هل للكونفدرالية مكان في العصر العربي الجديد؟

  هل للكونفدرالية مكان في العصر العربي الجديد؟
        

          في خضم المتغيرات الكبرى التي تلم بالمنطقة العربية، والصعود الجديد للحركات الجماهيرية والتحولات الديمقراطية في المنطقة، يتوقع البعض - ومنهم هذا الكاتب - أن تتم عملية مراجعة واسعة للمفاهيم وللمشاريع السائدة في المنطقة.

  • قيام وترسخ التكتلات الإقليمية بات سمة رئيسية من سمات العصر ومتطلباته، ووراء كل تكتل ناجح من هذا النوع مثل الاتحاد الأوربي و«نافتا» و«ميركوسور» و«آسيان» حملة كونفدرالية مؤكدة
  • الكونفدرالية قد تكون مرحلة للوصول إلى دولة فدرالية، كما أرادها بسمارك والوحدويون الألمان، أو كما سعى إليها الفدراليون الأمريكيون والسويسريون، أو قد تقود الكونفدرالية إلى دولة مركزية
  • ترافق تطور الكونفدراليات خاصة في عصرنا الحديث مع اختيار الديمقراطية والآليات الديمقراطية طريقًا لبنائها وتحديد طابع العلاقة معها
  • الواقع الأهم الذي يمكن اعتباره مؤشرًا على ضعف التجربة الكونفدرالية العربية، هو الفجوة «الأسطورية» بين غزارة القرارات الصادرة عن العمل العربي المشترك، هذا من جهة، وبين الإخفاق المثير في تنفيذ هذه القرارات من جهة أخرى

          من دون هذه المراجعة يمكن لهذه المتغيرات أن تفقد الكثير من معانيها وفوائدها المرتجاة، وأن تتحول إلى سلسلة من الأحداث المتلاحقة والصاخبة التي لا تضيف الكثير إلى تجارب الأمة وإلى خبرة شعوبها. ولسوف تحقق هذه المراجعة الغاية منها بمقدار ما تتطرق إلى المفاهيم القضايا الرئيسية التي استأثرت باهتمام  الأجيال العريبة الحالية والسابقة، وأثارت المناقشات الواسعة بينهم المعنيين بالشأن العام منهم، وفي مقدمتها قضية البحث عن أفضل صيغة لبناء العلاقات بين الدول العربية.

          لقد انقسم الجسم السياسي العربي حيال هذه القضية الكبرى لسنوات عدة إلى فريقين رئيسيين: فريق الوحدويين العرب الذين أطلقت عليهم هذه التسمية لأنهم دعوا إلى إقامة كيان عربي جامع يضم أقطار المنطقة، فكان من بينهم من اعتبر أن الكيان الوحدوي المركزي هو الصيغة المناسبة لتمكين العرب والارتقاء بأحوالهم السياسية والاقتصادية والدفاعية، وكان منهم أيضًا من وجد أن الكيان الفدرالي هو الأفضل لتحقيق هذه الغاية. الفريق الثاني، سوف أدعوه بالـ«وستفاليين» العرب، لأن مبادئ معاهدة وستفاليا التي توصل إليها حكام أوربا خلال القرن السابع عشر هي الأبلغ تعبيرًا، في تقديري، عن موقف هذا الفريق تجاه مسألة العلاقات العربية - العربية. تضمنت المعاهد تأكيد السيادة المطلقة للدولة الترابية على سائر أراضيها، وضرورة احترام الدول الأخرى لهذه السيادة. كذلك أكّدت المعاهدة حق الدول في اختيار نظامها السياسي ومن ثم مشروعيته السياسية، وحرَّمت تدخل الدول بالشئون الداخلية لبعضها البعض.

