جماليات الفضاء: وجيه نحله .. وتجربته التشكيلية

جماليات الفضاء: وجيه نحله .. وتجربته التشكيلية
        

لعب الضوء دوراً كبيراً في إدراك هذا الفنان للحياة والعالم والأشياء والحروف.

          في إحدى رسائله، وصف فان جوخ كيف أنه لم يستطع تحقيق غاياته التصويرية إلا من خلال التلميحات الرمزية التي ولدتها ألوان معينة.

          وبرأينا، أن اللون لعب دوراً كبيراً ومهماً جداً في إدراك الفنان "وجيه نحله" للحياة والعالم، وللأشياء والحروف ، للسكون والحركة، للثورة والعنف، للبساطة والهدوء.

          ونتفق جميعاً على أنه ليس من الممكن أن نتناول التجارب الإبداعية الطويلة والعميقة للفنان "نحله" دون الإشارة إلى استعمالاته للون كأداة مخاطبة رئيسية، إن كان ذلك في مراحله الحروفية أو في صوفياته النورانية، أو في توجهاته التشكيلية نحو الشفافية والرقة.

          من هذا المنطلق وعند الحديث عن جماليات الفضاء الإبداعي اللوني والنفسي والروحي والنوراني، لا بد من الحديث هنا عن فلسفات جمالية خاصة تعنى بتطابق النور الداخلي للإنسان الخلاق المبدع مع الإشعاع الأبدي المنسوب إلى العوالم الروحية والفضائية الكونية الأخرى، خصوصاً أن نور الإنسان بشكل مطلق يرتبط بصورة رمزية على الأقل بنور آخر هو النور الأبدي، نور الكون ونور الحب ونور التسامي والصفاء، ونور العطاء، ونور الروح الشفافة النظيفة.

          إن مصدر الضوء في الفضاء عند "نحله" عالم بحد ذاته، بعيد عن الأشياء والعناصر والمساحات والاختلاجات المجسّدة بتسحبات لونية أو بانبثاقات ضوئية على عكس مصدر الضوء الذي رأيناه، مثلاً، عند "رمبرانت" والمنبثق من الأشخاص ذاتها، من داخلها ومن عمق روحها، لتضيء الوجوه بنور رمزي خالص.

          وهذا الكلام لا يعني أن القضية هي مسألة نور من الخارج، أو إضاءة ترتطم بسطوح الأشياء عن "وجيه"، إنما المسألة هي " هل استطاع "وجيه" أو لم يستطع إبراز النور الداخلي للأشياء ذاك الذي يشع من داخلها ومن السطوح والمساحات، ومن أجزاء الأجزاء لتصبح مرئية بشكل رمزي ومستقلة بحد ذاتها؟

          وأنا أرى أن نؤجل الحكم في هذا إلى أن أتحدث لاحقاً عن ماهية اللون الرمزي، وماهية اللون التعبيري، وستحكمون ساعتها بأنفسكم، لذلك أضيف الآن متابعاً : إنني أرى أن الموضوعات والهيئات والحروف التي رسمها "وجيه" تُرى بصفتها أطيافاً شبه مادية تسبح متبلورة، ساعية لأن تُنار في المكان الصحيح من الفضاء، وفي الزمان الملائم من هذا الفضاء بواسطة نور الروح الحيوية والخاصة جداً بوجيه نحله.

مهرجان الألوان

          هذا يدفعنا للقول : إن الضوء عند وجيه ليس موجوداً بالضرورة لإنارة فضاء الأشياء والرموز والأطياف، بل يأتي الضوء أحياناً كثيرة عند وجيه كرمز بحد ذاته لذلك الشيء الحيوي الذي سندعوه روح الفنان، روح الإنسان عند هذا الفنان، والنازعة إلى حالة تصالحية مع التسامي والصفاء، ومع الدفء النوراني، لمَ لا وهو القائل: "كلما تسامت الروح عند الفنان، استشفت لوحته الجمال وتألقت بالشفافية".

          والإحساس المتنامي بالشفافية والصفاء والرقة من طرف المتأمل والفنان على حد سواء في عمل واحد هو بمنزلة تلك الرابطة الرمزية التي تربطنا مع الفضاء الضوئي والنفسي لعمل فني مثل أي لوحة من لوحات "نحله"، لكن السؤال المشروع هو : هل حققت كل الأعمال هذه الرابطة الرمزية مع المتأمل؟ والجواب يبقى من حق كل حالة تأملية على حدة، والتعميم هنا يصبح تطبقه عملية قسرية.

