خطابُ العقلِ البحثيّ

  خطابُ العقلِ البحثيّ
        

          تعدّ منطقة النظرية المنطقة الأهم والأكثر حيوية وأهمية ومرجعية في تكوين العقل البحثي، إذ من دون مرجعيات نظرية ذات طبيعة معرفية أصيلة لا يمكن النظر في تكوين هذا العقل على النحو الذي ننتظر منه أن يفسّر ويحلل ويؤوّل وينتج، لذا يجب النظر في منطقة النظرية بوصفها منطقة خصبة لابدّ من الاشتغال الواعي والمنضبط عليها، بحيث تكون مصدرًا أساسًا ورافدًا مموّلًا للعقل البحثي في مسيرته البحثية والنقدية، ولابدّ لها من أن تنهض في تدعيم أسس وجودها على رؤية تُفصح عن جوهرها ومنهج يحدّد لها سبل الاستجابة لهذه الرؤية، وعلى منظومة كثيفة وفاعلة ومنتجة من المصطلحات والمفاهيم تعمل بوصفها أدوات للنظرية، إذ لا نظرية قادرة على الحياة والفعل والإنتاج والتداول من دون الاعتماد على هذه المنظومة في أعلى درجات نشاطها وحيويتها ونموّها.

  • لا يمكن أن تتوقف عملية تأسيس العقل البحثي وتكوينه عند المرجعية الفلسفية فحسب، بل الذهاب إلى سلسلة مرجعيات أخرى ثقافية وسيوسيولوجية ونفسية وجمالية وفنية ومعرفية وشعبية وتاريخية عامة
  • التعامل عربيًا مع النظرية النقدية الغربية ومناهجها يحصل دائمًا عن طريق تكييف وإعادة إنتاج وتوجيه مناسب للحاضنة الجديدة

          منطقة النظرية هذه تقوم على شبكة من المرتكزات التي تنفتح على شتّى العلوم والمعارف والفنون، تقف في مقدّمتها الفلسفة بتكويناتها المركزية الأصيلة وهي تشتغل على تمتين أواصر هذا العقل، وتسنده بطاقة معرفية ذات ضبط منهجي ورؤيوي عالٍ، وتحقق له بُعد النظر وسعة الأفق وحيوية التفكير وأصالة الموقف، وربما من دون التأسيس الفلسفي لحدود منطقة النظرية فإن العقل البحثي يفتقد أساسًا متينًا من أسس تكوينه وبنائه، وقوّة فعّالة من قوى العمل على مقاربة النصوص والظواهر التي اعتمدت أصلًا في تشكيلها على مَعين فلسفي، على النحو الذي يستحيل إدراك قيمتها ودلاليتها ورمزيتها من دون حضور طاقة تفكير ذات بعد فلسفي يكون بوسعه حلّ شفراتها وتحليل حمولاتها.

          وطبعًا لا يمكن أن تتوقف عملية تأسيس العقل البحثي وتكوينه عند المرجعية الفلسفية فحسب، بل الذهاب إلى سلسلة مرجعيات أخرى ثقافية وسيوسيولوجية ونفسية وجمالية وفنية ومعرفية وشعبية وتاريخية عامة، تُحصّن هذا العقل وتُضاعف من طاقته على النظر والعمل والتحليل والتفسير والتأويل والكشف، إذ إنّ العدّة التي يجب أن تكون عالية الكفاءة والقدرة بيد العقل البحثي يجب أن تكون مشحوذة بأعلى طاقة وحيوية على العمل، وأن تتنوّع في مصادر تكوينها، وطبيعة عملها، وخصوصية عناصرها، وتعدد آليّاتها، وكلما تخصّبت مرجعياتها وتعددت وتنوّعت انعكس هذا إيجابيًا على ثراء إنجازاتها ومعرفية خطوات عملها، وصولًا إلى تحقيق جدوى النظرية داخل مناخ العقل البحثي وفضائه.