          استنادًا إلى هذه المبادئ، عارض «الوستفاليون  العرب» كل أشكال الوحدة العربية مركزية كانت أو فدرالية، بينما أنكر الوحدويون العرب قيمة هذه المبادئ بما فيها مشروعية الدول العربية الحديثة. وشهدت ساحات العمل السياسي العربي العديد من المعارك والصراعات القوية، مباشرة وغير مباشرة، معلنة وخفية، ساخنة وباردة بين الوحدويين والوستفاليين العرب. وتطور الصراع بين الجهتين، بعد أن ساهمت فيه وأجّجته أطراف وقوى خارجية. ولكن على شدة هذه الصراعات، وعلى الرغم من التباعد الشديد بين الفريقين، فقد بدا في كثير من اللحظات والمناسبات أنهما متفقان على رفض الخيار الكونفدرالي العربي. ومن اللحظات والمناسبات المهمة التي خرج فيها هذا الاتفاق المضمر إلى العلن، هي لحظة التمهيد لقيام جامعة الدول العربية وتأسيسها. فمشروع الجامعة كان أقرب المشاريع العربية إلى فكرة الكونفدرالية. استطرادًا يمكن تلمّس النظرة السلبية والمستشرية للخيار الكونفدرالي عبر القصف الفكري والسياسي المركَّز الذي أطلقه معسكرا الوحدويين العرب، من جهة، والوستفاليين العرب، من جهة أخرى، على الجامعة كفكرة طرحت للمناقشة وكمشروع خرج إلى النور في العام 1945، وكهيئة دخلت واستقرت في الفضاء السياسي العربي منذ ذلك التاريخ.

          لقد رفض الوحدويون العرب الخيار الكونفدرالي واعتبروا الجامعة العربية، التي كانت بالنسبة إليهم واحدة من تجليّاته، والتي قدمت إلى الرأي العام العربي كمشروع لـ«التوفيق بين المصالح القطرية والمصالح القومية». ولم يجد الوحدويون العرب أي فائدة حقيقية للعرب، بل كان في رأيهم محاولة ماكرة ومشروعًا خطيرًا لترسيخ «التجزئة السياسية» وللحيلولة دون تحقيق أي خطوة حقيقية وملموسة على طريق الوحدة. ولقد أضاف الوحدويون العرب إلى هذا التوصيف، اعتقادًا لا يقبل النقاش بأن المشروع مصنوع بأيد أجنبية وبريطانية تحديدًا بغرض إجهاض فكرة الوحدة العربية وحرمان العرب من فوائدها.

          مقابل هذا الموقف، رفض وستفاليون عرب، خاصة في لبنان، الكونفدرالية، وفي مناقشتهم لهذا المشروع ورفضهم له، لم يميّزوا بين الكونفدرالية والفدرالية. وبرز هذا الالتباس المعتمد على الأرجح إبان الحملة الواسعة التي نظمها في لبنان بالعام 1944 معارضو مشروع جامعة الدول العربية وبصورة خاصة «بروتوكول الإسكندرية» الذي أسس للجامعة. ففي إطار هذه الحملة أعرب منظموها عن معارضتهم القوية لانضمام لبنان إلى أي مشروع فدرالي عربي. ولكنهم، في الوقت نفسه، وقفوا موقفًا مشابهًا ضد انضمام لبنان إلى الجامعة باعتبارها، لأنها كانت في تقديرهم هم أيضًا محاولة ماكرة لتمرير مشروع الوحدة العربية في لبنان. وقد اتهم الوستفاليون اللبنانيون دعاة الوحدة بأنهم سعوا إلى ضم لبنان إليها بعد أن ألبسوها الثوب الكونفدرالي، وذلك مضاهاة للوحدويين الألمان، وعلى رأسهم المستشار الألماني أوتو فون بسمارك، الذين ألبسوا مشروعهم الاندماجي ثوب الاتحاد الجمركي الألماني الكونفدرالي الطابع (زولفرين) تمهيدًا لقيام الوحدة الألمانية.

