جمال العربية: قراءة في مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين

جمال العربية: قراءة في مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين
        

          في طليعة المنجزات التي صدرت عن مؤسسة «جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري»، مختارات لشعراء الوطن العربي في القرن العشرين، عهدت بها إلى باحثين من كل بلد عربي، لكي يقوموا بهذه المهمة الشاقة والنبيلة، خدمة للإنتاج الشعري من ناحية، وللقارئ العربي الذي يتطلّع إلى الإلمام بأطراف من هذا الإبداع. وراعت المؤسسة تحديد الحجم المخصص لكل قطر عربي، واختيار قصيدة واحدة لكل شاعر، والتمثيل الأصدق لهذا الإبداع الشعري، في القرن العشرين، بكل أجياله ومدارسه وأشكاله، وبخاصة أنه يُعدُّ من أخصب القرون بالشعر، وأكثرها احتشادًا بتيارات التغيير والتجديد، والخروج على المألوف، وخلخلة الأوضاع السائدة فيما سبق من قرون.

          وهأنذا أُشرك قارئ «العربي» معي في هذه القراءة التي تتوقف أمام الجزء الثالث من هذه المختارات، الذي يشمل شعراء سلطنة عمان وقطر وليبيا ومصر، بعد أن كشفت الدراسات النقدية المصاحبة لهذه المختارات، عن طبيعة انطلاق الشعر العماني والقطري والليبي الحديث من مرحلة الاتكاء على الموروث والخضوع للتقاليد الشعرية العربية، في العقود الأولى من القرن الذي وقع عليه الاختيار إلى مرحلة الاندفاع في التجديد والحداثة والإيغال في كثير من التيارات الشعرية التي أنتجتها ثقافات وخبرات وافدة، لا علاقة لها في بعض الأحيان بالموروث الشعري العربي.

          ومن حسن الحظ، أن هذه المختارات الشعرية، حين كانت تُثبت كانت تُلغى، وحين كانت تذكر كانت تسقط من الذكْر. وفرضت ضرورة الاختيار على القائمين بالعمل من الباحثين التزامًا بقدر كبير من الموضوعية والنظرة النقدية المتزنة، حين تتعرض لأهم التحولات والانعطافات، وأبرز قسمات الشعر في كل قطر من الأقطار الأربعة، والمُشترك وغير المشترك بينها من الملامح والاتجاهات. متذكرين دومًا، أنها خطوة في مسار طويل من المختارات، عرفة تاريخ الشعر العربي، منذ الحماسة الكبرى لأبي تمام والصغرى للبحتري، ومفضليات الضبي، ومختارات البارودي، وديوان الشعر العربي لأدونيس، وغيرها من المختارات.

          البدء بالشعر العربي في سلطنة عمان في القرن العشرين يؤكِّد غزارة مادته من ناحية، وتوغّله في مساحة جغرافية ممتدة من عمان وحتى زنجبار، بالإضافة إلى خروجه من دائرة الصنعة والتكلف بتعبير الباحث العُماني إلى أفق الانطلاق والتحرر، وتأرجح الأجيال الجديدة بين ما هو تقليدي وجديد، وانشغال أحدث هذه الأجيال بالمزاوجة بين شعر التفعيلة وقصيدة النثر، وصولاً إلى التأثر بالشعر العالمي بخاصة الغربي منه في عدد من التجارب اقتفت أثر أشعار رامبو ولوتريا مون وسان جون بيرس ولوركا، والشعراء العرب الموازين لهم مثل أدونيس والبياتي وخليل حاوي والماغوط وسركون بولس وغيرهم.

          ويخلص الباحث العماني محسن الكندي إلى أن «ما يميز الشعر الجديد في سلطنة عمان هو ذلك التأصيل الشعري الذاتي الذي يوظف الخصوصية التاريخية (الأسطورية) والدينية (العقائدية) والاجتماعية (الشعبية) من خلال الاتكاء على موروث يعطي لعمان مكانتها، كما يتجلى في شعر سيف الرحبي الذي تتسم تجربته بسبر الواقع ومحاولة التفاعل مع خصوصيته بلغة جديدة تسعى إلى إعادة نثر مفردات الطبيعة من حيث كونها عالمًا من الأشياء الحية المتدفقة الرامزة، وغيره من الشعراء الذين يتجهون بتجاربهم صوب العزلة والرفض والحزن والتشظِّي والسفر والرحيل والهجرة والتذمر، وغير ذلك من المعاني المجسِّدة للمعاناة، مستخدمين لغة «تفجيرية» مركزة، تعتمد على الإيحاء ولا تتوازى فيها الألفاظ مع دلالاتها».

