من المكتبة الأجنبية: كيف يعمل الاستبداد من الداخل? (1978 – 2001).. تسجيلات صدام

 من المكتبة الأجنبية: كيف يعمل الاستبداد من الداخل? (1978 – 2001).. تسجيلات صدام
        

عرض: أمير الغندور

          يقول وليم فولكنر: «الماضي لا ينتهي. بل إنه حتى لا يمضي أبدا». وخلال غزو العراق عام 2003، وضعت قوات التحالف يدها على آلاف التسجيلات الصوتية السرية التي توثق ما كان يدور داخل دائرة صنع القرار في عراق صدام حسين. فحصلت على آلاف من التسجيلات الصوتية لمقابلات ولقاءات واجتماعات ومكالمات هاتفية دارت بين صدام حسين ووزرائه ومساعديه. واعتبرت قوات التحالف هذه التسجيلات بمنزلة نافذة يمكن من خلالها إلقاء نظرة على طريقة إدارة الأحداث داخل نظام صدام حسين، باعتباره أحد النظم الاستبدادية التي عرفها العالم.

          ولهذا عملوا على ترجمة هذه التسجيلات إلى الإنجليزية بهدف تحليلها ومعرفة الدوافع التي كانت تحرك صدام حسين ونظامه في الحكم.

          وقد أعد مادة هذا الكتاب معهد التحليلات الدفاعية Institute of Defense Analyses، بغرض تقديمه إلى مكتب السياسات داخل وزارة الدفاع الأمريكية. ويبدو أن قرار نشر ملخصات ومختارات من هذه التسجيلات في كتاب وطرحه لجمهور القراء يهدف إلى تشجيع الباحثين والمهتمين على تشخيص المشكلات التي كان نظام حكم صدام حسين يعاني منها. فقد تمكن المترجمون من تحديد صوت صدام حسين في التسجيلات. وجدوا أنه كان يدلي بعبارات تدل على ذكاء كبير، لكنها أيضا كانت تدل على انفصال أكبر عن الواقع، بحيث إنه يمكن وصف «نظرة صدام للعالم» على أنها تعبر عن مزيج من الدهاء والجنون معا. وهذا المزيج كان يسمح له بممارسة درجات عالية من الاستبداد على شعبه والعدوان على الدول المجاورة له، من ناحية، بينما كان يسمح له أيضا بأن يتوصل إلى بلورة حلول تحتوي على قدر كبير من الدهاء بما يتجاوز أغلب ما كان يطرحه المستشارون الموجودون حوله.

          فمثلا تؤكد التسجيلات أن صدام حسين اعترف للمقربين منه بأنه لا يمتلك أسلحة دمار شامل. إلا أن هذه الحقيقة لم تمنعه من أن يأمر ضباطه بتعمد عرقلة عمل مفتشي الوكالة الدولية للطاقة، وكأنه يتظاهر بأن لديه بالفعل ما يريد إخفاءه، ولظنه بأن التفتيش الدولي الذي لا يجد أسلحة تستدعي القلق سيقلل من الكبرياء التي تقدس القوة. وصحيح أن صدام حسين لم ينجح في اتباع هذا الأسلوب المراوغ حتى النهاية، إلا أن نفس أسلوبه هذا استمر وأثبت فاعلية كبيرة عندما تلقفته عدد من الدول الاستبدادية الأخرى بعد سقوط صدام حسين، حيث طبقت نفس هذا الأسلوب المراوغ في علاقاتها مع المجتمع الدولي بقدر أكبر من النجاح الذي حققه صدام حسين نفسه.

تسجيلات مستبعدة

          ويقع الكتاب فيما لا يزيد عن أربعمائة صفحة من القطع المتوسط، وينقسم إلى ثمانية فصول وخاتمة. وهو ما يعني أن المقتطفات التي تضمنها الكتاب خضعت لاعتبارات كثيرة حتى تم اختيارها للنشر، مع استبعاد الجزء الأكبر من التسجيلات التي لم تنشر والتي وصلت إلى آلاف الصفحات كما يقول مؤلفو الكتاب. فمثلا يخبرنا مؤلفو الكتاب أنه من ضمن التسجيلات التي تم استبعادها تلك المتعلقة بالعلاقة مع تنظيم القاعدة. إلا أن المؤلفين ألمحوا إلى أن التسجيلات المستبعدة سوف تكون متاحة للجمهور مثلما حدث مع الكتاب الحالي، بمجرد أن يتم استيفاء إجراءات محددة، لم يفصحوا عنها. لكنهم يرون أن الإفصاح عن كل التسجيلات هو مسألة مهمة للدراسات التاريخية، بدرجة لا تقل أهمية عن الإفصاح عن التسجيلات التي استحوذ عليها الحلفاء بعد هزيمة ألمانيا هتلر في الحرب العالمية الثانية، لأنها تساعد على رسم صورة أوضح للتاريخ المعاصر. لكن الفارق هو أنه لم يعثر لهتلر إلا على 11 دقيقة فقط من التسجيلات السرية مع المقربين، أما في حالة صدام، فيبدو أن تطور تقنيات التسجيل وإتاحتها وحرص صدام حسين نفسه عليها، قد وفر مادة غزيرة عن أحاديثه. فالتسجيلات التي عثر عليها تمتد من الفترة 1978 وحتى 2003.

