عام طه حسين.. التعليم والديمقراطية في فكر طه حسين: د. فيصل دراج

عام طه حسين.. التعليم والديمقراطية في فكر طه حسين: د. فيصل دراج
        

          تمر هذا العام الذكرى الأربعون لرحيل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وهي مناسبة لتجعل «العربي» عام 2013 عام طه حسين، تقديرًا لرحلة التنوير التي قادها، وإجلالًا للفكر الذي قدمه وأحياه، وتحية للنهضة التعليمية التي دعا إليها. وقد استكتبت «العربي» أعلام المثقفين والأكاديميين العرب للكتابة عن جوانب حياة وفكر وأدب طه حسين، وستنشر في كل عدد هذه الكتابات التي تعيد القراءة لأعماله، من منظور جديد، لتعيد اكتشاف طه  حسين، الحي بأثره وآثاره، حتى بعد مرور 4 عقود على رحيله.

التعليم والديمقراطية في فكر طه حسين

  • «الرجل الذليل المهين لا يستطيع أن ينتج إلا ذلاً وهواناً. والرجل الذي نشأ على الخنوع والاستعباد لا يمكن أن ينتج حرية واستقلالاً».

(طه حسين)

  • «لا يمكن اشتقاق مجتمع مدني من مجتمع للعبيد».

(توكفيل)

          دافع طه حسين طيلة حياته، في كتاباته المتعددة الأجناس، كما في حياته العملية المتنوعة الوجوه، عن فكرة محددة واضحة، عنوانها: «الذاتية المفكّرة الحرة». فلا وجود للإنسان إلا بإعمال فكره في أمر مفيد، ولا قوام للفكر المفيد، إلا إن كان الإنسان المفكّر حراًَ، يتمتع بحرية الرفض والقبول. ولعل إيمانه الحاسم بفاعلية الفكر الطليق، الذي عليه أن يثبت وأن ينفي، هو الذي حرّضه على نشر كتابه الشهير «في الأدب الجاهلي»، الذي قطع فيه مع مناهج التدريس القائمة على التكرار والإعادة، كما لو كان العلم جوهراً ثابتاً، جاء به زمن قديم. وبعد عشرين عاماً، تابع فيها معاركه الفكرية المتجددة، جاء بكتاب آخر، يوطّد ما قال به الأول ويضيئه، عنوانه: «الفتنة الكبرى» - 1947، الذي أراد منه «أنسنة الموروث» وقراءته بمعايير عقلانية. دافع في الكتابين عن «علم تاريخ الأدب»، وعن «علم التاريخ»، وأقام العلمين على منهج نقدي محصّن بالمعرفة الموضوعية، معتبراً النقد مدخلاً إلى توليد معارف جديدة.

          انطوى الكتابان، اللذان ساءلا الشعر في تاريخه ونظرا إلى الخلفاء الراشدين في حقبهم المتوالية، على مقولة آمن بها طه حسين إيماناً لا مزيد عليه، هي: المفرد المفكّر الفاعل، الذي يعترف بغيره ويطلب من غيره أن يعترف به، ذلك أن في الاعتراف المتبادل احتراماً لمبادئ الأخلاق وقواعد الحياة معاً، فالباحث في العلم لا يأتي بجديد، إلا إذا اتفق واختلف مع غيره من الباحثين، أو رفض أفكارهم وانتهى إلى اختلاف صريح لا يقبل بالمصالحة. فحال الباحث من حال العلم، الذي يصبح علماً بتميّزه عن غيره وتحرره من سيطرته، حيث علم الفيزياء له قوانينه، وعلم الرياضيات له معادلاته، وعلم الأحياء (البيولوجيا) له فرضياته ومختبراته، ... والمحصلة أن المفرد لا يفيد «الجماعة» إلا إن استقل عنها، وأن العقل الجماعي المفيد محصلة للعقول المفردة المتحاورة، التي تترجم، منطقياً، مبدأ: المساواة بين البشر. وكذلك الحال في حقول العلوم المختلفة، إذ «العلم الكلي»، الذي ينصب ذاته مرجعاً للعلوم جميعاً، يرضي أوهامه، أو مصالحه، ويعطّل تطور العلوم، لأن تطور العلم من استقلاله الذاتي النسبي، الذي يستشير تاريخ العلم، ولا يلتفت إلى «العموميات الشمولية».