رؤيات العقل البحثي وفلسفة المنهج

          ينهض العقل البحثي على «رؤية» تناسب طبيعته وتكوينه وخصب مرجعياته، فالرؤية رهينة دائمًا بأسس التكوين المعرفي والفلسفي للعقل، فحين تكون هذه المرجعيات ذات طبيعة تراثية رصينة وأصيلة تتزيّا الرؤية بهذا الأفق وتتحلّى بمضمون هذه المرجعيات، ويمكن أن يصطلح عليها بـ «الرؤية التراثية» التي يتفتح فيها العقل البحثي على مكامن التراث الأصيلة ومضانّه الغزيرة، حيث تسعفه الرؤية في النظر الصحيح والتعامل الأصيل والرصد الموضوعي للنصوص والظواهر والقيم التي يختزنها هذا التراث، ويجعل منها مادة أساسية يصوغ منها وبها جزءًا من رؤيته الراهنة التي تحتاج إليها النظرية. وحين تكون  «الرؤية حداثية» فهذا يعني أنّ المرجعيات الفلسفية تكون في أعلى كفاءة اشتغالها في التكوين والتأسيس، فضلًا على شبكة المعارف الحديثة التي ينبغي أن يكون لها حضور أصيل في جوهر هذه الرؤية، وفي الوقت نفسه تكون هذه الرؤية مطّلعة اطّلاعًا جيدًا على التراث بوصفه الحاضنة الأساسية للمعرفة عمومًا، على أن تفرّق هنا تفريقًا علميًا ومعرفيًا عاليًا بين  «المعرفة القديمة والمعرفة الحديثة».

          ولابدّ من التمييز هنا في إطار تحديد مفهوم العقل البحثي بين المعرفة التراثية والمعرفة الحداثية، وبين المعرفة القديمة والمعرفة الحديثة، فالمعرفة التراثية معرفة مهمة وضروريّة لابدّ منها بوصفها تاريخًا حيًّا للذاكرة الشعبية والثقافية، إذ لا يمكن لمعرفة حديثة أن تقوم من دون استيعاب المعرفة التراثية وتمثّلها وإعادة إنتاجها، وهي تختزن ماضي الأمة وتاريخها الثقافي والرؤيوي، ولابدّ في السياق نفسه من المعرفة الحداثية التي عليها أن تواكب العصر وتنهل من معارفه غير المعروفة داخل ميدان المعرفة التراثية، من أجل إحداث نوع من المواءمة المطلوبة بين المعرفة التراثية المضيئة والمعرفة الحداثية الخلاّقة، لدعم رؤية النظرية وهي الرؤية الراهنة التي يعتمدها هذا العقل في تشكيل مناخه النظري الذاهب إلى حقل الإجراء. أما العلاقة التقليديّة الصراعيّة بين المعرفة القديمة والمعرفة الحديثة فهي مختلفة عن العلاقة بين المعرفة التراثية والمعرفة الحداثية، فالمعرفة القديمة معرفة منتهية الصلاحية وأصبحت بحكم القِدَم المعرفي التقليدي لا تصلح للعصر الحديث، وقد جاء بمعرفة أخرى لها صلة وثيقة بمفهوم العصر وتقاناته وحاجاته وضروراته وقيمه وحساسياته، لذا أصبح بحكم الإلزام المنطقي ترك المعرفة القديمة واللجوء إلى المعرفة الحديثة ذات القيمة المعرفية العالية في ضوء معطيات العصر ومتطلباته المتنوعة والمتعددة.

          على هذا الصعيد يمكن فهم صورة المنهج وآليات اشتغاله في ضوء إدراك الرؤية بمعناها المتعدد آنف الذكر، فالمنهج يستجيب لطبيعة الرؤية - شكلًا وجوهرًا - ويحقق متطلباته في توفير طبيعة منهجية خاصة تتفاعل مع الرؤية تفاعلًا موضوعيًا منتجًا، فالرؤية التراثية تختلف مناهجها عن مناهج الرؤية الحداثية اختلافًا جذريًا، وإذا ما كان الأمر يتطلّب تحديد الرؤية أولًا فإن تحديد المنهج يأتي ضرورةً على وفق ذلك، على النحو الذي يجعل المناهج الحداثية قابلة ومؤهّلة لارتياد مناطق الرؤية الحداثية والحفر في مساحتها، ومن ثمّ إنتاج القراءة المطلوبة التي تحتاج إليها هذه الرؤية.

