إلياس أبو شبكة.. في غلواء الشعر (شاعر العدد)
إلياس أبو شبكة.. في غلواء الشعر (شاعر العدد)
هذا شاعر آخر أتى إلى الدنيا ووضع بصمته الشعرية المميزة على أرض القصيدة العربية المزدحمة بأسماء المميزين، وغادر سريعا لا يلوي سوى على قصيدة اجتهد في تجويدها في سنواته الأخيرة وحبيبة عاش في كنف انشغاله بها معظم سنواته الشعرية، فكتب لها وكتب عنها بعد أن أعاد كتابتها وتركيب حروف اسمها بما يتوافق مع مستلزمات قصيدته بسمتها العربية. اسمه إلياس أبو شبكة، ولد في العام 1903 في إحدى الولايات المتحدة الأمريكية أثناء رحلة سياحية كان يقوم بها والداه آنذاك على عادة بعض الأسر الميسورة الحال. ونشأ أبو شبكة في كنف هذه الأسرة متنعما برغد العيش أثناء طفولته التي قضى شطرها الأكبر في قرية لبنانية جميلة من قرى كسروان، قبل أن يرحل والده مغدورا في سفر بعيد ولم يكن ذلك الطفل المدلل قد جاوز العاشرة بعد. وعندها تبدل حاله تدريجيا من الرغد إلى ما دونه بكثير.. وبقى ذلك الجرح غائرا في روحه المرهفة طوال حياته. وبالرغم من أن إلياس أبو شبكة كان يعي حجم مسئولياته الجديدة في حياة عائلية لها مستلزماتها الكثيرة المستمدة من نمط معيشي موروث، إلا أن ذلك لم يبدل من طبيعته النزقة والتواقة للتغيير إلا قليلا.. فما إن انتظم في الدراسة بشكل نظامي سنوات قليلة حتى تركها بحجة اندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914، لكن تركه للدراسة لم يمنعه من تثقيف نفسه بنفسه من خلال اطلاعه النهم على كل ما تقع عليه يداه من الكتب والدواوين الشعرية العربية القديمة، وهي القراءات التي غذت في نفسه طموحه الشعري المبكر فتجرأ على كتابة الكثير من القصائد الشعرية التي لم يتورع عن جمعها ونشرها في ديوان رغم ركاكة مستواها وصدى الشعراء الآخرين المباشر، والذي كان يتردد بين أرجائها، لكنه كان مصرًا دائمًا على أنه سيكتب قصيدته المشتهاة كما ينبغي ذات يوم، وكان يمشي في دروب الشعر الكثيرة، محاولا اكتشاف دربه الخاص من بينها، بعيدا عن دروب شهيرة لشعراء كان معذبا بهم ومنهم أبو العلاء المعري وجبران خليل جبران، وإن تقاطع مع دربيهما شرقًا وغربًا، قديمًا وحديثًا في أكثر من مغزى شعري وفكري وروحي أيضًا. وقد ساعده عمله المبكر محررًا صحفيًا متنقلاً بين عدد من أشهر المطبوعات اللبنانية آنذاك على تجويد أسلوبه الكتابي وتشجيعه على النشر وعرض ما ينشره على المحك النقدي الجاد.ويبدو أن إلياس أبو شبكة الذي تعود أصوله العائلية الى أسرة قبرصية نشأت في محيط عربي خالص، واستمدت اسمها من جد كان يعمل في الصيد ويتخذ من الشبكة وسيلة للحياة قد أغرم بالصحافة وعالمها، ولم يتوان عن تقسيم وقته بينها وبين الشعر، فبالإضافة إلى انشغاله بكتابة المقالات الصحفية والروايات المتسلسلة والتعليقات السياسية والدراسات الاجتماعية وغيرها من مواد صحفية تحفل بها صحافة ذلك العصر، كان عضوًا مؤسسًا وفاعلاً في «عصبة العشرة» وهي جمعية أدبية انضوى تحت لوائها، بالإضافة إليه كل من خليل تقي الدين وتوفيق عواد وكرم ملحم كرم وميشال أبي شهلا وفؤاد حبيش وغيرهم من أشهر أدباء وصحفيي لبنان في ذلك الوقت. وقد أبلى أبو شبكة بلاء حسنا في الصحافة فكان مثالا على جرأة الصحفي الذي لا يخشى في الحق لومة لائم. أما الشعر فقد تدرج فيه منذ ديوانه الأول الذي أصدره بعنوان «القيثارة» إلى أن بلغ أوجه الإبداع في ديوان أفاعي الفردوس.. وفي تلك الأفاعي الشعرية التي كتبها الشاعر على مدى سنوات عاشها على ضفاف عشق لامرأة اسمها أولغا، لكنه أسماها غلواء ربما تعبيرا عن غوائه في عشقها وربما ليكون اسمها مناسبا لقصيدته التي كان يبحث عنها في إطار عربي خالص.. وقد برزت شعرية أبي شبكة الخاصة وأبرز سمات الرومانسية التي تميز بها في ذلك الكتاب الشعري الذي لم يخلد قصة حبه وحسب بل أيضًا شعريته الطموح والضاربة في آفاق الحرية كما صورها في قصائد الكتاب الثلاث عشرة. ففي تلك القصائد غاص الشاعر في ثنايا الجسد، على إيقاعات موسيقية وارفة الظلال على عادة رومانسيي القصيدة العربية آنذاك، وأخرج منها ما يمكن أن يكون منبعًا للشر والخير، وللقبح والجمال، كما يراها في فلسفته الخاصة وكما استمدها من قراءاته المتنوعة وخاصة لديوان بودلير «أزهار الشر». ويكتشف الدارس لديوان «أفاعي الفردوس»، بسهولة أن الشاعر قد وضع أساسات شعرية قوية لبنيان كان يتطلع إلى اكتماله كمشروع إبداعي كبير من الواضح أن الشاعر كان دائم الاجتهاد في بلوغ غايته فيه، لكن المرض الذي غدر بجسد إلياس أبي شبكة وهو في منتصف أربعينياته تقريبًا لم يمهله، إلا لأن يترك أثره الأبرز في ذلك الكتاب المفتوح على صفحاته الأولى.. فقد رحل الشاعر في العام 1947 تاركًا وراءه بالإضافة إلى هذا الكتاب أربعين كتابًا آخر ما بين شعر ونثر وترجمة أيضًا. تنويه واعتذار ورد في مقالة الكاتب الشاعر د. علي الحداد، المنشورة في عدد فبراير 2013 (السابق) ص92 كلمة «الراحل» بعد ذكر الشاعر الكويتي الكبير الأستاذ علي السبتي، و«العربي» إذ تعتذر عن هذا الخطأ الوارد في المقال، وتؤكد على أن شاعرنا علي السبتي يتمتع بصحة جيدة، متمنية له دوام الصحة وطول البقاء ومزيد من العطاء الإبداعي. |