          حين وضع طه حسين، عام 1938، كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» واتخذ من المدرسة الحديثة مركزاً له، لم يكن يهجس بمواد مدرسية متراصفة منقطعة، غالباً، عن أسئلة الحياة وحاجات البشر، إنما كان يوحّد بين وظيفة المدرسة ومبدأ «المفرد الإنساني الطليق»، مؤكداً المدرسة مكاناً لتنشئة العقول وتحرر النفوس، بعيداً عن مدرسة تقليدية يدور تلميذها في ثنائية عقيمة طرفاها: التلقين والاستظهار، يرتاح إليها «أستاذ» قُمع بدوره قبل أن يصبح أستاذاً.

          أراد طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة» أن يقطع مع مناهج مدرسة تقليدية، تقمع التلميذ وهي تعلّمه، وتقمع في عقله الفضول المعرفي والميل إلى المساءلة، كما لو كانت تعلّمه الانصياع قبل غيره، و«تقنعه» بأن الانصياع فضيلة، وبأن الفضول المعرفي تطاول على «أستاذه الحكيم». ولهذا ساوى حسين بين المدرسة الحديثة والثقافة المفيدة، التي تشعر الإنسان بحريته وتعترف بحقه في السؤال، رافضاً الفكرة البليدة التي تختصر التعليم في فعل عنوانه: محاربة الأمية، ذلك أن التعليم الذي يغلق الفكر، يعيد تأسيس الجهل على «قواعد متعلّمة». ولعل إرجاع التعليم إلى «محاربة الأمية»، والتي هي شكل من التجهيل الممنهج، هو الذي منع الجامعات العربية من الظفر بموقع بين الجامعات العالمية المرموقة، وهو ما قال به د. أنطوان زحلان في كتابه الأخير: «العلم والسيادة». وواقع الأمر أن صاحب «الأيام»، كان مشغولاً بفلسفة التعليم المفيد، لا بمحاربة الأمية، ومهجوساً بمدرسة من نوع جديد، تربط بين المعارف المدرسية وحاجات الإنسان اليومية، وبين المتعلمين وبناء مجتمع وطني يدعمه المتعلمون بوسائل علمية وطنية، لذا ساوى حسين بين مستقبل المدرسة ومستقبل الثقافة، وبين مستقبل مصر ومستقبل المدرسة والثقافة معاً. تصبح المدرسة الوطنية، في هذا التصور، مجازاً حداثياً متعدد المستويات، يتضمن السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع، ويحتقب منظوراً نقدياً، يكشف عن السلبي الواجب رحيله، ويستقدم ما يدفع إلى التطوّر والارتقاء.

  • بين السياسة التعليمية والسياسات الوطنية

          وضع طه حسين كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، وهو يقع في جزأين من خمسمائة وخمسين صفحة، بعد اتفاقية 1936، «التي أعادت فيها بريطانيا إلى مصر جزءاً من استقلالها الخارجي وسيادتها الداخلية». استهل المؤلف كتابه الضخم بمعاهدة 1936، من حيث هي واقعة وطنية عالية الأهمية، وعطف عليها مباشرة واجب «قادة الفكر»، أو «قادة الرأي»، نحو «الشباب من المصريين»، والشباب الجامعيين منهم بخاصة. جاء في الصفحة الأولى: «وقد تحدثت إلى هؤلاء الشباب، ....، واستقر في نفسي أن واجبنا في ذات الثقافة والتعليم بعد الاستقلال أعظم خطراً وأشد تعقيداً مما تحدثت به إليهم، ....».

          تنطوي الجملة السابقة على إشارات ثلاث: تبيان العلاقة بين دور التعليم وترشيد الاستقلال الوطني، ذلك أن استقلالاً تقوده عقول جاهلة أشد سوءاً من الاستعمار الذي سبقه، والإيمان الواضح بدور قادة الرأي الذي قال به كتابه «قادة الفكر» 1925، وتأكيد «الشباب الجامعيين» مرجعاً أساسياً من مراجع مصر المزدهرة القادمة. اشتق حسين دور الشباب من دور التعليم، واشتق «جدوى الاستقلال الوطني» من دور الطرفين معاً، مقتنعاً الاقتناع كله بأن الاستقلال في ذاته لا يساوي شيئاً كثيراً، فقد يكون شراً، إن استقر في يد قلة باغية فاسدة، وقد يأتي بالخير كل الخير، إن احتضنته سياسة وطنية تجمع بين التعليم والديمقراطية.