          يقول سيف الرحبي في قصيدته «الجبل الأخضر»:

          هذا هو الجبلُ الأخضرُ إذًا
          لم يكن سيدا لسفوح الثلج
          بل تاجا للفضاءات الهاربة
          ولؤلؤة للحضور
          يمشي فوق جلده الغزالُ
          مثل جيل هارب من مصيره
          أتُراها كهرباء الرعب تلك التي
          تدفع السماء إلى تأمل ذاتها
          في مرايا الجبال حيث ينكسرُ
          الكون في ارتجافة عصفورٍ
          وتُجفّفُ الخلائق أمعاءها على ذرى
          الاشتعال بأسئلة العزلة الكبرى
          والتباسات النهار
          كاهنٌ هذا الذي يسود الأمداء 
          مثل برج للضياع والفتنة التي تتوسّدُ
          مغاراته الموحشة
          ربما بدويٌّ قطف زهرة الجنس
          ونشر إشاعاتٍ عن سقوط
          الشهب في حضن الوعل الوحيد 
          بساح الملائك والزبرجد المتناثر
          من قلائد «عشتروت»
          إنه الشرق إذًا
          شرفةُ البياضِ
          إقليم النُّواحِ الأزليِّ
          قبعة المساء
          وساحة القتل المضاءة
          بدم الفهودِ
          الجبلُ الأخضرُ تنامُ في جراحهِ
          آلاف الطيور الشريدة
          وآلاف السيوف المسرفة في البياضِ
          مثل عذارى الثلج
          سيد الطير ذلك المسكون بالحكايات
          العذبة مثل خرافات الأجدادِ
          في مساءٍ مريض
          وروت عنه الأيائلُ الذبيحةُ
          بقسوة الرعاةِ وحنانهم
          أنه تنهّد ذات ليلة فخرجت منه
          بحار وقيل شعوب من فقراء النجوم
          ناء بحملهم فقذفهم نحو سماءٍ بعيدةٍ
          وهناك كانت فرق «هولاكو» بانتظار
          القادمين بالحراب المساومةِ
          إنه الجبلُ الأخضرُ
          مزرعة للنوارس المتعبة
          مجدٌ لصباحات النشيد 
          فيه بنت الغيوم مأواها من
          فاكهة الخراب الأعلى
          وسيَّجتها بأحلام النسور
          فيه لبست النسور والعقبان
          أجنحة الفصول
          وحطّت على شجر الرؤيا

***

          ويركّز الشاعر والباحث حسن توفيق في دراسته عن الشعر العربي في قطر من الاستسلام للتقليد إلى المبالغة في التجديد، على إشعاعات النهضة الأدبية الحديثة التي انطلقت من مصر والشام (بالمعنى الواسع) والعراق إلى الكثير من بلدان الخليج، وأن الاستجابة لها كانت متفاوتة ما بين استجابة سريعة أو متمهِّلة حذرة، أو بطيئة متخوِّفة، بسبب عوامل وأسباب مختلفة. فهي في البحرين أسرع وأسبق، تليها الكويت، أما في بقية دول المنطقة الخليجية ومنها قطر فقد كانت متمهلة حذرة أو بطيئة متخوفة.

          ومن الاستسلام المطلق لتقليد نماذج الشعر العربي التراثي القديم في بدايات المسيرة، إلى الاندفاع الشديد نحو الإيغال في الحداثة خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، حيث يعلو شأن قصيدة النثر والتركيز على النقد المتصل بها وبتحليلها في الصحف التي تنشرها. ولم يفت الباحث في تقديمه لمختاراته من الشعر القطري الإشارة إلى عدد من الشعراء العرب غير الخليجيين ممن يعملون في الدول الخليجية وبعضهم تجاوزت إقامته فيها خمسًا وثلاثين سنة، لكن مؤرخي الأدب ونقاده يغفلون إنتاجهم ولا يدرسونه إلا باعتباره وافدًا وطارئًا، مثل الشاعر معروف رفيق محمود الذي ينتمي إلى عائلة من الشعراء الذين ولدوا في فلسطين، وعمه هو الشاعر الفلسطيني عبدالرحيم محمود صاحب القصيدة المشهورة عن الشهيد التي يحفظها ويردّدها كثير من أبناء العروبة، ويستهلها بقوله:

سأحمل روحي على راحتي
                              وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسرُّ الصديق
                              وإما ممات يغيظ العدى

          تقول الشاعرة القطرية سعاد الكواري في قصيدتها «القشور»:

          لأنك أنت
          دوائرُ مزحومةٌ بالضجيج
          سأحشو سراجي بأقصوصةٍ
          ومخالبَ حمقاء
          وأنقش فوقك أعشاش فجري

