السياسة

 السياسة
        

          منذ بداية تحرك الإنسان على وجه البسيطة، تقوده السياسة، بل إن حركاته جميعها تلعب بها السياسة: قفزا وابتساما وانحناء وتصفيقاً وتضحية ورقصا ومقاومة وقناعة وتهليلاً. وقبل أن يتحرك الإنسان على أديم الأرض، كانت الموقعة السياسية التي أخرجته من الجنة، عندما ارتدى إبليس أفخم الملابس، وبدأ في اختيار أحسن كلمات الإغراء وتفخيم الأسلوب، كي يغري حواء ويقنعها بأكل التفاحة، ومنذ ذلك الوقت أصبحت السياسة: هي الجحيم للوصول إلى الرضاء الروحي أو التعاسة الأبدية.

حب السياسة

          والسياسة تحب النفاق والقفز والرقص والسطوة، تتحرك نغماتها الهادئة الساحرة العالية، في مجال حركة الجذب والطرد والحب والكراهية والاستيلاء، التي تنطلق من أفراد ذوي قدرة على الإقناع بالكلام أو من دون الكلام، حيث يصبح صمت السياسة هو الهدف من الوصول بها إلى مآربها وهدفها.

          والسياسة أيضا تحب الهدوء، حيث تمتلك صوتاً ناعماً هامساً قوياً، هذا الصوت الذي يستطيع أن يسحب خلفه المريدين والمؤيدين، ثم بعد ذلك يعلو الصوت ويرتفع ويصبح ضجيجا خشناً، فيبدأ المريدون والمؤيدون في الانسحاب من حولها.

مراتب السياسة

          والسياسة في أعلى مراتبها نراها في الحاوي، هذا اللاعب الذي يجوب الشوارع والنجوع والقرى وآفاق الصحراء، يلعب بالبيضة والحجر، حيث نلاحظ مهارته المذهلة، وتمكنه أن يلعب بالإثنين دون أن يصطدما، ولأنه يستطيع الحفاظ على هذا التوازن الرهيب، وتحت وقع تأثير «ألعبانيات» الحاوي على الناس، يصابون بصدمة الدهشة والذكاء الخارق، وفي الناحية الأخرى نجد خفة اليد التي تمتد مفتوحة ليخرج المشاهدون النقود في خفة من جيوبهم، وهم يبتسمون.

          وعندما يفشل الحاوي في المحافظة على هذا التوازن، تظهر النتيجة الفاجعة في شكل انسكاب محتويات البيضة أو محتويات الحجر، أيهما أهش، وانحسار دهشة المتفرجين، ثم انسحابهم من حوله، أما السياسة في أدنى مراتبها فنجدها في السلوك اليومي للبقالين والأسواق وكتبة النصوص الأدبية حينما يستشعرون فيك رغبة ابتياع أو اقتناء ما هو معروض عليك منهم من دون رغبة منك في الحصول على هذه الأشياء.

أساليب السياسة

          وكل سياسي له طريقة كلام وأسلوب مميز في الإفصاح عما يريده، وإن فشل السياسي في ذلك فإنه يستخدم أساليب أخرى منها: التلويح بيده والتهديد وقرص الأذن واستخدام كل ما تصل إليه يده في تحقيق ما يريده كي يقنعك أو يجذبك إلى رأيه.

          ووسائل تحقيق السياسة كثيرة أولها الإغراء: فهي تبدأ بالسعي الدائم بأنها تقدم لك المتعة والحرية واليقين والأمل بالغد المشرق، وآخر وسائل تحقيق السياسة هي التهديد ثم الضرب، فإن لم تع وتفهم وتستجب، تلجأ السياسة إلى الأداة الفعالة والحاسمة وهي الحرب، كي تفهم وتعي وتستجيب لما تريده السياسة.

          ويختلف الأسلوب السياسي باختلاف الحقبة الزمنية التي يمر بها التاريخ، أو باختلاف من يصدرها، ففي الماضي كانت سياسة الباب المفتوح، وهو أسلوب سياسي يقوم على تعهُّد الدول العظمى بعدم انفراد أي دولة بالحصول على امتيازات تجارية أو صناعية أو سياسية في الصين، وقد بدأت أمريكا بالمطالبة بتنفيذ سياسة الباب المفتوح في الربع الثاني من القرن التاسع عشر، ولكن مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين تغيرت سياسة الباب المفتوح من الصين إلى العالم أجمع، حيث أصبح الأسلوب المتبع هو سياسة «العين الحمراء» و«كسر الرقبة»، وهو أسلوب سياسي نراه جيدا في فلسطين ثم انتقل إلى العراق وأفغانستان، وتشهره الآن أمريكا في رقبة إيران، كما أن الباب المفتوح نص روائي للكاتبة الكبيرة لطيفة الزيات.