          لقد مرّ العرب والعالم المحيط بهم بتجارب سياسية وتاريخية كبرى أثرت في علاقاتهم مع بعضهم البعض، ومست دولهم ومجتمعاتهم. وحتى هذا التاريخ لم تحقق مشاريع الوحدة العربية التي توخاها الوحدويون العرب النجاح الذي توخوه، ولا حققت الكيانات العربية الترابية والوستفالية نجاحات تعزز مشروعيتها وتحصن وحدتها وتنمّي طاقاتها وقدراتها الاقتصادية. وعلى خلاف ما جرى ويجري في منطقتنا، فإن قيام وترسخ التكتلات الإقليمية بات سمة رئيسية من سمات العصر ومتطلباته، ووراء كل تكتل ناجح من هذا النوع مثل الاتحاد الأوربي و«نافتا» و«ميركوسور» و«آسيان» حملة كونفدرالية مؤكدة. ولكن بالرغم من كل هذه المتغيرات، فإن الموقف العربي الإجمالي تجاه الكونفدرالية لم يتبدل ولم يتطور. فهل كان لهذا الموقف أساسًا من مبرر؟ وهل استند إلى قراءة سليمة لمعنى الكونفدرالية؟ فماذا تعني الكونفدرالية؟ وهل كانت هناك أسباب حقيقية لإنكارها ومناهضتها؟

معنى الكونفدرالية

          تعرف الكونفدرالية بأنها تشمل أمرين: الأول هو العملية والأدوات والوسائل التي تستخدم من أجل الوصول إلى الهدف المنشود. وفي المنظومات الكونفدرالية فإن العملية بمجملها تتمحور حول التعاون بين الحكومات وفي Inter Governmentalism. وتشكّل الإطارات ما بين الحكومات محو العملية التعاضدية وأداتها الرئيسية. وتتسم العملية عند المعنيين بالتعاون الإقليمي بأهمية قصوى. وحتى يفهم المرء الأهمية التي يعلقونها على العملية وعلى الصيرورة التعاونية، فإنه حري به أن يتذكر نظرة الفيلسوف النمساوي كارل بوبر التي يقول فيها إن الوسائل تحدد الأهداف وليس العكس. بتعبير آخر إن صواب الأساليب والوسائل التي يعتمدها دعاة التعاون الإقليمي، يعكس نفسه على الأهداف التي يتوخون تحقيقها. بالمقابل فإن الهدف الصحيح لا يبرر الأساليب الخاطئة، فضلاً عن أن مثل هذه الأساليب سوف تقود إلى هدف خاطئ مخالف لنوايا أصحابه.

          الثاني، هو النتيجة النهائية التي تتلخص في تنمية العلاقات بين الدول الأعضاء في الكونفدرالية. في هذا السياق فإن الكونفدرالية قد تكون مرحلة للوصول إلى دولة فدرالية، كما أرادها بسمارك والوحدويون الألمان، أو كما سعى إليها الفدراليون الأمريكيون والسويسريون، أو قد تقود الكونفدرالية إلى دولة مركزية. وقد تبقى الكونفدرالية على حالها، كيانًا للتعاون بين دول مستقلة. ولكن هنا يمكن التمييز بين نوعين من الكونفدراليات: «ضعيفة» كما يصفها البعض مثل أرنست ب.هاس، وهو واحد من أهم المساهمين في الدراسات الإقليمية، أو قد تكون كونفدرالية قوية. فكيف يمكن التمييز بين هذين النوعين؟ هذا ما تكشفه أيضًا مزايا الكونفدرالية وخصائصها.