          جاءت فصول الكتاب عبارة عن مقتطفات من تسجيلات صدام حسين للحوارات بشأن موضوعات ثمان هي: الولايات المتحدة الكيان الصهيوني العالم العربي قادسية صدام (أو الحرب العراقية - الإيرانية) أم المعارك الأسلحة الحربية - الحصار والعقوبات الاقتصادية حسين كامل. ويحتل كل فصل ما لا يقل عن حوالي 30 40 صفحة. ويقر المؤلفون بأنه يمكن اعتبار مادة هذا الكتاب بمنزلة ملخص لحوالى سبعة آلاف ملف صوتي، تم اختصارها إلى 2300 ساعة، تشعبت فيما يقرب من 87 حديثا أو اجتماعا من الاجتماعات المسجلة التي كان صدام حسين يمثل المتحدث الأساسي فيها منها.

هوس التسجيل

          ولا يعرف بالضبط سبب إقدام صدام حسين على تسجيل هذه الساعات الطويلة من أحاديثه ومباحثاته السرية مع الآخرين. إلا أن تاريخ الرؤساء يمتلئ بمثل هذه الأمور. فمن المعروف أن تسجيل الأحاديث الصوتية قد وصل إلى درجة الهوس عند الرئيس الأمريكي نيكسون، الذي كان يسجل كل ما يجري من أحاديث في البيت الأبيض، دون علم المتحدثين معه. وهو ما أدى إلى فضيحة «ووتر جيت».

          لكن في حالة تسجيلات صدام حسين، يبدو أن أغلب المتحدثين كانوا على علم بأنه يقوم بتسجيل اجتماعاتهم ومحادثاتهم معه. لأن هذا شيء متوقع في نظام حكم يقوم على محاسبة المجتمعين والمتحدثين على كل كلمة يقولونها من طرف قائد واحد.

          بل إن أحد التسجيلات بتاريخ 7 يناير 1981، يوثق أن صدام حسين أصدر الأمر التالي حرفيا: «من الآن فصاعدا، دعونا نسجل كل المحادثات الهاتفية». وكان ذلك أثناء الحرب العراقية - الإيرانية. وهو ما يعني أن التسجيلات الصوتية كانت مسألة معتمدة وسائدة ومعروفة لدى كثير من القادة العراقيين.

          لكن كل هذا لا يجيب عن السؤال: لماذا أقدم صدام حسين من البداية على تسجيل هذه الأحاديث؟ فلا توجد أية إجابات حاسمة عن هذا السؤال داخل التسجيلات نفسها، مما يفتح الباب للتخمينات غير المؤكدة.

          فأغلب التسجيلات الصوتية توثق الاجتماعات الأساسية في العراق، مثل: اجتماعات «مجلس قيادة الثورة» العراقي، واجتماعات مجلس الوزراء العراقي، وهو ما سهل مهمة تحديد بعض الأسماء ونسبها إلى الأصوات الموجودة داخل هذه الاجتماعات. كذلك تم العثور على «تدوينات» و«تفريغات» ورقية عراقية لبعض هذه التسجيلات الصوتية، مما يدل على وجود علم لدى أطقم سكرتارية الرئاسة والمخابرات بوجود هذه التسجيلات، بل وقيامهم بتوظيفها وتوثيقها سواء بغرض الحفظ أو لاستخراج معلومات منها، بناء على أوامر من الرئيس.

          كذلك هناك إشارات وأقوال واضحة في التسجيلات يأمر فيها صدام حسين بوقف التسجيل عند هذه النقطة، وكان ذلك تحديدا فيما يخص «المفقودين من الكويت والسعودية والعراق»، حيث تأتي كلماته في هذا السياق حاسمة لتؤكد أن هذه المسائل يجب عدم تسجيلها. وهو ما يعني أن أغلب هذه التسجيلات الصوتية تقوم على قدر كبير من سيطرة وتحكم صدام حسين في اختيار ما يتم تسجيله بعناية، وكأنه يريد أن يترك في سجلاته تسجيلات عن أحداث محددة وموضوعات محددة، مع استثناء أحداث وموضوعات أخرى.