          إنّ مناهج المعرفة التراثية هي مناهج سياقية محدودة تناسب وضع هذه المعرفة التي هي بحكم الزمن معرفة ليست متعددة ولا متشعبّة، بحيث لا تحتاج إلى مزيد من المناهج تتعدد في أنساقها وتتنوع في معطياتها، لذا كانت مناهجها ذات طبيعة تقليدية واضحة المعالم على صعيد مرجعياتها النظرية وإجراءاتها التطبيقية، في حين تنوّعت المناهج الحداثية تنوّعًا شديدًا وعالي المستوى، من أجل استجابة قصوى لتنوّع رؤيتها وتعددها وانشطارها المعرفي، لذا تكاثرت هذه المناهج وتعمّقت بسرعة كبيرة أصبح من الصعب على غير المتخصص الإحاطة بها وملاحقة إنجازاتها، إذ هي ذات محمولات فلسفية ومعرفية وعلمية عميقة ومعقّدة تناسب عمق المعرفة الحداثية وعلميتها ومعرفيتها وتعقيدها، ولابدّ لها من عقل بحثي يوازي عمقها المعرفي ورؤيتها المتعددة والواسعة، وطبيعة إجراءاتها التي تنهض على قوة وعي وإدراك وشمول في النظر والمعاينة والرصد والتحليل والتأويل. لكنّه مع ذلك ثمة مشكلات منهجية كبيرة في هذا الإطار ينبغي مراجعتها والنظر المعمّق فيها وتحليلها، من أجل فهم دقيق للرؤية المنهجية التي أرستها طلائع المناهج النقدية الحديثة خاصّة، وطبيعة هذه المناهج النظرية وحساسية إجراءاتها في ميدان التطبيق على النصوص والظواهر، لأن عدم إلقاء الضوء الكافي عليها يبقي الكثير من طبقاتها طيّ الغموض والشك والالتباس وسوء الفهم، ويوفّر فرصة كافية لنقدها نقدًا عامًا من دون فهمها والسعي إلى الإفادة منها وتطويعها لخدمة الدرس النظري العربي.

تحليل المفهوم بين النظرية والإجراء

          بعد مرحلة مقاربة المنهج وهي تأتي بعد مقاربة الرؤية، وقبلها مقاربة النظرية، لابدّ أن تتحوّل المقاربة إلى تحليل  «المفهوم»، بوصفه الآلة الإجرائية الأولى التي تستخدمها النظرية في مساحة التطبيق الميداني للعمل المعرفي والنقدي، إذ لابدّ لكلّ نظرية من منظومة مفاهيمية متطوّرة تتأسس وفق طبيعة هذه النظرية وخصائصها ومرجعياتها وأنساقها ونظم عملها، بحيث تكوّن منظومة المفاهيم شبكة واسعة من أدوات العمل في الميدان توجّه سلسلة العمليات الإجرائية، وتدعمها وتغذّيها وتموّنها بكل ما تحتاج إليه من سبل للمضي قُدُمًا في تحليل الخطاب المعرفي وإنتاج المعرفة. هذه المنظومة المفاهيمية لابدّ لها كي تنهض بعملها الإجرائي داخل الميدان على أكمل وجه من أن تستعين بـ «المصطلح»، الذي يمثّل المفتاح المعرفي الأساس العامل والفاعل في صلب الميدان، إذ تحتاج كلّ نظرية إلى جهاز مصطلحي مناسب وقوي وفاعل ومتطور يعمل على الاستجابة لمنطق النظرية ورؤيتها ومنهجها، ويتمكّن من التعبير عن جوهر النظرية في المساحة الإجرائية التي لا معنى للنظرية من دونها، فالنظرية تؤسس فلسفيًا من أجل أن تتجلّى طاقتها الرؤيوية والمنهجية في الميدان الإجرائي على نحو واضح وعميق ومنتج، ومن يحقق هذه المهمة في أرض العمل هي منظومة المفاهيم والجهاز المصطلحي المرتبط بها. ويحتاج المصطلح إلى آلة أصغر لها قدرة نوعية على وضع حدود للأشياء التي لا تحتاج إلى جهد مصطلحي كامل، وهي آلة  «التعريف»، إذ لا يمكن العمل على مساحة معينة مهما كانت صغيرة في حقل المعرفة بأنواعها كافة من دون تعريفها تعريفًا دقيقًا، ولعلّ من أكثر الأمور التي تنقص الباحث العربي في حقول العمل المعرفي على اختلاف مستوياتها أنه لا يهتمّ كثيرًا بتعريف الأشياء، وربما هي مسألة حضارية في غاية الأهمية تتعلّق بتحديد القضية التي ينبغي معالجتها معرفيًا على نحو دقيق جدًا، قبل البدء بالعمل الفعلي الإجرائي عليها، وقد تتشتّت خطوات العمل وينفرط عقد الرؤية ويتلكأ المنهج ولا تعمل منظومة المفاهيم وجهاز المصطلحات على نحو كفوء، حين تفتقر الأشياء إلى تعريف دقيق يرفع عمل الرؤية والمنهج والمفهوم والمصطلح إلى أعلى درجة كفاءة ممكنة، على النحو الذي تأتي فيه ثمار النظرية غزيرة وناضجة في أقصى درجات الفائدة داخل حقل الإجراء. تتمثّل العلاقة بين المستوى النظري والمستوى الإجرائي بمحاولة إدراك قيمة كل مستوى داخل حاضنة الرؤية والمنهج أولًا، واستجابة لمعطيات المفهوم والمصطلح والتعريف ثانيًا، فالمستوى النظري هو مستوى الدفاع الفلسفي (المنقطع) الذي يتعالى على المحيط ويتمركز حول ذاته النظرية الطاغية، في حين يعبّر المستوى الإجرائي عن اشتغال إجرائي في حقل العمل الميداني، والاضطرار إلى التخفيف من سلطة النظرية والتساهل مع قيودها نحو «الاتصال» الذي يجعل النظرية تتخلّى عمليًّا عن «انقطاعها».