          ربط طه حسين بين التعليم والثقافة وحاجات الاستقلال الوطني، مؤكداً أن الاستقلال في ذاته لا معنى له، إن لم يبن مجتمعاً وطنياً متطوراً، يستلهم تصورات «المدرسة الحديثة»، بل إن هذا الاستقلال يمكن أن يكون عامل تأخر وتخلف، إن عجز أصحابه عن إدراك معناه ودلالته. فهو يقول في مطلع الفصل الأول «إن الحرية والاستقلال ليسا غاية تقصد إليها الشعوب وتسعى إليها الأمم، وإنما هما وسيلة إلى أغراض أرقى منها وأبقى، وأشمل فائدة وأعم نفعاً». بل إنه يقول في الصفحة اللاحقة: «أنا أخاف أشد الخوف ألا نقدّر تبعات هذا الاستقلال، ....، وأن يعود الاستقلال والحرية علينا بالشر». من أجل تجسيد معنى الاستقلال وضع حسين كتابه، معتبراً أن «الأرقى والأبقى» لا يأتي إلا عن طريق تعليم حديث.

          تشكل معارف «الشباب الجامعيين»، في هذا التصور، حاجة وطنية، وقوة تصون الاستقلال الوطني وتصوّب سبله، وتترجم، اجتماعياً، مقاصد «قادة الفكر» واقتراحاتهم. فالتعليم، كما الاستقلال، لا وجود له في ذاته، لأنه قائم في الآثار الناتجة عنه في حقول الإبداع والسياسة والنماء الاجتماعي. وهذه الآثار، المنفتحة على المجتمع والحياة، هي التي تجعل من التعليم ثقافة، وتنتج المتعلّم المثقف الذي ينقد ويقترح ويبادر، من وجهة نظر الحاجات الوطنية، على مبعدة من التلميذ التقليدي المكتفي بـ «عقل كُتُبي» يزهد بالقضايا العملية.

          يتكئ خطاب طه حسين عن التعليم والثقافة على ثلاث مقدمات نظرية: تعترف الأولى منها بتبادلية العلاقة بين الاستقلال الوطني والحداثة الاجتماعية، إذ لا استقلال بلا مشروع تعليمي ثقافي من نمط جديد، ولا معنى لوحدة التعليم والثقافة إلا في دوريهما في التحول الاجتماعي، الذي ينبذ التخلّف ومعاييره ويقترح أفقاً مجتمعياً حديثاً قابلاً للتحقق. وتقول الثانية بتكامل المقولات الحداثية، التي تتضمن الديمقراطية وحكم القانون وحقوق الإنسان ونظاماً سياسياً عادلاً، يترجم، عملياً، هذه المقولات جميعاً. وتتضمن المقدمة الثالثة، التي ترد إلى المقدمتين السابقتين، وحدة الشعب والتعليم والديمقراطية، إذ الشعب ظاهرة سياسية ثقافية، تتعين بانتماء وطني يتجاوز المراجع الدينية والجهوية، وبحقوق دستورية تحفظ دور الشعب في اختيار النظام السياسي، وإذ التعليم ضرورة تسعف الشعب على التمييز بين الحكم الفاسد والحكم وفقاً للقانون، وإذ الديمقراطية تكفل التساوي بين المواطنين وحقوقهم.

          صاغ طه حسين، في «مستقبل الثقافة»، خطاباً متسق العلاقات، يقرأ الظواهر جميعاً من وجهة «المواطن الكريم» الواجب «تعليمه»، الذي يميّز الذل من الكرامة و«العلم الكاذب» من المعرفة الموضوعية. يقول في كتابه: «والرجل الذليل المهين لا يستطيع أن ينتج إلا ذلاً وهواناً، والرجل الذي نشأ على الخنوع والاستعباد لا يمكن أن ينتج حرية واستقلالاً...». واجه المؤلف الخنوع والاستعباد بالحرية والاستقلال، وواجه التجهيل بمعرفة نيّرة ومستنيرة: «وإذا كان هناك شر يجب أن نحمي منه أجيال الشباب فهو هذا العلم الكاذب، الذي يكتفي بظواهر الأشياء، ولا يتعمق حقائقها. فلننظر كيف نردّ عن أجيال الشباب هذا الشر. وليس إلى ذلك من سبيل، فيما أرى، إلا أن نقيم ثقافة الشباب على أساس متين» (ص : 70).