          وللاستزادة في موضوع الفضاء الضوئي عند الفنان، اسمحوا لي بالقول بوجود ضوء مصغر عند كل إنسان، ضوء كامن في أعماقه وفي خلاياه وعقله، وهناك فضاء مصغر داخل كل إنسان، وهذا الفضاء المصغر يستمد نسقه من فضاء الضوء الكوني الكبير، فضاء العوالم الماورائية، فضاء النور الأسطع، نور الإله حسب التصوّر الذاتي لكل فرد، وحسب مرجعيته الدينية وثقافته العقائدية.

          وما يدل على ذلك أن الإنسان، وفي كل مكان كثيراً ما رمز للفضاءات الضوئية الإلهية بأضواء رمزية، وبشعلات رمزية للنور الأزلي، وذلك للدلالة على الأصل الخالد.

          من هنا ، فإن نور الفضاء الإلهي الأزلي الكبير والساطع، ونور الفضاء الإنساني المصغر ليسا متناقضين البتة، بل إن الثاني هو صورة مصغرة عن نور الإله، والإشراقة النورانية للأنبياء والقدّيسين وأصحاب الرسائل الإلهية من المبدعين ما هي إلا قبس من الإشراقة الإلهية المطلقة.

          لكن تبقى هناك قضية الوصول إلى الإشراقة الصادقة، والوصول للتجلي الحقيقي، فقد يقصّر مبدع ما في الوصول إلى هذه الإشراقة اللونية أو الفكرية، وقد ينجح آخر في هذا الوصول.

          وفناننا الأستاذ "وجيه نحله" لا بد أنه وبتجربته الطويلة في حمل رسالته الإبداعية السامية، قد وصل إلى شواطئ الإشراقة النورانية الحقيقية، وإن خانته في بعض الأحيان، وهي قليلة، ولأسباب تجهلها، لكن هذا هو حال الإبداع، لا شيء مطلق فيه البتة.

واقعية النور

          في واقعية النور الانطباعي، نجد أن الضوء جاء نتيجة منطقية للواقعية، فنحن نحس بالدفء أو البرودة أو الرطوبة أو حتى بالزمن والفصل والساعة، إذ كان بإمكان "كلود مونيه" إعادة رسم بعض أكوام التين اليابسة مرات عدة في اليوم الواحد، لأن فضاء اللون أو حركة الضوء في هذا الفضاء تتعثّر باستمرار. والفلسفة الضوئية الانطباعية تقترح أن ظاهرة الزوال أو التغير هي الحقيقة الوحيدة في الحياة.

          وفي تجارب الفنان "نحله" لا نحس بوجود مثل هذه الواقعية، وهي لا تسوقنا لرؤية ألوان وأنوار خاصة بالأشياء لتدلنا على ماهيتها، بل استبقى الفنان "نحله" الإحساس بالأشياء، واستبعد الواقع بحدوده، ودفع بكل أشيائه للسباحة في فضاءات متلاطمة من الضوء، وهذا أمر طبيعي لأن "نحله" يسعى بوعي أو دون وعي منه إلى حالة من استشراق غير المرئي وغير المعلوم مع محاولات جادة منه لارتياد المجهول، وأسرار الوجود، وهذه مزايا لا تنكر عنده، ونكون غير منصفين إذا لم ندركها بوعي كامل.

          وهذا لا يدفعنا للحديث عن نوع من السريالية في معالجة "نحله" لأعماله، رغم أن من الأهداف الثابتة للسريالية وضع ما هو عادي، وما هو واقعي موضع تساؤل.

جماليات الحركة عند "نحله"

          بقول المستقبليون : "إننا نعلن أن أعجوبة العالم قد اغتنت بجمال جديد هو جمال السرعة، جمال الحركة وروعتها ..".

          إذن فللحركة جمالياتها، حتى أن بيان المستقبلين نادى بالحركة، وإن كانت مدمّرة على حساب الهدوء، وإن كان سلاماً، وحضوا على الفعل والحركة ضد التأمل السلبي.

