل نوع من هذه الأنواع، «نمذجة» نصوص كل مرحلة، واختيار النماذج الأكثر تمثيلاً وتسويغ ذلك منهجيًا، إجراء دراسة نصية تزامنية تعتمذ المنهج السردي البنيوي للنماذج المختارة، إجراء دراسة نصية تزامنية تعتمد المنهج السردي البنيوي للنماذج المختارة، إجراء دراسة نصية تطورية للنتائج التي توصلت إليها الدراسات التزامنية، الخلوص إلى نتائج تتيح بلورة «البنى الحكائية»، وهكذا يقدم الباحث أطروحته الجديدة فيسهم في كتابة تاريخ أدب الأطفال العربي الحديث بناء على أساس نقدي.

في صعوبة البحث وحلّها

          وإذ تفيد قراءة الكتاب أن البحث لم يجر أي عملية من هذه العمليات المنهجية يُطرح السؤال: كيف تمكّن الباحث من إنجاز مهمته المتمثلة بدراسة البنى الحكائية؟ وهل قدّم «أطروحة» جديدة تتمثل في كشف البنى الحكائية.. وبلورتها؟

          نعود، بغية الإجابة عن هذا السؤال، إلى الكتاب، فنجد الباحث يصدّر مقدمته بالحديث عن صعوبة البحث في هذا الموضوع، فيقول: إنه عمل صعب، «لأنه متسع الجوانب، متعدد الزوايا»، لكنه لا يلبث أن يضيف: «إن الصعوبة تكمن في قلة الدراسات في مجال البنى الحكائية لأدب الأطفال» (ص7 و9).

          من الواضح أن الجملة مرتبكة، وتحتاج إلى إعادة صياغة لتؤدي المعنى، وهو أن صعوبة هذا العمل تتمثل في أمرين: أولهما اتساع الجوانب...، وثانيهما قلة الدراسات.

في نظرية السرد الحديثة وتطبيقها

          لا يتحدث الباحث عن كيفية حله لصعوبة «اتساع الجوانب وتعدد الزوايا»، وإنما يذكر أنه سيطبق نظرية السرد الحديثة» في دراسته.

          وتفيد قراءة الكتاب أن الباحث لم يطبق هذه النظرية، كما تقتضي أصول البحث البنيوي السردي، وإنما قلب الدراسة رأسا على عقب، فبدلا من أن ينطلق، بغية تبين بنى النصوص القصصية، من النصوص نفسها مطبقا إجراءات النظرية السردية الحديثة في دراستها، فيصل إلى تبيّن البنى وبلورتها، انطلق من بنى مستقاة من نصوص أخرى، ونصّ عليها، كما وردت في هذا المرجع أو ذاك، ثم انتقى نصوصًا عربية، انتقاء غير ممنهج، وقدمها بوصفها شواهد توضح وتؤيد ما نصّ عليه مسبقا.

          لا يخفى أنّ هذا المنهج، في الدراسة، منهج آخر سوى المنهج السردي البنيوي، إنه منهج «تنظيري انتقائي» قد يكون صالحا للتعليم: يشرح المدرّس النظرية المعروفة، ويقدم الشواهد. وهكذا نكون إزاء تقديم معرفة محصلة مسبقا، يقتصر دور مقدمها على جمع المادة وتبويبها وعرضها وتقديم الشواهد، وليس في هذا أي أطروحة جديدة، ذلك أنه، إن أراد الطالب - الباحث أن يقدّم معرفة جديدة، فعليه أن يضيف إلى هذه المعرفة المتداولة أطروحته هو، أي أطروحة ذات خصوصية، وهذا لا يتأتى إلا من طريق الانطلاق من النصوص واعتماد إجراءات حديثة في دراستها.

          وهنا يتجلى الفرق الكبير بين منحيين مختلفين في الإفادة من المناهج الغربية الحديثة: أولهما يتبنى النتائج التي توصّل إليها الغربيون، ويفتّش عما يشبهها ويؤيدها في نتاجنا الأدبي، وثانيهما يعتمد إجراءات المناهج الغربية في دراسة نصوصنا، ويتوصل إلى نتائج جديدة، تمثّل خصوصية هذه النصوص، وبذلك تقدم أطاريح جديدة، ويكتب تاريخ أدبنا المختلف عن تاريخ الأدب الغربي.

أمثلة دالة: مقاييس ونصائح وصفات

          نحتاج، بغية بيان ما نذهب إليه، إلى تقديم أمثلة دالة، نذكر فيها ما يفي بالحاجة في ما يأتي:

          - يأخذ ما يقول «جنيت» عن سرعة النص مقياسا ويطبقه على النص، فيقول: «.. وهي التي تسمى سرعة النص، عند جنيت، يصنفها تحت أربع حركات، ستتم دراستها من خلال تطبيقها على قصة علاء الدين لكامل كيلاني» (ص154).