          ومع أن «السيد العميد» يدير حديثاً واسعاً حول التعليم وإصلاحه، فهو يُؤثر كلمة الثقافة على التعليم، لما فيها من قوة توقظ الوعي وتصوّبه، ذلك أن الهدف هو الإنسان المواطن، الذي له حقوق يجب أن يتبيّنها، لا المدرسة في ذاتها، من حيث هــي تلاميـــذ وإدارة ومدرّسون.

          تأخذ المدرسة، أو التعليم الديمقراطي، موقع «الأمير» في فلسفة ميكيافيلي السياسية، فكما أن «الأمير قادر على توليد إمارة جديدة من إمارة غائبة»، فإن المدرسة قادرة على تخليق المجتمع المصري من جديد، شريطة أن تكون الديمقراطية علاقة داخلية فيها: «إن كثرة المصريين لاتزال جاهلة جهلاً مطلقاً، ولا بدّ من أن تقوم الديمقراطية بتعليمها على النحو الملائم لأصول الديمقراطية وغاياتها» (ص: 71). يحيل التعليم الديمقراطي على الشعب، بقدر ما يحيل الشعب المتعلم على ديمقراطية صحيحة: «فالدعامة الصحيحة للحرية الصحيحة إنما هي التعليم الذي يشعر الفرد بواجبه وحقه، وبواجبات نظرائه وحقوقهم. والذي يشيع في نفس الفرد هذا الشعور المدني الشريف، شعور التضامن الاجتماعي»، أو أن يقول حسين: «إذا تعلم أبناء الشعب عرفوا ما لهم من حقوق في حياتهم الداخلية فلم يسمحوا لقلة مهما تكن أن تظلم الكثرة، وعرفوا ما لهم من حقوق في حياتهم الخارجية فلم يسمحوا لدولة مهما تكن أن تظلم مصر أو أن تستذلها». ولهذا اخترقت صفحات كتابه جملة لها شكل الشعار: «يجب تعليم الشعب كل الشعب، ويجب تعليم الشعب كل التعليم».

          وضع حسين في خطابه نسقين من المفاهيم، يتحدّث الأول منهما عن: الشعب، الشعور المديني، الدستور وحقوق المواطن، الكرامة الوطنية، الكثرة الواجب تعليمها،... ويتحدث الثاني منهما عن : الرعية، الوعي الزائف الشعور الفئوي الضيق، الظلم، الاستعباد، التهديد الخارجي، .. أوكل حسين إلى التعليم الديمقراطي إنجاز هذه الأغراض، محوّلاً التعليم الديمقراطي إلى مشروع وطني اجتماعي وسياسي معاً. تكثّف هذه المقولات فكرته الجوهرية القائلة: لا يمكن استيلاد مجتمع مدني من مجتمع جاهل حرم من الحياة المدنية القائمة على وحدة الديمقراطية وحقوق الإنسان. يحمل التعليم، الأقرب إلى الحلم، وظائف متعددة: يحرر الفرد من تصورات ضيقة «جاهلة» أملتها عليه سلطة القديم واستبداد العادات المتوارثة، ويمدّ الفرد بتصورات عقلانية لا تساوي بين ظواهر الأشياء وحقائقها، ويُعين الإنسان على معرفة إمكانياته، كي يتخلّص من «الإنسان الغفل» الذي كانه ويصير كائناً بذاته، يقترح ويرفض ويبادر، بيد أن التعليم، المتعدد الغايات، لا يرى، ولا يمكن أن يُرى، بمعزل عن الحياة الديمقراطية، يقول حسين: «إن النظام الديمقراطي يجب أن يكفل لأبناء الشعب جميعاً الحياة والحرية والسلم. وما أظن أن الديمقراطية تستطيع أن تكفل غرضاً من هذه الأغراض للشعب، إذ قصّرت في تعميم التعليم الأولي وأخذ الناس به جميعاً طوعاً أو كرهاً» (ص: 94). اتكاء على مبدأ تكامل العلاقات الحداثية يتساوى التعليم والنهوض الشعبي والديمقراطية، ويتساوى التعليم والديمقراطية وتوليد الحاجات الوطنية.