ألعاب السياسة

          والسياسة تحب الدهاء والمكر والاقتناص، وتتعلق بأوتار التحليل والاستنباط والتنبؤ، وقدرتها الفائقة على تحليل المواقف واصطياد الفرص، وتختلف درجة اللعب السياسي بين الملوك والعواهل والحكام إلى عامة الناس، وعندما لاحظها أرسطو وضع لها كتابه الشهير «السياسة»، حيث ترجم هذه الأفكار تلميذه الإسكندر المقدوني، الذي أخرج أفكار أرسطو من بين دفتي الكتاب ووضعها على خريطة العالم، كي يفتح هذا العالم من بلدان وأمم بالسيف من شماله إلى شرقه.

          وإن كانت السياسة التي اتبعها الإسكندر في فتح العالم لم تنقذه من التفكير والتدبير في اغتياله بيد حراسه وقادته، حيث ظل سكيرا والسم ينسكب في أذنه.

الدين السياسي

          والأديان السماوية لا تحب السياسة، وذلك لأنها عقيدة وليست فكرة أو حزباً،  والدين الإسلامي يفوق كل الأديان الأخرى في الأمر بالتعفف والتسامي والعفو والتطهر وعدم الانسياق في إشباع الرغبات، حيث نلاحظ على مدار تجولنا بين أروقة التاريخ أن ارتباط الدين بالسياسة يتحول بسببها إلى فصائل وجماعات، ثم إلى صراعات ودماء وحروب وإرهاب، وصفحات التاريخ مليئة بالمواقف السوداء لهذه السياسات.

علم السياسة

          وتعتمد السياسة على كثير من العلوم، فهي تحتاج إلى ذخيرة من المعلومات والبيانات والتحليلات.. ودراسات كثير من فنون التمثيل والأداء.. وفن الإلقاء والتخاطب.. كما تعتمد على المرح والسخرية وسرعة البديهة والتلميحات الهادئة القاتلة.

صوت السياسة

          وصوت السياسة، يختلف وفق من يلقيها، فقد تكون مثل صوت الكروان، هذا الصوت العذب الذي يجذبك ويغريك ويقنعك بأن الأيام السعيدة والغد المشرق قادمان على يده، وبعضها يمتلك صوت الببغاء: حيث يردد ويعيد ما يقوله دائما من دون الوصول إلى أي نتائج سواء بغد مشرق أو بماض يعيد نفسه، وقد يكون صوت السياسة كنعيق الغربان: حيث يصبح من الأفضل لك أن تترك كرسيك أو أن تغير المحطة التلفزيونية، حيث لا يمتلك القدرة على الإقناع وإظهار ما يريده بأقصر الطرق،  تجده دائما في أعضاء مجلس الشعب الذين يطلون على كرسي المجلس قبل أن يجلسوا عليه، وعندما يصلون إليه يتحول الكرسي إلى وسادة كبيرة للنوم اللذيذ.

مبادئ السياسة

          ومن أهم مبادئ السياسة أنها لا تحب الزراعة أو المصاهرة، وذلك عندما نلاحظ أن وضع نبات في غير أرضه أو أن تكون الأرض غير ممهدة لهذه الزراعة، فإن هذه السياسة سوف تصنع تاريخا هشاً ونظاماً حاكماً لا يستطيع أن يصمد أمام أحقاب التاريخ العظمى، فعلتها أمريكا في أفغانستان ثم بعد ذلك في العراق وفي الكثير من الدول الإفريقية والآسيوية، وإن ظلت حالة كوبا حالة فريدة لا تضاهيها غير زراعة الكيان الصهيوني وسط جسد الوطن العربي.

السياسة موهبة

          والسياسة من أهم عناصرها أنها تحتاج إلى موهبة، وهذه الموهبة تحتاج إلى رعاية دائمة بالاطلاع والمثابرة ودراسة تحرك المجتمعات وتغيرها أو تحرك الناس وتغيرهم، ودائما يصف السياسيون أنفسهم بالتعاسة والكفاح في بداية حياتهم وبحثهم الدائم عن سعادة الجماهير، ثم لا يلبثوا أن يركنوا إلى كراسيهم الوثيرة وهم يطلون على ماضيهم بنصف عين وهم في راحة من الضمير.

          ودائماً يبدأ السياسي حياته أليفا، يضحك وينصت للأشياء ولأقوال الناس ويربت على أكتاف الجماهير إلى أن يصعد عليها، ثم يصبح مفترسا تبرق عينه دائما بالتهديد وإصبعه موجَّه إليك كسيف أو خنجر.

          والأداء السياسي يبدأ بالفهم، حيث يصبح حسن اختيار الكلمات وترتيبها ثم قوة الصوت وطبقاته، إلى الذراع وحركاتها، من أهم أدوات السياسي عبر مشواره السياسي.

          ويجب على السياسي أن يتمتع بالقدرة على الإفصاح والتعبير ونقل المعاني والاستعمال الواقعي للغة، ويحدث ذلك نتيجة تدريب العقل واللسان على التكلم، وصوره واضحة دائما في وزراء الكيان الصهيوني حيث يحسنون اختيار من يتحدث عنهم للعالم ويقنع العالم بقضيتهم.