تسجيلات غير مفهومة

          تتمثل إحدى الصعوبات الأخرى التي واجهت مؤلفي الكتاب، في عدم وجود أي نوع من الفهارس أو القوائم بأعداد أو أنواع التسجيلات الصوتية. كذلك توجد فجوات كثيرة في التسجيلات ناجمة عن نجاح نظام صدام حسين في إتلاف كثير من التسجيلات قبل انتصار قوات التحالف.

          وكل هذه الأمور تعني أنه من الضروري قراءة هذه التسجيلات الصوتية بكثير من الحذر. ذلك أن المذكور فيها هو بالضبط ما أراد صدام حسين توثيقه، مما يعني أنها تمثل إلى حد كبير ما أراد صدام حسين أن يتركه وراءه. لذا فينبغي التعامل مع هذه التسجيلات الصوتية وفق آليات منهجية موضوعية مثل: آليات تحليل المضمون وآليات تحليل الخطاب. دون أخذ التصريحات والعبارات التي ترد فيها على أنها تمثل «حقائق» أو توصيفات تعبر عن قناعات من يصرحون بها من المتحدثين. بل هي بالأجدى تمثل أدواتهم ووسائلهم وأساليبهم الإقناعية والحوارية، التي تتطلب إعمال مناهج تحليل وتفكيك الخطاب والمضمون، بهدف فهم الرؤى التي يتبناها أصحابها.

          فمثلا داخل أحد الأحاديث المسجلة الموجودة في الكتاب يصرح صدام حسين بأن الأمريكيين هم من أشعلوا ونفذوا الثورة الإيرانية ضد شاه إيران. وهذا التصريح يجد قبولا عاما لدى كل القادة العراقيين الموجودين في الاجتماع الموجود على التسجيل الصوتي. وهنا يجب التعامل مع هذه التصريح، لا على أنه يمثل «حقيقة» واقعية سليمة، بل على أنه يمثل «آراء» يتبناها صدام حسين (ومحادثوه) لهذه المسألة، أو على أنه يمثل «تصويرًا» أو تصورًا مسيسًا، يطلقه صدام حسين على أصل الثورة الإيرانية بحيث يمهد ويبلور لدى أتباعه ومحادثيه اعتماد طريقة معينة في التعامل معها دون طريقة أخرى. ولذا فمن الضروري التعامل مع هذه التسجيلات على أنها تمثل «تصورات» أصحابها أو وسائلهم الإقناعية والخطابية، لا على أنها تمثل حقائق يصرحون بها. وهذه مسألة على درجة كبيرة من الخطورة والأهمية.

          ذلك أنه لو كانت التكنولوجيا قد وفرت لنا القدرة على الدخول إلى كميات وافرة من التسجيلات والنصوص التي يكتبها الناس، إلا أنها لم توفر لنا بعد قدرة مماثلة على الدخول إلى عقول وأذهان هؤلاء الناس لنعرف بالضبط فيم يفكرون، وهل هم يعنون بحق ما يقولون وما يكتبون أم أن كلماتهم ونصوصهم هي مجرد أراء ووسائل خطابية يستخدمونها لأغراض غير مباشرة؟

          لذا فإن إتاحة هذه التسجيلات الصوتية في حد ذاتها لا تمثل ضمانة للوصول إلى فهم حاسم بخصوص ما كان صدام حسين وأتباعه يفكرون فيه حقيقة، بل هي بالأجدى تعد وسيلة للاطلاع على «آرائهم» ووسائلهم الحوارية وطرقهم الإقناعية وآلياتهم الخطابية التي كانت متداولة فيما بينهم خلال اجتماعاتهم.