التعليم الديمقراطي ومرجعية الدولة

          عهد طه حسين إلى التعليم الديمقراطي بتوليد مجتمع مدني حداثي الحاجات والغايات والوسائل، مطالباً بإصلاح تعليمي شامل، أي مطالباً، في التحديد الأخير، بإصلاح سياسي شامل، ذلك أن المدرسة، كما الأجهزة التعليمية بعامة، جهاز من أجهزة الدولة التربوية، يوائم بين «مادة التعليم» ومصالح السلطة الحاكمة. لم يشأ حسين، البارع في المكر اللغوي، أن يصطدم مباشرة بالدولة المصرية، القائمة على نخبة غير مبرّأة من الفساد، فاكتفى، غالباً، بكلمة الدولة، ناسباً إليها أهدافاً، لن تستطيع القيام بها. صدر دور الدولة المفترض عن تصوره النظري للسياسة التعليمية، الذي يشتق المجتمع الحديث من المدرسة، ويشتق المدرسة الحديثة من الدولة. والسؤال الصعب والمربك: من أين تأتي الدولة الديمقراطية التي تشرف على تعليم ديمقراطي؟

          يستهل حسين الفصل الثالث عشر من كتابه بالكلمات التالية: «إلى الدولة التي وحدها يجب أن توكل شئون التعليم كلها في مصر إلى أمد بعيد» (ص: 71). يرفع القول من شأن الدولة، شريطة التزامها بمشروع تربوي طويل الأمد، وشريطة أن تتعامل معه بالجد والحزم، ذلك أن «الدولة وحدها هي التي تستطيع أن تضع المنهج والبرامج، وأن تلاحظ ذلك ملاحظة دقيقة، ..». دخل حسين إلى مشروعه من باب المسئولية الوطنية، الذي يتمتع به «قادة الفكر»، ومن باب «الرهان»، الذي طرقه ميكيافيلي وهو يبحث عن «إمارة جديدة»، بل إنه دخل إليه مدفوعاً بقوة الواقع المشخص، حيث للدولة من القوة ما يتجاوز، كثيراً، قوة «القلة المتعلمة من المصريين، وهي لا تعدو العشرين في المئة»، والتي تلقت أشكالاً مختلفة من التعليم، تنوس بين التعليم الرسمي المدني، التعليم الأجنبي، والتعليم الديني، وتمنع عنها التجانس والفاعلية المنشودة.

          سواء عهد حسين بمشروعه الكبير إلى الدولة، أو إلى حلم طوباوي تتلامع في آفاقه الثورة الفرنسية، فقد كان مشروعه سياسياً بامتياز، كان في شعاره: «لا تعليم بلا ديمقراطية ولا ديمقراطية بلا تعليم» دعوة إلى دولة من نمط جديد، فلا يحفل بتعليم الشعب إلا دولة انبثقت من إرادته، ولا يعرف الشعب ما يريد إلا إذا أرشده التعليم الديمقراطي إلى ما يريد.

          يفصح الشعار، في الحالين، عن أولوية النظام السياسي على النظام التعليمي، لأن النظام المستبد لا ينتج إلا مدرسة على صورته، وعن أولوية الوعي الاجتماعي على النظام السياسي، تلك الأولوية التي اجتهد طه حسين في سبيلها، وأوكل تحققها إلى المستقبل والرهان.

          وقد نسأل مرة أخرى: ما هي الأهداف المتوقعة من عروة وثقى بين التعليم (الثقافة) والديمقراطية؟ الجواب واضح: هناك إنسانية الإنسان وحقوقه كمواطن في وطن يتمتع بالسلم الاجتماعي والكرامة الذاتية. يقول روسو في «العقد الاجتماعي» الذي ألم به حسين إلماماً كافياً: «نحن لا نبدأ حقاً في أن نصير بشراً إلا بعد أن نكون مواطنين». ذلك أن حقوق المواطنة تفضي إلى وعي وطني جماعي، يأتي به التعليم الديمقراطي، ويمدّه بالتماسك ويؤمن له الوحدة، بعيداً عن أشكال شائهة من الوعي، تساوي بين الوطن والبيئة الاجتماعية المحدودة، أو تختزل الانتماء الوطني في هوية دينية، لا ينقصها الانغلاق»، لهذا تحدث حسين عن «العقلية المصرية التي تلائم الحاجة الوطنية»، وهاجم أشكال التعليم التي تبذل الفرقة والشقاق، والتمس من الدولة تعليماً موحداً ديمقراطياً: «وجملة الأمر أن الدولة يجب أن تشرف على المدارس الأجنبية...، فتكفل لأبنائها الذين يدخلون هذه المدارس ما تكفله لأبنائها الذين يدخلون في المدارس الوطنية من التعليم الصحيح للغة القومية، والتاريخ القومي، والجغرافيا القومية، والدين القويم» (ص: 83 - 85). والمقصود في هذا كله توليد الوعي الوطني المتجانس عن طريق مناهج التعليم الديمقراطي، الذي يتجاوز الفروق الطبقية واختلاف الأقاليم وتنوع المراجع الدينية.