          وخطبة السياسي يجب أن تكون منيرة وحماسية وقصيرة، فعلها طارق بن زياد بعد أن أحرق سفن جيشه وقال لجنوده في هدوء: العدو أمامكم والبحر خلفكم، وفعلها عبدالناصر أثناء العدوان الثلاثي على مصر فوق منبر الأزهر الشريف، وفعلها السادات أثناء حرب أكتوبر، محققا نصرا حربياً وسياسياً في وقت واحد، لكن سقط فيها مبارك في خطابه الأخير.

          ومنذ تلك الحرب المجيدة، هبطت الخطبة السياسية لدينا، بل أصبحت من دون فاعلية أو أن تثير الناس وتجذبهم لها، وهذا ما نطلق عليه الخطبة المملة، حيث يصبح الكلام رنانا وطنانا يلقيه الخطيب أمام جمهور لا يهتم بالاستماع إليه.

تطور السياسة

          وقد تطورت السياسة خلال أحقاب التاريخ، وأصبحت علماً قائماً بذاته، يدرس أسفل قباب الجامعات والمعاهد العليا، ودائما تجدها تتضخم بها أفواه البرلمانات والمجالس الشعبية وبطون الدستور ومجالس الديوانيات والمصاطب القروية والجامعات المتخصصة في الوقت نفسه، حيث يتم تحليل ودرس أقوال وممارسات ميتريخ ومعاوية ومحمود فوزي وتشرشل ونهرو وجحا وأنور السادات واسحق رابين وجورباتشوف وإيزنهاور وكيسنجر.

          والسياسة ليس لها وعد أو قسم، فهي تتغير وتختلف وفق تغير الظروف، لكن يظل مبدأ تسخير الممكن في سبيل تحقيق الصعب هو أكثر وعودها ثباتاً.

ألعاب سياسية

          ولعبة السياسة دائما تستدعي إخفاء بعض الحقائق والعيوب والمبالغة في التحسين والتجميل، أو التهوين والتصغير في الأمور الكبيرة، إنها السياسة التي تؤدي إلى أن نشرب الحكاية دون انتباه لما تخفي.

          وأول شيء يستخدمه السياسي حين يعتلي كرسي الحكم، إن كان إمبراطوراً أو ملكاً أو رئيساً، أن يمارس عملية الطمس، حيث يبدأ في طمس جميع الحقائق والكتابات والصور والتسجيلات الصوتية ذات الأهمية الرسمية والتاريخية، والنقوش والحكم والمواقع والأفعال التي قام بها الحاكم السابق.

          ولا يفلت السياسي من التاريخ، سواء التاريخ الرسمي الذي يكتبه المؤرخون سواء بالمدح أو الذم، أو التاريخ الشعبي، والذي يكون أكثر وضوحاً وجدية من التاريخ الرسمي الذي يدرك ماهية هذا السياسي الراحل وحقيقته.

الضلال السياسي

          والضلال السياسي هو أن يتم استخدام الحيل والتحايل للإيقاع بالطرف الآخر، أو تحقيق أكبر مكسب مادي من توجه الناس اتجاهاً قد يكون ضارا بها، ويتم ذلك عن طريق الوسائل الثعبانية والألعبانية التي يمارسها السماسرة والوسطاء والمفاوضون في الأسواق ومبنى الأمم المتحدة وجمعيات حقوق الإنسان وأعضاء مجلس الشعب والمجالس المحلية.

          كما تجري عملية الضلال السياسي في أمور التزاوج ونقل الملكية ومنح الشهادات العليا واستصدار التراخيص واتفاق غزة أريحا، والتدليس وإلى غير ذلك من شئون.

مسميات سياسية

          لقد مرت السياسة بالكثير من المسميات، وتختلف وفق مصلحة من يطلقها والمرحلة التاريخية التي يمر بها العالم، فبعد سياسة الباب المفتوح وسياسة عدم الانحياز وسياسة الحرب الباردة وسياسة الوفاق وصولا الى سياسة العين الحمراء وسياسة الحرب على الإرهاب.

***

          ودائما ما تنتهي حياة السياسي بالبؤس الجميل، الذي لم يعبر عنه الأدب حتى الآن، منذ قتل قابيل هابيل في أول موقعة بشرية، مرورا باغتيال توت عنخ آمون والإسكندر وشنق طومان باي وجحيم النفي لنابليون والملك فؤاد ومؤامرة الاغتيال لكل من كيندي والسادات، وصولاً لشنق صدام حسين وقتل القذافي وتنحي مبارك.

          ولا نعرف لماذا - حتى الآن - لم يستطع أحد أن يحلل سلوك وأقوال وأفعال أعظم سياسي في التاريخ: إنه العقل العربي.
------------------------------
* كاتب من مصر.