          والفنان "نخله" وفي جميع أعماله ، بحث عن الإثارة الناجمة عن الحركة، عن الحركة السريعة، لذلك وبشكل حتمي، فإن جُل أعماله تبدو وكأنها مشاهد ترى من سيارة مسرعة، وهذه السرعة في التنفيذ، وتلك الحركات اللونية العنيفة أوصلت إلينا جماليات ذات طبيعة خاصة، بغض النظر عن الوقوع أحياناً في مطب التكرار، إلا أن الجمالية الخالصة تأتي عنده من جمالية الحركة التي وصلت لي، حتى ليخيّل إليّ أنني سأطلب من المشهد أن يقف ثابتاً في سياق رؤيتي له لا تعرف على عناصره الأساسية، وعلى أبعاده المادية الحقيقية وذلك سعياً مني لقراءته بهدوء.

          الأشياء كلها في لوحات "نحله" وبفعل السرعة والحركة، فقدت صلابتها، وفقدت ماهيتها ووحدتها المادية، وتحطم ثبات الترتيب الفراغي فيها، وذلك لأن إدراكنا الحسّي لها - في جو من التنفيذ السريع للتكونات والمساحات - لم يسمح لنا بالتأكد من نسق الفراغ، ولم نستطع تحديد حقيقته، ولم نستطع تلمّس الأشياء المادية في مواضعها المتغّيرة.

اختصار زمن الرؤية

          والفنان "نحله" يضع جميع أجزاء عناصره متجاورة بطريقة تجعل كل جزء يُعرض وكأنه يشاهد من موضع مختلف، إنه بذلك يختصر بالحركة زمن الرؤية، فنرى الأشياء من أماكن مختلفة وفي لحظة واحدة لأقول في هذا : عندما يعمل اللون بشكل رمزي، فإنه يحرّكنا لتأمل طبيعة الموضوع.

          وفي قيام اللون بذلك، فإننا لا ننكر قابليته التعبيرية لأنه سينقل إلينا مزاج اللحظة المرسومة.

          على كل ، وعلى الرغم من غموض بعض ما قلته، فإنني أضيف: لا بد من التفريق بين اللون الرمزي واللون التعبيري، وذلك كما يلي:

          1 - حين يكون التأثير الرئيسي للون هو إثارة مشاعر نستطيع التعرف إليها كالسعادة والحزن والابتهاج، أو الكآبة والقلق، فاللون هنا تعبيري حصراً.

          2 - أما إذا لم يكن من الممكن التعرّف بوضوح على هذه المشاعر، لأن اللون يحدث استجابة ليست ملموسة، يختلط فيها التفكير التخيلي بالأحلام مع استثارة الذكريات الخاصة الضائعة، عندها، فاللون محمّل بقوة رمزية، مثال : حصان أزرق في لوحة أو أشخاص مدهونون باللون الأحمر على مسرح. والفارق بين اللون التعبيري واللون المرمزي أحياناً هو فارق في الدرجة.

          بعد هذا التوضيح، أترك تحديد ماهية اللون عند "نحله" لمن رأى أعماله وعرفها، أترك هذا وأتوجه إلى الفنان الصديق "نحله" لأقول له وبكل الحب : أرى أنك، يا صديقي العزيز، مأخوذ بسحر الألوان وبشفافياتها، إنك، يا صديقي، مأخوذ تماماً بسحر الألوان وبجمالياتها وإشعاعاتها، لذلك لا بد لك من التحلي بضبط النفس وعدم الانسياق الكامل وراء سحر الألوان وتدرّجاتها وألقها وسطوعها على حساب القيم الجمالية والفكرية والتشكيلية والتعبيرية والرمزية الأخرى، التي تنبثق من عدد كبير من أعمالك، وهي بحاجة إلى رعايتك، عليك يا "وجيه" ألا تنساق مستسلماً لجمال اللون وسحره، عليك أن تسوقه مطوّعاً له ولجمالياته، وشفافياته للتعبير عن أبعاد رسالتك في البعث والتصعيد للصوفية النورانية، وفي مزاوجة الحركة باللون، وفي تلمس أبعاد النوراني، واستشفاف غير المرئي، واكتشاف المجهول، ونحن بانتظار موسيقاك دائماً.

 

راتب الغوثاني