          إنّ إنتاج النظرية الذي يتمخّض عنه إنتاج الرؤية وإنتاج المنهج وصوغ منظومة المفاهيم وشبكة المصطلحات وآليّات التعريف، بحاجة إلى حاضنة ثقافية مثالية تشهد تحولات حقيقية في مجتمع الثقافة ومرجعيته السوسيوثقافية والأيديولوجية والفكرية والحضارية والاقتصادية، وطبيعة هذه الحاضنة هي التي تفرض حلول النظرية والرؤية والمنهج وتحفظ نموها وتطورها، فلو عاينّا النظرية الغربية في رؤيتها المنهجية العميقة لوجدنا أنّ المنظِّرين الغربيين عملوا على حاضنات فلسفية مؤسسة متصالحة مع النماذج والسياقات الثقافية الأخرى في مجتمعاته الثقافية، ومتفاهمة معها، ومستجيبة لمنطلقاتها وقوانينها وقواعدها، على النحو الذي تصف فيه ولادة النظرية بأنها ولادة طبيعية لا تعاني مشكلات في الوجود والتأثير والمصير. أما المنظِّرون العرب فهم في الأغلب الأعم مستقبلون وملخِّصون وشارحون، وذلك  لانعدام حواضن فلسفية عربية صحيحة متصالحة ومتفاهمة مع السياقات والنماذج المؤلّفة للكيان الثقافي والفكري للمجتمعات العربيّة، بمعنى أنّ لدينا مشكلة فيهما معًا، مشكلة في طبيعة الاستعداد الثقافي والفكري والرؤيوي لإنجاز تنظير مستقلّ يخص نظرية عربية ذات هويّة خاصّة، ومشكلة سلبية أخرى في التوقف عند حدود استقبال النظرية الغربية والاكتفاء بشرحها وتلخيصها أو التنويع عليها، على النحو الذي يجعل مفهوم  «المنظّرون العرب» يهتزّ كثيرًا أمام ضآلة المنجز النظري العربي الحديث على المستويات كافة.