          - يقدم النصائح التي ينبغي أن يتبعها الأديب، فيقول: «.. ولكننا ننصح الأديب الذي يكتب للناشئة بـ .. «(ص60 وراجع: ص103)، ويعدد الجماليات التي ينبغي أن تتصف بها اللغة في حكايات الأطفال (ص65)، ويقرّر ما يجب أن تحمله القصص من عناوين(ص68) وما «يجب على القصة، التي تجري في بيئة معيّنة أن تقدم..» (ص140)، ويحدد معايير الملاءمة وما ينبغي أن يأخذ كاتب الأطفال به.. (ص53).

التناقض في النصائح والوصفات وأسبابه

          ويبدو واضحا أن ما ينصح به الباحث، أو يوجبه، أو يقرره..، يتناقض أحده مع الآخر، في كثير من الأحيان، ومن نماذج ذلك نذكر أنه ينصح بتدخل الراوي، فيقول: يحتاج الطفل «إلى شرح وتفسير وتعليق لأنه لا يدرك المقصود إلاّ من خلال تدخل الراوي في كثير من الأحيان» (ص80) ويقول: «بينما لا يضرّ تدخل الكاتب في أدب الأطفال..» (ص82)، ويقول: «وكما هو معلوم، فإن الراوي - في أدب الأطفال - يبذل قصارى جهده كواعظ ومعلم، ويستغل كل الوسائل المتاحة لتصل المعلومة للطفل الملقّن..» (ص84).

          يلاحظ في هذه النصائح، أولاّ، الخلط بين الراوي والكاتب، وثانيًا الخلط بين الأدب والكتابة التي تقدم معرفة مباشرة من نحو أول، والكتابة - الموعظة من نحو ثان، وثالثا أن الطفل لا يلقن عندما يتلقّى قصة، فالأدب يقدّم معرفة جمالية، والوظيفة الجمالية هي التي تحدد نوعه بوصفة أدبًا. ويفاجأ القارئ بأن الباحث يقرر ما يناقض ما ذهب إليه، فيقول في موقع آخر: «.. فالقصة توفّر للطفل أسلوبًا للمعرفة بطريقة غير مباشرة، لأن الطفل يضيق بالمعرفة المفروضة عليه بطريقة مباشرة»، ثم يقدم شاهدًا يثبت صحة ما يقوله، وهكذا يقرر ويستشهد كما يفعل في سائر فقرات بحثه.

          يعود هذا التناقض إلى أمور عدة: أولها، كما قلنا آنفًا، طبيعة الدراسة، التي تسقط مفاهيم على النص، والصحيح هو استقاء هذه المفاهيم من النص نفسه، إذ ليس من وصفات لما ينبغي أن يكون «الأولى» في الأدب بخاصة والإبداع بعامة، وثانيًا: مفهوم أدب الأطفال الذي ينطلق الباحث منه، فهو يقول على سبيل المثال: «فأدب الأطفال - باختصار - هو ما يقرأه الأطفال بإعجاب وتقبّل» (ص45)، وهذا تعريف غير صحيح، إذ يمكن للأطفال أن يتقبّلوا كتابات تاريخية أو جغرافية أو.. ويعجبوا بها، فالأدب إبداع لغوي، تهيمن فيه الوظيفة الجمالية، في المقام الأول، وإن كان من تميّز لأدب الأطفال، فهو أنه يتوجه لمتلق معروف، تمثل قدرات تلقيه عاملاً أساسًا من عوامل تشكّل هذا الأدب الذي يكتب خصيصًا له. وثالثًا: حشد الاقتباسات وتبنيها جميعها على الرغم مما يوجد بينها من تباين وتناقض.

الركون إلى الاقتباسات

          وفي ما يتعلق بمفهوم أدب الأطفال، فقد خصص الباحث الفصل الأول من كتابه لـ«أدب الأطفال العربي»، فتحدّث عن المصطلح والجذور والنشأة والتطور، والنوع الأدبي، واقتطف من الكتب التي بحثت، في هذا الموضوع، مقتطفات، عرضها في سياق ذي إيقاع سريع، مليء بالقفزات، ويلم إلمامًا بالقضايا والمسائل.. التي كُتب فيها الكثير..، فيكتفي بالإشارات وتعداد الأسماء في كثير من الأحيان. وقد اقتبس تعريفات لأدب الأطفال تختلف عن تعريفه الذي ذكرناه قبل قليل، غير أنه لم يبلور مفهومًا ينص على الوظيفة الجمالية، ولعل هذا الركون إلى الاقتباسات من دون تعمّق وتوسّع في البحث ونقاش.. هو الذي جعله يقرّر، وهو يتحدث عن نشأة أدب الأطفال العربي: أن نظرة الوطن العربي تغيرت إلى مرحلة الطفولة، «وذلك بتأثير من نظرة العالم الغربي المتقدم، واهتمام المنظمات العالمية بالطفل وكل ما يهمّه» (ص23). وهذا التقرير غير صحيح، فعامل واحد هو التأثّر بالغرب لا يشكّل ظاهرة ولا ينشئ أدبًا جديدًا، ما يفعل ذلك هو التجربة الحياتية بمختلف مكوّناتها، ومنها تطور الحياة المعيشة والتأثر بالغرب، والعودة إلى التراث