خصائص الكونفدرالية

          توفر التجارب التاريخية التي شهدها العالم مادة غنية لاكتشاف هذه المزايا، سواء ما تعلق بطريقة تحقيقها أو الأهداف والغايات المتوخاة منها. على الصعيد الأول نجد أن التدرج هو من الخصائص التي طبعت أكثر التجارب الكونفدرالية. فالاتحاد الأوربي الذي لايزال في إطاره الكونفدرالي، بدأ بلجنة الصلب والفحم، ثم ما لبث أن تطور إلى السوق المشتركة، فالاتحاد الأوربي. ولقد كانت الدوافع إلى إقامة الجماعة الأوربية وإلى تطورها قوية، وسعى البعض إلى استخلاص نوع من «القوانين» الاتحادية التي سيّرت خطأها. وبدت هذه القوانين وكأنها حتمية وخاصة «التداعي»، أي انتقال التعاون والاندماج من حيز (الاقتصاد مثلا) إلى حيز آخر (السياسة مثلاً). واعتبر هاس التداعي بمنزلة قوة الدفع التي تظهر وكأنها تعمل بمعزل عن إرادة بناة السوق، وبالتالي عن رغبات وإرادات شعوب الدول التي تدخل التكتلات الإقليمية. بذلك بدا الانتقال من الكونفدرالية المتعددة الدول إلى الدولة الواحدة - فدرالية كانت أو مركزية - وكأنه، بفعل التداعي، قدرًا محتومًا. ولكن هاس ما لبث أن أحاط هذه النظرية بالعديد من الاستدراكات تاركًا للإرادة الإنسانية الحرة المكان الأول في التدرج بالمبادرات الكونفدرالية. وللتدرج أهميته بالنسبة إلى كل من أبدى تخوفًا - مثل الوستفاليين العرب وغير العرب - من أن تتحول الكونفدرالية في لحظة غفلة إلى فدرالية فتخسر الدول الأعضاء استقلالها. إلا أن هذا المحذور كان مستبعدًا لأن عامل الزمن والمسار التدرجي الذي اقتضاه الانتقال من الحال الأولى إلى الثانية، أعطى الحريصين على الدولة الوستفالية مهلة كافية لرصد أي تحول من هذا النوع، وللحيلولة دون «الفدرلة» والتوحيد السياسي إذا ما «ماشاهم» الرأي العام واقتنع الناخبون بوجهة نظرهم هذه.

          فضلاً عن هذا وذاك، فإن الدول الأعضاء في الكونفدراليات لها كل الحق في مغادرتها إذا شاءت ذلك. وهذا ما حدث فعلاً عندما انسحبت غرينلاند في العام 1985 من السوق الأوربية المشتركة، وما قد يحدث في المستقبل إذ صحت التوقعات حول احتمال انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي. ثم إن تطور هذه الكونفدراليات لا يسير دوما في خط مستقيم من استقلال الدولة العضو إلى التخلي المتزايد عن سيادتها لمصلحة السلطة الكونفدرالية. فالإطار الكونفدرالي مفتوح على احتمالات السير المعاكس، أي استرجاع الدولة/الدول المعنية لشيء من السيادة إذا شعرت بأنها أسرفت أو أسرعت - خطأ أو صوابًا - في التخلي عنها. هذا ما حدث في الاتحاد الأوربي أيضًا عندما تم الاتفاق على إحالة العديد من القضايا والمشاريع التي كانت تبت فيها السلطات الاتحادية إلى الإدارات التابعة للحكومات الوطنية، بغية تخفيف الضغط عن الأولى. يذكر أن الآباء المؤسسين لجامعة الدول العربية وافقوا على إدراج مادة في ميثاقها تسمح للدولة العضو بالانسجاب من الجامعة، وذلك رغبة في معالجة هذه المخاوف التي كان وزير خارجية لبنان، هنري فرعون الأكثر إفصاحًا عنها والأكثر إلحاحًا، بالتالي، على إدخال نص صريح بهذا الصدد على مشروع ميثاق الجامعة.