          النقاد العرب متساوون مع النقاد الغربيين في استلهام التنظير وفهمه وفرض شخصياتهم وهوياتهم عليه على نحو أو آخر، لكنّ الفرق يظهر في رحابة تعامل الناقد الغربي مع النظرية بأعلى قدر من الانتماء والصيرورة الثقافية والفكرية والفلسفية بوصفها نظريته، في حين يتلكأ الناقد العربي في تعامله مع النظرية بوصفه ضيفًا عليها وتنتمي إلى الآخر، وهو ما يخلق لديه عجزًا ضمنيًا يفقده حرية التصرّف بالمساحات النقدية المتاحة له لشعوره بعدم الحرية والانطلاق في تثبيت هويته داخل منطقة الآخر النظرية.

          تتعالى أهمية النسق الثقافي في بناء المنهج وتأسيس النظرية بوصفه المرجع المركزي الذي يؤهّل النظرية ويمنح المنهج قوّة الحضور والتمركز، وإذا ما عاينّا هذا النسق في الثقافتين الغربية والعربية فربما نتوصل إلى نتيجة تتمثّل في أنّ ثقافة السرد داخل حاضنة الثقافة الغربية بمرجعيتها الفلسفية تقود إلى النظرية، في حين أنّ ثقافة الشعر بمرجعيتها الأدبية ذات الطبيعة البيانيّة الطاغية عند العرب تقود إلى البلاغة، وثمّة مباينة رؤيوية ومنهجية عميقة وواضحة بين الثقافتين على مستوى المرجعية والنتيجة.

هويّة المنهج ومسارات تكوينه

          إنّ تأثر العرب في ما بعد بالفلسفة اليونانية أنتج «علم الكلام» الذي يقوم على الجدل والسجال، وظلت أدوات البلاغة في هذا الإطار عاملة وفاعلة في الميدان، ولم ينتهِ هذا العلم المهم ـ بالرغم من أهليتّه ـ  إلى بناء منهج نقدي خاص وتأسيس نظرية صافية، ظل التردد بين البلاغي والفلسفي عاملًا خطيرًا من عوامل الحيلولة دون الوصول إلى فضاء ثقافي سوي يتيح إنتاج المعرفة، ضمن مناخ عام من التفكير الليبرالي الحرّ خارج المهيمنات والسلطات والمركزيات الضاغطة. المنهج في نموذجه الغربي المستورد والمترجم لا يصمد طويلًا وعميقًا في حقل الإجراء النقدي العربي، إذ إنّ تكييف المفاهيم والمصطلحات عربيًا وتحويرها وتأهيلها يحوّلها عن مسارها النظري في الحاضنة الغربية، ويفتحها على مجال جديد داخل حقل العمل قد ينحرف قليلًا أو كثيرًا عن خطابه النظري الأساس، وهو ما يجعل النقد العربي بدلالة النظرية الغربية وكأنه يشتغل في خطاب آخر، لا ينتمي إلى ما يدّعيه من مهاد نظري مأخوذ من نظرية الآخر الذي يذهب إجرائيًا في سياق مختلف حاوٍ للنظرية في الأصل.

          المناهج  النقدية الغربية ولدت من رحم نظريات حديثة داخل حواضن حضارية وفلسفية وسوسيوثقافية معقدة، نحن العرب اقتطعنا هذه الثمرة الناضجة من سياقاتها وسعينا إلى إنباتها في أرض مختلفة في حواضنها، هنا حصلت المفارقة وتعالى منطق الإشكال النظري، وظلّ التلكؤ يسود فعاليات الإجراء النقدي العربي على مختلف المستويات، ولاسيما ذلك الإجراء الذي يذهب بعيدًا في تبنّي النظرية الغربية بمعطياتها غير المكيّفة عربيًا، لذا فإن العجز النقدي العربي في رؤيته ومنهجه ومفهوماته ومصطلحاته يتأتى أساسًا من هنا، من المفارقة بين مؤسِّس أصيل للنظرية، ومستخدِم إجرائي لآلياتها المأخوذة والمجتلبة.