***

          لأن نسيم النعاسِ
          يُدوِّخ نجم الحدود، ويطرد جرثومة الناظرين
          إلى هوج ضفدعةٍ
          من رعونة رأسي، أحضن أبخرة السمكِ المتسوّلِ
          أمام موائد قط سمين

***

          على ورق وجذور، هناك مكان
          سيشتعل العمرُ في شاشة الصدقِ
          يهرس أعوام غاز الشجيراتِ
          منكّسة رأسها في غطاءِ الغموض
          *** *** ***
          تثاءب باب
          وأوشك آخر يعجن لؤلؤة الوشم، والخطوات
          حصان يجاملُ زهور اللقاء

***

          سأنفض عني مناقير منتوفة ووليمة عينين مثقوبتينْ
          ورمل الضفيرة .. مشلولةً
          ولهيب يعسكر عند جسورٍ جنوبيةٍ
          وهلال عجوز

          وتقول الشاعرة زكية مال الله في قصيدتها «الانتظار الأخير»:

          ذات ليلة
          كنتُ في محراب قلبي خاشعا
          وحفيف من صدى النسمات يأتيني
          ويمضي في سكون 
          وارتعاشات غريبة
          تحضنُ الوجدَ بروحي
          وتُرويني شجون
          أطبق الصمتُ، وقلبي
          ما احتوى حتى الأنين
          وتراءيت كطيفٍ
          بين أوراقي يبين
          كلُّ شيءٍ في ثنايايَ انتظار
          ما الذي ينمو بصدري
          احتراقٌ، أم بقايا من نهار؟
          عانقيني، يا خيوط العشق، لاتنأيْ، فألواني انهمار
          واسكبي كأسك، ذاتي
          شهرزادٌ مثلما كانت لتهوى «شهريار»
          أيها الموغل في ليلي تمهّل 
          لست أشلاء وتُطوى
          أو قصاصاتٍ لتُهمل
          إنني جذوة حبٍّ
          في ثناياك لتُشعلُ
          وزهور في روابيك ستنمو
          ومن الأشواق تنهلْ
          ذات ليلة
          كان قلبي ألف ربّانٍ ليُبحرْ
          شاطئاً كنتَ لوجدي
          وانقضى الحلمُ تبعثر
          وغدا الشاطئُ لا لونَ
          ولا حلم، تصوّرْ!

***

          إلى أيّ حد تختلف مختارات الشعر الليبي التي يتضمنها هذا المجلد الكبير عن «مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين»؟ يجيب الباحثان الليبيان: الدكتور عبدالحميد الهرامة وعمار محمد جحيدر بما يشير إلى أن الاختلاف ليس كبيرًا، باستثناء الجهد الكبير الذي قاما به في مجال الجمع والتحقيق والدراسة والإحصاء، «لأن الشعر المخطوط في ليبيا ظلّ أعلى بكثير من القدر المنشور منه حتى منتصف القرن الماضي، وحالت ظروف مختلفة دون نشره، منها إحجام كثير من الشعراء أنفسهم عن النشر تواضعًا، أو مراعاة لظروف اجتماعية أو سياسية مختلفة عبر عقود القرن العشرين وتقلباته الإدارية والاجتماعية، وأحيانًا لعدم الثقة في العمل الأدبي، أو لعدم وجود الإمكانات المشجعة على النشر، وبخاصة في أوائل القرن. ولولا إصرار مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري على الاهتمام بالشعر الليبي من خلال هذين الباحثين ما تمت استجابتهما بالسرعة المطلوبة، في ظل الرعاية الأبوية الخيرة والأستاذية الكريمة للأديب العربي الكبير أبي القاسم محمد كرّو، الذي يرجع إليه الفضل في جمع ديوان الشاعر التونسي الخالد أبي القاسم الشابي ونشره.

          يقول الشاعر الليبي محمد الفقيه صالح في قصيدته «إيماءات»:

          غابةٌ تومئ لي
          ونشيد صاعد من شهقة الفجر ومن رفرفة الموجِ،
          ولا أدرى لماذا
          يذبل الوقت ويفتضّ البكاء
          ما تداريه المرايا المعتمات
          في جحيم الذاكرة
          حينما ينهمك الشاعر في غمرة ما أطلقه الينبوعُ
          لا أدرى لماذا
          يخدش الأعماقَ، والرؤية قشُّ الانقباضْ

***

          واحةٌ تومئ لي
          ونداء دافئٌ ينساب
          حتى تلذعَ القلبَ عراجينُ البلحْ 
          وأنا ماضٍ إلى صيرورتي
          مستغرقٌ في مصهر الحيْرةِ
          ما بين انغلاق الغاب في ظلمته
          وانسراحِ النور في عُرى البراري
          حاملاً صمتي معي
          حاملاً ضوءًا خفيًّا في دمى
          وحنينًا
          للمواعيد التي تبرُقُ في بدء المسافاتِ،
          وتنحلُّ مع النسمة،
          أو تلقفُها الأطيار في هجرتها!