          كذلك ترافق تطور الكونفدراليات خاصة في عصرنا الحديث مع اختيار الديمقراطية والآليات الديمقراطية طريقًا لبنائها وتحديد طابع العلاقة معها. كانت تجربة الجماعة الأوربية رائدة في هذا المجال، وحققت نجاحًا تصعب المبالغة في تقدير أهميته على هذا الصعيد. إلا هذه العلاقة المباركة بين اعتماد الخيارات الكونفدرالية والتحول الديمقراطي لم تعد محصورة بالفضاء الأوربي، بل انتقلت إلى جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، أما في المنطقة العربية فقد أطلت هذه العلاقة عليها باستحياء في ما سمّي بإعلان قمة تونس في العام 2004، ثم ما لبثت أن غادرت المنطقة بعد توقف قصير وغير مثمر. المهم هنا هو أن الخيار الكونفدرالي الراجح والناجح يعطي الوستفاليين والوحدويين العرب معًا فرصة أفضل للتعبير عن آرائهم وللإدلاء بدلوهم في مجال بناء العلاقات الإقليمية والدولية ولإقناع المواطنين والرأي العام في بلادهم بالطريق المفضل الذي يصح السير عليه من أجل تحقيق ما يتطلع إليه المواطنون والمواطنات من تقدم على كل صعيد وحرية وسعادة.

          وبالرغم من التنازلات التي قدمتها النخب الحاكمة إلى السلطات الكونفدرالية حيثما تحققت تجارب ناجحة على صعيد التعاون الإقليمي، فإن هذه النخب لم تخسر الكثير من سلطتها وسيادتها. ولقد دفع هذا الواقع بعض علماء العلاقات الدولية مثل ستانلي هوفمان إلى التأكيد على وصف عمليات التعاون والتكتل التي تمت في الإطار الكونفدرالي بأن أساسها كان الدول الأعضاء (State-centric). فلا ريب أن النخب الحاكمة في أوربا الغربية لعبت دورًا مهمًا في فتح الباب أمام الجماعة الأوربية.   ووصف دور الجنرال ديغول في قيام السوق بأنه كان دور الفاعل الدراماتيكي. أما في المنطقة العربية فإن نظامه الإقليمي الذي يعتبر في عداد التجارب الكونفدرالية هو نظام «دلتي وستفالي» بامتياز، ولقد لبث على هذه الحال حتى  في أشد لحظات الاندفاعة الوحدوية العربية.

          هذه  الخصائص والمعطيات جديرة بأن تدفع الوستفاليين العرب إلى مراجعة تقييمهم للكونفدراليات العربية، وأن تحد من معارضتهم لها، بل وأن يتحولوا إلى الأخذ بها إذا أرادوا تعزيز الدول العربية الوستفالية وصيانتها من التحديات الأمنية والاقتصادية، أي أن يسيروا على الطريق الذي سلكته الدول الوستفالية الأخرى في أوربا وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية. فهل للكونفدرالية من الخصائص ما يدفع الوحدويين العرب الذين يعانون الانحسار والضياع، إلى مراجعة نظرتهم السابقة إلى الخيار الكونفدرالي؟ تبرز هنا أهمية التمييز بين الضعيف والقوي من الكونفدراليات الذي أشرنا إليه أعلاه. ذلك أن الوحدويين العرب يغفلون هذا التمييز ويبنون تقييماتهم على أحوال الكونفدراليات مثل جامعة الدول العربية. ولكن حدث في التاريخ أن كونفدراليات من هذا النوع تحولت إلى كيانات قوية والعكس صحيح. فما هو الفرق بين الاثنين؟

شروط الكونفدراليات الناجحة

          يقول هاس إن مكان الكونفدراليات عادة تتحدد من خلال توافر الشروط التالية:

          أولا، المكانة الدولية للكونفدرالية، إذ إن الكونفدرالية القوية تكون لها شخصية معترف بها إقليميًا ودوليًا. وهنا يمكن القول بأن الجامعة العربية معترف بها إقليميًا، أما دوليًا فهو أمر ليس بديهيًا، بدليل موقف الاتحاد الأوربي منها على سبيل المثال. إن الاتحاد يعقد صلات وثيقة مع التكتلات الإقليمية الأخرى تتجسد في قمم دورية تعقد مع زعماء آسيان و«ميركوسور»  والاتحاد الإفريقي، ولكنه يبتعد بوضوح عن عقد قمة عربية - أوربية.