          لا يعني ذلك أن هذه الوسائل الخطابية والإقناعية كانت بالضرورة «احتيالية»، كما لا يعني أن هذه الآراء الخطابية كانت تبطن عكس ما تظهر. بل ما نعنيه هو أن أغلب هذه «الآراء» التي تظهر في التسجيلات الصوتية كانت تعبر عن قناعات أصحابها بشكل لم يتعرض للنقد بشكل كاف، ربما نتيجة لثقافة الاستبداد التي كانت تهدد القريب من صدام حسين بنفس القدر الذي تهدد به المواطن البعيد عن مراكز صنع القرار. وهو ما أدى إلى هيمنة «آراء» محددة أصبح من المظنون أنها ستلاقي قبولا وارتياحا لدى القائد الذي لا ينبغي مجرد التفكير في معارضته أو طرح أفكار بديلة ربما تظهر أفكاره وكأنها متهافتة أو طفولية أو يكشف كونها آراء تستند إلى انفعالات طفولية متطرفة تنحو إما ناحية الحب المتعصب أو ناحية الكراهية المتطرفة، دون أن تصادف ما يكفي من حواجز الجدل العقلاني أو من عوائق التفكير الموضوعي التي كان من الممكن أن تعمل على غربلة هذه الآراء وتحسينها وعقلنتها، مثلما في آليات الاختيار والاستبعاد الديمقراطية التي تحقق حدًا أدنى من الاتفاق المجتمعي بين القيادة والمواطن البعيد عن مراكز صنع القرار في ضمان صحة القرارات الصادرة. بل كانت القرارات في نظام صدام حسين تتخذ بناء على آراء وتحيزات القائد الأوحد ودائرته الصغيرة التي تصنع القرار، والتي غالبا ما كان يتم تصفية أفرادها بين الحين والآخر لضمان كتم الأصوات المعارضة وهيمنة تصور أحادي لا يقبل النقد فيما يتبناه من توجهات وما يصدره من قرارات تتحيز لاعتبارات الحب والكراهية الطفولية التي تنتج التعصب اللاعقلاني، مع بقاء المداولات والنقاشات وكأنها أشبه بألعاب حوارية لطيفة هدفها إمتاع القائد الأوحد بحيث تحوم حول نفس المسار الذي كان القائد يتوخاه من البداية، لكن بطريقة التفافية تتعمد ممارسة ألعاب حوارية ترفيهية تعمل على تحسين وتحصين القرارات التي كان يمكن للقائد الأوحد أن يتخذها دون أخذ رأي أحد من مستشاريه. فهنا تتلخص مهمة المستشارين في تزيين هذه القرارات وتحصينها وبحث طرق تنفيذها وتحمل بعض اللوم عما قد يكون يعطبها من مشكلات، دون أن تمتد هذه النقاشات بالمرة ناحية تغيير الرؤى الأصلية التي لا يسمح بالبحث في وجود بدائل لها، لأن مسارًا بديلاً مثل هذا لابد أن يأتي على حساب فضح حدود القيود التي تضعها الثقافة الاستبدادية على كل المشاركين فيها.

تسجيلات المؤامرة

          لذا ربما كانت الكلمة أو الفكرة الأكثر حضورا في هذه التسجيلات هي: المؤامرة.

          ذلك أن طبيعة النظم الاستبدادية التي تلتف فيها دائرة صغيرة حول قائد يحتكر صنع القرار للمجتمع، أنها بالضرورة تشعر «بغيرية» موقعها الصغير العدد مقارنة بالمحيط الأكثر عددا الموجود خارجها. فنظرا لسمات موقعها نفسه ونظرا لكونها تحرص على التجانس الشديد في الداخل، فلابد أن يمثل الخارج بالنسبة لها مصدر الخطر الرئيس. وهذا سواء كان هذا الخارج يتمثل في الدول المجاورة أو حتى يتمثل في مجتمعها نفسه الذي تعيش فيه. لذا فغالبا ما تتبنى الدوائر الاستبدادية نظرة صراعية غير مهادنة نحو الخارج، وبخاصة إذا ما وُجدت عوامل موضوعية طائفية ودينية تعمل على ترسيخ هذه النظرة مع تقليص وتغييب فرص العدول عنها. وبهذا يظل التعارض بين الداخل والخارج هو أحد الكوامن الأساسية في بنية وطبيعة وثقافة الدوائر الاستبدادية الصغيرة، التي تترسخ في إطار هويتها وفي طريقة رؤيتها لنفسها وفي درجة انسجامها الداخلي وفي التفافها الطوعي حول شخص واحد، وهو ما يوضع بمجمله في مقابلة ومعارضة ومخالفة مع تشعب وتعدد وتنامي الخارج الذي تنظر إليه الدائرة الاستبدادية الصغيرة - على أنه يتآمر دوما ضدها بهدف حلها وضرب انسجامها وتخريب الأهداف التي تسعى لتنفيذها وفرضها، رغما عن معارضة الخارج. فتكون النتيجة الطبيعية هي التوجس المرضي من المؤامرات والاستمرار في تصورها وتخيلها والتحسب لها في كل خطوة.

بيانات الكتاب:

The Saddam Tapes, the Inner Workings of a Tyrant s Regime 1978 2001

Edited by: Kevin M. Woods, David D. Palkki, Mark E. Stout

Cambridge University Press, 2011

 

 

تأليف: كيفين وودز، وديفيد بالكي، ومارك ستاوت