          التعامل عربيًا مع النظرية النقدية الغربية ومناهجها يحصل دائمًا عن طريق تكييف وإعادة إنتاج وتوجيه مناسب للحاضنة الجديدة، وبما أنّ الفرق بين الحاضنة الغربية المنتجة والحاضنة العربية المستهلكة على المستويات كافة في هذا المجال كبير جدًا، فلابدّ من إجراء سلسلة تكييفات وتوجيهات وإعادة إنتاج، تعمل على التقليل قدر المستطاع من الفجوة الحاصلة بين الحاضنتين، والسعي إلى إجراء نوع من التلاؤم بين الشكل الأصلي المأخوذ من الحاضنة الغربية والشكل المحوَّل والمكيَّف في حقل الحاضنة العربية، من أجل خلق فضاء يمكن تقبّل النظرية فيه على النحو الذي يكون بوسع الإجراء النقديّ العربيّ القيام بممارساته النقديّة التطبيقية في ظلّه وتحت رعايته. يخضع التكييف عادة لوجهة نظر المُكيِّف وثقافته ورؤيته ودرجة وعيه بالمفصل المعيّن والمحدد الذي يسعى إلى تكييفه، وحين يشيع هذا التكييف على صعيد التداول يُتعامل معه على أنه حقيقة نظرية قارّة لدى الكثير من المشتغلين في هذا الحقل، وهنا ينشأ الخلل في مستوى التكييف حين يصبح أساسًا نظريًا ممثلًا لمرجعيته الغربية في حاضنتها الأصلية، من دون الأخذ بنظر الاعتبار أن التكييف العربي للنظرية الأصلية لا يمثّل سوى وجهة نظر خاصة للمكيِّف، قد لا تعبّر عن حقيقة النظرية في جوهرها الغربي.

          إنّ فاعلية التكييف والتوجيه وإعادة الإنتاج يجب أن تخضع لعملية علميّة جراحية دقيقة جدًا، تحتاج فيها إلى كادر نقدي عالي الخبرة والمؤهل والمعرفة ليس متوافرًا دائمًا، وغالبًا ما تتمّ الاستعانة في إنجاز هذا الأمر بالمترجمين، والكثير من المترجمين على هذا الصعيد لعبوا لعبتهم الفادحة - ربما من غير قصد- في قيادة هذه الممارسة الخطيرة قيادة خاطئة، على النحو الذي أسهم في صناعة جيل من النقّاد تبنّوا نظريًا ما قدّمته لهم هذه الترجمة ليقعوا في وهم النظرية المزوّرة، ويبنوا الكثير من إجراءاتهم في حقل التطبيق الميداني على إشكالات هذا الوهم وما تمخّض عنه من نتائج عقيمة.

          حتى أولئك النقاد الذين استطاعوا أن يتفادوا السقوط في شرك المترجمين، وتمكّنوا من استلهام النظرية، وعبّروا عن فهم جيد للتنظير في مستوياته العليا، فقد كانوا يفرضون شخصياتهم وهوياتهم في الإجراء، على النحو الذي يحصل فيه تكييف من نوع آخر داخل حقل الممارسة، بحيث تستجيب نظرية الآخر لنصوص الناقد وظواهره التي يعالجها في أدبه وثقافته وفكره ورؤيته، وهو ما يجعل الأمر أكثر منطقية وأقل خطرًا.

          ربما يسبق عمليات الاشتغال على تأسيس النظرية ما يمكن تسميته بـ  «وعي النظرية»، وهو وعي لا بدّ منه للدخول في فضاء التأسيس، وترتبط بهذا الوعي شبكة من مرجعيات تكوين وعي النظرية تتقدّمها المرجعيات (الفلسفيّة/الثقافيّة/الأدبيّة)، التي تتلاقح في ما بينها تلاقحًا جدليًّا أصيلًا، تعمل كلّ مرجعيّة منها على تشييد منطقة تخصّها من عمارة النظرية، وقد تستعين بمرجعيات أخرى ساندة ومصاحبة للوصول إلى الصيغة المثالية التي لا يمكن للنظرية أن تحيا الحياة المرجوّة من دونها. وفي المقابل فإن ربط النظرية بعد تشكّلها بالواقع الثقافي والأدبي في منطقة الإجراء تحتاج إلى سلسلة عمليات، يمكن تحديدها أولًا بـ  «التحويل»، وهي عملية تفريغ الحمولة النظرية في الكيان النظري للنظرية إلى معطى إجرائي، يتجلّى على نحو واضح ومنتج في حقل التطبيق، وثانيًا السعي إلى  «تكييف» هذا المعطى المفرّغ على النحو الذي يناسب الحال الإجرائية وقوانينها، سعيًا وراء رغبة الوصول إلى القدرة على  «إعادة الإنتاج» التي تجعل النظرية قابلة للظهور عمليًا في حقل الإجراء. يحتاج الأمر هنا إلى تأسيس عدّة عمل مناسبة للاشتغال في منطقة الإجراء، ويجب أن تكون عدّة العمل المناسبة مشفوعة بأدوات صحيحة وسليمة ومناسبة ومشحوذة جيدا وقابلة للتطور، فضلًا على أن تكون بطبيعتها ملائمة للنظرية ومستجيبة للعصر، وأن تكون في معطياتها الثقافية مفتوحة وحرّة وغير متعصبة، وفي الوقت نفسه قادرة على التفاعل والإنتاج المستمر والارتفاع إلى مستوى وعي النظرية.