          لا يأتي التصور الديمقراطي للتعليم على المواضيع المصرية، إلا ويضيف إليها طه حسين نعت: «الوطنية»: الحاجة الوطنية، الشخصية الوطنية، التاريخ الوطني، التربية الوطنية، حماية الوطن،... بيد أن هذا الوطن، الذي يحتمل أوصافاً كثيرة، لا وجود له إلا بأفراد يحققون فيه كرامتهم الداخلية والخارجية، فالوطن، في التحديد الأخير، لا ينفصل عن حاجات المواطن، التي تقنع الإنسان بالموت في سبيله، أو تدفعه إلى البحث عن الهجرة بحثاً عنيفاً، لا رفق فيه ولا لين، بلغة طه حسين. ومع أن خطاب حسين وطني المبتدأ والنهاية، ويجمع بين التعليم والسياسة والديمقراطية، فهو لا يغفل دور الثقافة الإنسانية، إن لم يرَ في الانفتاح عليها واجباً وطنياً أيضاً. يقول في الصفحات الأخيرة من كتابه: «وفي حياتنا العقلية تقصير معيب يصيبنا منه كثير من الخزي كما يصيبنا كثير من الجهل وما يستتبعه الجهل من الشر. ولا بد من إصلاحه إن كنا نريد أن ننصح لأنفسنا ونعيش عيشة الأمم الراقية، وإن كنا نريد أن ننصح للعلم نفسه ونشارك في ترقيته وتنميته. وإن كنا نريد أن ننصح للشعب فنخرجه من الجهل إلى المعرفة، ومن الخمود والجمود إلى النشاط والإنتاج. ومظهر هذا التقصير المخزي للترجمة والنقل عن اللغات الأوربية الحية. فما أكثر الآثار العلمية والفنية والأدبية التي تنعم بها الإنسانية الراقية، وما أشد جهلنا لهذه الآثار وغفلتنا عنها. وما أقل حظنا من الاستمتاع بلذاتها النقية الممتازة. وما أكثر حديثنا عن مجد العرب الأولين حين أقبلوا في شره رائع على آثار الأمم المتحضرة فنقلوها إلى لغتهم، ومزجوها بتراثهم، وغذوا بها عقولهم وقلوبهم، وكونوا منها حضارتهم»، ليس الانفتاح على الثقافة العالمية إلا تعبيراً عن المنظور الديمقراطي لطه حسين. ذلك أن الوعي الديمقراطي يحتفي بالمتعدّد، وينأى عن الواحد المكتفي بذاته، الذي هو من نصيب العقول المستبدة.

ملاحظة سريعة: التعليم ومدارس الحالمين

          فصّل حسين في موضوعه تفصيلاً واسعاً، فمر على المدارس الابتدائية والثانوية والأزهر والمدارس الخاصة وضرورة الدفاع عن اللغة العربية وتعليمها بشكل سليم مروراً بنخبة فاسدة مفسدة، تقتات بجهل البشر وتبارك «المراتب المصطنعة»، التي تضمن ديمومة الأعلى والأدنى. ومع أنه حاذر في خطابه الطويل الحديث عن الثورة، أو ما يشبهها، فقد كان فيه دعوة إلى «ثورة ثقافية»، تستأنس بأمجاد «مصر الخالدة» وبدورها في حماية «الثقافة اليونانية»، وتستأنس بالخبرة التعليمية الفرنسية التي ترجمت تعاليم الثورة الفرنسية، التي أسّست لدولة وطنية جديدة.