***

          آهِ لو تنفعلُ الغيمةُ في جوف سمائي
          آهِ لو تخرجُ من إذعانها
          ثم تنقضُّ على أبعاضها 
          فأرى شؤبوبها الصاعقَ يشتدُّ
          إلى أن يعصف الوجد البدائيُّ بقلبي
          هائما في الأرضِ
          تستنفرني معزوفتي:
          من تُرى يرجع بالإنسانِ من محْنته؟
          يقتفي صبوة هذا الزمن الهارب من لعْنتهِ
          أو ينسف هذا الوجع الموزونَ
          في ماء العيون المطفأة؟

***

          حين ائتلفْنا
          وابتدأنا في مراسيم الفرحْ
          هَيأتُ نفسي لاحتمالات القصيدة
          لكنَّ شرطيا تسمَّر بيننا
          فرجعتُ مكتئبَ الخُطى:
          لا تجلسُ امرأة إلى رجلٍ هنا
          إلا وبينهما تلاشى الاحتمالْ!

          ونختتم هذه المختارات من الشعر الليبي بقصيدة «هدهدة» للشاعر الليبي الدكتور علي فهمي خشيم الذي كان لعدة سنوات قبل رحيله في العام الماضي الأمين العام لمجمع اللغة العربية في ليبيا، يقول فيها:

          غنّي لي الليلةَ، غنِّي لي، من عُمْق القلْب
          ضُمّيني يا حُلم حياتي بدثار الحبّ
          مُدّي عينيْكِ الواسعتين إلى عيني
          وضعي كفَّيْكِ الدافئتيْنِ على كفِّي
          ودعيني أتلو صلواتي لمقام الربّ!

***

          ياهمس الليل المتلاحق عند الأسحار
          يا فوْحَ العطر المتناثرِ عبْرَ النوّارْ
          ما أبهى النظرَ إلى عينيْك الواسعتيْن
          ما أحلى اللمسة من كفَّيْكِ الدافئتيْن
          ما أروعَ أن يجرفني معكِ التّيار!

***

          يتداعى الفجرُ إذا ابتسمت منكِ الشفتان 
          يتعالى البدر إذا احمرَّ، احمرَّ الخدَان 
          يتنامى في كفَّيْك الزهرُ المخْضلّ
          يتناثر فوق الشعر المسدول الفلّ
          وتُصلّي في محراب العشق ملائكةُ الرحمن!

***

          لا يلقى الراحةَ إلا في العُشِّ العصفور
          وفراشُ الليل المتبتّلُ يسحرهُ النور
          يا عُشّ العصفور الهائم في الأوهام
          يا نور العمر المترامي عبْر الأيام
          غنِّي لي الليلةَ، يا حُلَم القدر المقدورْ!

          وهو شعر يحمل ملامح التأثر بالشعر الرومانسي وتياره الرئيسيّ الذي عُرف باسْم جماعة «أبولّو» في مصر، وكان يضمّ من بين شعراء تونس الطليعيين الشباب الشاعر أبا القاسم الشابي، وكانت له لغته ومعجمه الشعري، وعالمه من الصور التي مبعثها الفتنة بالطبيعة وإعادة اكتشافها من منظور عاطفي وجودي، وخيال شعري مُحلّق، يدفع بالشعراء إلى التجسيد وتراسل الحواس. ويضيق المقام عن عرض الفصل الخاص بشعراء مصر في إطار هذه المختارات من الشعر العربي في القرن العشرين، ذلك أن حظوظ هؤلاء الشعراء كانت دائمًا أوفر وأسبق في العرض والنشر والتحليل، لانطلاقها من دولة المركز الثقافي كما كانت تُسمّى ولأن أجهزة الإعلام الثقافي في مصر قامت بدور كبير في هذا الانتشار والذيوع، الذي كرّسه بشدة مبايعة «شوقي» بإمارة الشعر العربي في عام 1927 وما ترتَّب على هذه البيعة من آثار، جسّدها الحشد الضخم من «المجلات» والصحف «والمطبوعات» المهتمة بكل ما هو ثقافي وأدبي، وبخاصة في النصف الأول من القرن العشرين.

 

فاروق شوشة