بنية الكتاب: أنموذج آخر للانفصام بين النظرية والتطبيق

          تكفي الإشارة، في هذا المقام، إلى هذه القضية لأن البحث فيها يطول، ونعود إلى مقاربة الكتاب، فنتحدّث عن بنيته المفترض أن تشكّلها النظرية السردية التي يقول الباحث إنه يعتمدها، فنلاحظ أن هذه البنية تمثّل أنموذجًا آخر من الانفصام بين النظرية والتطبيق الذي بيّناه في ما سبق.

تدرّج البحث: مسار من الاقتباسات

          يلاحظ، كما قلنا قبل قليل، أن مسار البحث يتمثّل في حشد من الاقتباسات، لا يخلو من اختلاف أو تباين، تجمع هذه الاقتباسات وتبوّب وتعرض متتابعة من دون أي توقف حيالها، ومن دون ذكر أسماء أصحابها، في أكثر الحالات، فيظن القارئ أن ما يرد من أقوال هو للمؤلف، ثم يفاجأ برقم الإحالة إلى الهامش الذي وضع في آخر الكتاب، ومن النماذج الدالة نذكر، على سبيل المثال، أن المؤلف يصدّر فصل «البيئة القصصية» بقول ينسبه لنفسه (ص129) ثم نفاجأ في المتن بأن هذا القول لسعيد يقطين (ص130 هامش5).

في التبويب والتصنيف والتعريف

          نلاحظ الأخطاء الكثيرة في التبويب والتصنيف والتعريف، ومن نماذج ذلك تصنيفه الشعر التعليمي شعرًا غنائيًا بعد تقسيمه الشعر إلى شعر قصصي وغنائي ومسرحي، وخطأه في تعريف هذا الشعر (ص31)، وعدم دقته في اختيار الشواهد الدالة على تعريفاته، فحوارية «الصياد والعصفورة»، على سبيل المثال، ليست شعرًا مسرحيًا، وكذلك فإن تقسيمه القصص النثري ليس مبنيًا على معيار علمي محدد ودقيق ينظر إلى بنية النص وخصائصه، وأن تعريفه لقصص الخيال العلمي ليس صحيحًا، فهذا القص لا يزوّد الأطفال بـ«المعارف العلمية النظرية والتطبيقية كما جاء في الكتاب (ص39) وإنما هو أدب يروي حكايات منجزات علمية لم يحققها الإنسان بعد، انطلاقًا من معطيات علمية..، والقصة العلمية Science Stroy تروي حدثًا علميًا حدث فعلاً في بناء قصصي متخيّل، أما قصة الخيال العلمي Science Fiction فتروي حدثًا علميًا لم يحدث فعلاً، وإنّما يُتخيل حدوثه في بناء قصصي متخيل، وكذلك فإن تمييزه بين العجائبي والغرائبي غير دقيق (راجع: ص36)، فالتمييز الصحيح هو ما يقوله تودوروف: «إذا قرر القارئ أن قوانين الواقع تظل سليمة وتسمح بتفسير الظاهرة نكون أمام جنس غريب، أما إذا قرر أنه ينبغي قبول قوانين جديدة للواقع والطبيعة لتفسير الظاهرة، فإننا نكون أمام جنس العجيب» (مدخل للأدب العجائبي، القاهرة، دار شرقيات، ط.1، ص19).

          ويبدو تعريفه للراوي الذي يصدّر به الفصل الثالث (ص69) تعريفًا يصدق في قسم منه على الراوي العليم فحسب، وإذ يقدّم نماذج/شواهد، يقدم أنموذجًا يرويه الراوي العليم بضمير الغائب بوصفه شاهدًا على الراوي الشخصية (ص75) ويخلط بين الراوي والمؤلف (ص101).

في الختام

          وفي الختام، يمكن القول: الكلام يطول إن أردنا التفصيل..، لكننا نكتفي بهذا القدر الذي تقتضيه المقاربة النقدية تقدّم معرفة نقدية بهذا الكتاب، وتثير أسئلة تقتضي التداول والحوار اللذين نحن في أمس الحاجة إليهما.
----------------------------------
* باحث من لبنان.

 

 

تأليف: د. موفق رياض مقدادي