          إنّ التجارب التي تحصل في حقل الممارسة الإجرائية تنطوي على أهمية كبيرة، ليس على صعيد تحويل منطق النظرية إلى ممارسة إجرائية منتجة تحيا فيها النظرية داخل حقل الإجراء، بل على صعيد أهم يتمثّل بمهمة أخرى للممارسة الإجرائية تتجّه صوب تغذية النظرية وتموينها بمعطيات جديدة تجعلها قادرة على التطوّر والنموّ، على النحو الذي لا تتوقف فيه النظرية عند الحدود الدنيا لتشكّلها الأوّلي، بل تستمر في النمو والتطوّر بوصفها كيانًا حيويًا يعطي ويأخذ، في دورة جدليّة تضاهي الحياة في أكثر مناحيها قوة وتمظهرًا وإنجازًا. وحتى تكون الممارسة الإجرائية في أعلى درجات كفاءتها وطاقتها على الإنتاج لابدّ من العمل على تحديد الظواهر وتحديد المرجعيات، ويكون الهدف من تحديد الظواهر هو مقاربة ما يلائم حقل التطبيق، وهو الذي يعود أساسًا على تحديد المرجعيات في تكوين النظرية ضمن مناظرة تكوينية وإجرائية، إذ إنّ انتخاب الظواهر المراد معالجتها إجرائيًا له أهمية جوهرية في صحّة العمل الإجرائي وكفاءته، وقدرته على الاستجابة لهوية المرجعيات التي قامت عليها النظرية في مرحلة تكوينها. العمل الإجرائي على هذا المستوى ينبغي أن يشتغل بنظام الورشات، وهو نظام إجرائي عالي المستوى يتيح فرصًا كبيرة وكثيرة للتفاعل وتبادل المعرفة والآراء والأفكار، على النحو الذي يسهم عميقًا في رفد العمليات الإجرائية بمزيد من القوّة والعلميّة والكثافة، بعيدًا عن الرؤية الفردية التي قد لا تنتج مساحة واسعة من تثمير التحليل والتأويل في معاينة النصوص والظواهر قيد الدرس والقراءة والنقد.

          فالتمرن على العمل الجماعي يمنح الرؤية فضاءً أوسع، ويعزز رصانة المنهج، ويؤكّد صحة منظومة المفاهيم وجهاز المصطلحات، ويقلل كثيرًا من الشطحات النقدية الفريدة التي تستجيب أحيانًا للأهواء والعواطف والإحساس بصفاء الجهد الفردي وغروره، إذ تلتحم الروح الجمعية في إطار خدمة موضوعية المقاربة النقدية للنص أو الظاهرة، على طريق تفعيل آليّات الدقّة والاستقصاء وتطوير النتيجة نحو مستقبل أفضل للجهد النقديّ، وهو يستعمل النظرية مستخدمًا أدواتها بأعلى درجة من درجات وعي النظرية، وبأكبر قدر ممكن من سلامة الإجراء وصحّة فعالياته وصواب نتائجه.
--------------------------------
* ناقد وأكاديمي من العراق.

 

محمد صابر عبيد*