          أراد حسين، متوسلاً التعليم الديمقراطي، إصلاحاً عقلانياً للمجتمع المصري، يفسح مكاناً للجديد ويفتح الثقافة المصرية، بعد إصلاحها على الثقافة العالمية الحديثة، في آدابها وفلسفاتها وفنونها الخصيبة، والتي يحول التعليم التقليدي بينها وبين الناشئة من المتعلمين المصريين. أشار إلى ذلك في رسالة مفتوحة نشرها في كتابه «أحاديث»، عنوانها «كتاب إلى الآنسة مي»، جاء فيها: «والحقيقة الواقعة هي أن ثقافتنا ضعيفة مسرفة في الضعف ضيقة مسرفة في الضيق. والحقيقة الواقعة أيضاً هي أن الذين يحبون الرقي للشرق لا ينبغي لهم أن يرضوا بهذه الثقافة، فضلاً عن أن يعجبوا بها ويلتمسوا لأصحابها المعاذير».

          والحقيقة الواقعة أيضاً أن حسين حلم بـ «ثورة برجوازية»، ينجزها التعليم الديمقراطي والمتعلمون الذين أتيح لهم تعليم ديمقراطي. ربما يكون حلمه، المشبع بثقافة كونية، قد دفع إلى شيء من القياس السريع والكثير من الرهان دون أن يخدش هذا حقيقة «كتابه»، أو أن يبطل راهنيّته، فكتاب «مستقبل الثقافة في مصر» لا يزال المشروع التنويري الاجتماعي، الأكثر تماسكاً وتفصيلاً ومنطقية من بين جميع المشاريع التي اقترحها المثقفون العرب في القرن العشرين، إن لم يكن الوحيد، الجدير بتعبير: المشروع الوطني الثقافي. وهو ما ألمح إليه عبدالله العروي، المفكر العربي الأكثر نباهة بعد طه حسيــن، في «أوراقه» الأخيرة.

          أراد حسين أن يشتق من التعليم ثورة وطنية ديمقراطية، مستأنفاً جهوداً تنويرية سبقته، بدأهـــا رفاعــــة الطهطــــاوي، الذي نشر عام 1872 كتابه الأساسي «المرشد الأمين للبنات والبنين»، وعلي مبارك الذي أراد «أن يكون هناك مدرس حكومي في كل قرية»، وقاسم أميــن والشيــــخ محمد عبده، الذي «حزن عليه أصحاب الطرابيش لا أصحاب العمائم»، كما قال طه حسين.

          ربما يكون في هزيمة التنوير العربي، التي أعقبت «دولة الاستقلال الوطني»، ما دفع بكتاب «مستقبل الثقافة في مصر» إلى النسيان، أو إلى ما يشبهه، دون أن يعني ذلك «أن المنسي خائب»، وأن الحاضر والعالي الصوت في حضوره مبرّأ من الخلل والأوبئة القاتلة.

          حين أنهى حسين صفحات كتابه في يوليو عام 1938، في قرية فرنسية تدعى مورزين، كان يهجس بمصر أخرى «غاب عنها الجهل وأظلها العلم والمعرفة وشملت الثقافة أهلها جميعاً« (ص: 536). لم يكن يدري، أو كان يدري ربما قبل غيره، أن طريق الأحلام معبد بالكوابيس، وأن المثقفين الكبار يعيشون بأحلامهم، زاهدين بموائد عارضة، يعلو بريقها قليلاً وتسقط في الفراغ.
-------------------------------
* كاتب وناقد من فلسطين.

----------------------------------------

اللَيلُ في صَدري بَدا يُظلمُ
                              لا كَوكَبٌ فيهِ وَلا أَنجُمُ
يعثُر قَلبي هائِماً في الدُجى
                              بِأَعظُمِ الصَدرِ فَلا يَسلَمُ
إِن يَكُ ظَمآناً فَما من دَم
                              جَفَّت عُروقي لَيسَ فيها دَمُ
وَإِن يَكُن جاعَ فَلا مَأكَلٌ
                              يَغذوهُ إِلّا ذلِكَ العَلقَمُ
يَشقى وَلا يَعلَمُ ماذا بِهِ
                              يَذوبُ كَالشَمعِ وَلا يَعلَمُ
وَرغمَ هذا عِندَ مَرأى الهَوى
                              يُقدم كَالنِمرِ وَلا يُحجمُ
طَوائِفُ الجِنِّ تَراءَت لَهُ
                              فَخافَ مِنها الحلكُ الأَدهَمُ
وَاِتَّخَذت في جُنبه مسكِناً
                              تُفشي إِلَيهِ الوَيلَ لا تَكتمُ
لمّا رَآهُ حبُّه قالَ لي
                              هذا عَظيمٌ.. قُلتُ بل أَعظَمُ

إلياس أبوشبكة

 

فيصل دراج*