          ثانيًا، علاقة متكافئة بالدول الأعضاء، فبمقدار ما تكون للسلطات الكونفدرالية سلطة على الدول الأعضاء بهذا المقدار تقوى الكونفدرالية ويعلو شأنها والعكس صحيح. ومن الضروري التوضيح أن هذه السلطة هي محدودة الصلاحيات وفي مجالات لا تمس جوهر السيادة الوطنية، وإنما تيسر التعاون بين دول المنظومة الكونفدرالية. بالمقارنة ففي المنطقة العربية نجد أن الدول الأعضاء وخاصة الدولة/الدول الأكثر نفوذًا هي التي تسيِّر جامعة الدول العربية، أما الجامعة فأثرها محدود في الدول الأعضاء.

          ثالثًا، وجود علاقة سوية ومحددة المعالم والآفاق بين السلطات الكونفدرالية والمواطنين والجماعات، وهذا يعني السماح للسلطات الكونفدرالية بالتعامل المباشر مع المواطنين دون المرور دومًا بسلطات الدول الأعضاء، فتتوطد بذلك مكانتها ومشروعيتها. وبهذا المعيار فإن جامعة الدول العربية هي من الكونفدراليات الضعيفة. من الأدلة المهمة على هذه الحال أنه لم يُسمح للجامعة بفتح مكاتب في الدول العربية - إلا في بعض الاستثناءات - حتى لا تتسع وتتعمق العلاقة بينها وبين المواطنين العاديين.

          رابعًا، وجود نظام حقوقي ملزم، وتشكو الجامعة العربية هنا من العجز المزمن إذ إن المحكمة التي جاء ذكرها في الميثاق لم تُنشأ حتى اليوم.

          خامسًا، آلية التصويت بالأكثرية تشرف على عمل السلطة المركزية الكونفدرالية. ولقد تأسس خلال السنوات الأخيرة البرلمان العربي الذي كان مفروضًا أن يمارس هذا الدور في العلاقة مع الأمانة العامة، ومع سلطات العمل العربي المشترك، ولكن صلاحياته محدودة إلى أبعد مدى، ودوره ضئيل. وفي بروتوكول الإسكندرية كان من المفروض أن تتخذ قرارات التحكيم بـ«تصويت الأكثرية»، ولكن هذا البند اختفى من الميثاق بتأثير «الوستفالية العربية».

          ربما كان الواقع الأهم الذي يمكن اعتباره مؤشرًا على ضعف التجربة الكونفدرالية العربية، هو الفجوة «الأسطورية» بين غزارة القرارات الصادرة عن العمل العربي المشترك، هذا من جهة، وبين الإخفاق المثير في تنفيذ هذه القرارات من جهة أخرى.

          كثيرون يعتقدون أنه ليس بالإمكان تحويل كونفدرالية ضعيفة إلى كونفدرالية قوية. استطرادًا فإن الوحدويين العرب أو العروبيين أو المتعاطفين مع فكرة التعاون الإقليمي العربي يجدون في هذا الواقع ما يبرر نظرتهم السلبية والمتحفظة تجاه مؤسسات العمل العربي المشترك، وخاصة جامعة الدول العربية. ولكن هذه النظرة قابلة للمراجعة مثلما أن نظرة الوستفاليين العرب إلى التجربة الكونفدرالية العربية قابلة للمناقشة ولإعادة النظر. في الحالتين ينبغي التأكيد على ضرورة إشراك الرأي العام العربي في صنع العلاقات بين الدول العربية، وأنه لابد من خلق مناخات الثقة والتوافق بين القوى المؤثرة في المنطقة العربية إذا ما أردنا تحقيق التقدم المادي والعدالة الاجتماعية والحرية والسيادة الوطنية لسكانها.
------------------------------
* كاتب من لبنان.

 

 

رغيد الصلح*