حكمة شواعر الخليج في الشعر القديم
حكمة شواعر الخليج في الشعر القديم
يقول د. يحيى الشامي في تعريف الحكمة: في الحكمة يعبِّر الشاعر عن تجربته الذاتية أو الشخصية أو الموضوعية أو الاجتماعية أو التاريخية، يطلقها الشاعر متضمنة معنى من المعاني القيمة التي ترضي العقل والخلق والدين، وقد تمتزج بروح الشاعر فتصدر عنه لتعبر عن إحساسه ووجدانه، عاكسة وجهة نظره إلى الحياة أو الموت، إلى الوجود أو العدم، وغير ذلك من المعاني الإنسانية الخالدة (1). حكمة شاعرة الخليج من النوع الذي يتصل بالأمور الاجتماعية، وهي بسيطة واضحة تتجه في أسلوبها إلى النصح والإرشاد، وتجمع بين النصيحة والوصية، خاطبت من خلالها الشاعرة ابنها أو ابنتها أو زوجها أو قومها، ولم تخرج في خطابها لهم عن الإطار الاجتماعي العام الذي يمجِّد المجتمع فيه قيم العدالة والشهامة والكرم والحلم والصبر وحسن المعاملة، وربما امتدت نظرتها من خلال تجربتها الذاتية إلى تمجيد العمل. فهذه «أم النحيف العبدية» تحذر ابنها من الظلم، منبهة إياه إلى سوء عاقبته وضيق مخارجه، وداعية في الوقت نفسه إلى الحفاظ على العرض، وهو الجانب الذي يُمدح فيه الإنسان أو يذم، سواء في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره، فعليه ألا يبذله أو يدنسه لأي سبب من الأسباب. تقول (2): حذار بني.. البغي لا تقربنه وتدعو «أم النحيف» ابنها إلى التحلي بالصبر في معاملته لزوجته التي كانت أمه نهته عن الزواج منها، ولكن بعد أن عصاها وصارت امرأته، أصبح لأمه رأي آخر، فعندما تأذى كثيرا من حماقتها وسوء تصرفاتها أخذ يفكر في طلاقها، وهنا نجد أمه تنصحه بألا يفعل، لما يترتب على ذلك من سوء الأحدوثة، وأن يتذرع بالصبر والمسامحة فعل النبلاء الأحرار، وما عليه إلا أن يتركها للأيام، فلعلها تحمل في أطوائها ما يخلصه منها ومن بلائها تقول (3): لعمري لقد أخلفت ظني وسؤتني وهذه أعرابية من بني صباح من عبدالقيس توصي ابنتها عند هدائها أو «دُخلتها»، فتطلب منها أن تخاطب زوجها بالطيب من الكلام الذي لا هجر فيه ولا قبح، وأن تقابله بابتسام وتلطف، وألا تدع مجالا لدخول الشر بينهما قل أو كثر، وألا تتجسس عليه أو تكشف المجهول من أمره. تقول (4): لا تهجري في القول للبعل ولا أما «صفية بنت ثعلبة الشيباني» فحين أجارت «هند بنت النعمان» دعت قومها إلى حماية هذا الجوار، فقالت مذكرة إياهم بحق الجوار الذي كان مقدسا عند كرام العرب: «وإذا كان الكثير منهم تغافل عنه بسبب التراخي وضعف النخوة، فإن بني شيبان ينبغي ألا يكونوا كذلك» والشاعرة وهي واحدة منهم تريد أن ينهضوا بهذا الحق، وبخاصة أن هذه المستجيرة كانت من أعز العرب، فهي ابنة ملوك لم تعرف المذلة والهوان، وقد استجارت بالشاعرة الشيبانية، وعلى القوم أن يجيروا من أجارت كما هي عادة ذوي النخوة والشهامة من العرب. وبعد أن تهيئ المجيرة قومها لقبول الجوار، والالتزام بحقه، تطلب منهم الاستعداد لمواجهة الفرس، فعلى الشيبانيين -كهولا وشبانا- أن يشحذوا السيوف ويقوّموا الرماح، ويتفقوا على سمة واحدة لجنودهم ليعرف بها بعضهم بعضا في الميدان، كما أن عليهم أن يتخذوا جميع ما يلزمهم من حقائب وقِرَب تحمل المتاع والماء. تقول (5): أحيوا الجوار فقد أماتته معا ويخاطب «سالم بن قحفان العنبري» زوجه ليلى بأبيات جاء فيها: لا تعزليني في العطاء ويسِّري فترد عليه بأبيات ثلاثة أقسمت بالله المتكفل بالرزق لجميع مخلوقاته، بأن الحبال الوثيقة الفتل لاتزال عندي أعدها للإبل، لكل منها حبل يقاد به مادامت تمشي على أرجلها، وحثته على البذل فقالت له: أعطِ من الإبل ما يطلب معروفك ولا تبخل فعندي لكل ما تعطيه منها حبل يقاد به، وقد زالت العلل فلا مانع من الإعطاء، تقول (6): حلفت يمينا يا ابن قحفان بالذي وقد تنحو شاعرة الخليج في خطابها منحى آخر، تؤنسن فيه الجماد وتخاطبه مخاطبة الأحياء، مجسدة فيه قيمة العمل الذي يحفظ لصاحبه كرامته وقدره. قالت امرأة من بني قيس بن ثعلبة كانت تغزل فتأكل من ثمن مغزلها، فمدحته لأنها وجدت فيه المعيل والمعين، فهو يسد حاجتها ويكفي مؤونتها ويغنيها عن ذل الحاجة وسؤال القريب والبعيد، فبما تحصل عليه من حياكة ما تغزله، تستطيع أن تشتري بالمحصول من الدراهم والدنانير كل ما تريده دون منة من أحد. فهذا المغزل الذي أغناها أكثر براً بها وبركة من العبد الكسوب. تقول (7): رأيتك بعد الله تجبر فاقتي *** أما الملامح الفنية لحكمة الخليجيات، فمن الناحية اللغوية تميز شعرهن في جملته بالوضوح والسهولة، وربما بدا لنا غير ذلك في قول أم النحيف تحذِّر الظالم من الظلم وأنه مقهور مدحور. تقول (8): مازال ذو البغي شديدا هَيْصُه فهذا النموذج قد يحتاج إلى توضيح بالنسبة لنا، ولكنه عند أهل أو عصر الشاعرة مألوف. فالهيص: العنف بالشيء، ويهصه: يدقه ويكسره، ويُنشِصه: يزعجه، ويقصه: يكسر عنقه، وغاد عنه: مات وزال، وخاله: خيلاؤه، والعرص: النشاط. وثمة لمسات فنية أخرى كالاستفهام الذي ورد في حكمة الخليجيات بمعناه المجازي، كاستفهام النفي في قول صفية الشيبانية: ما العذر قد لفت ثيابي حرة واستفهام التحضيض والتشجيع في قول صفية أيضا: أتهاتفون وتشحذون سيوفكم وكاستفهام التقرير في قول الخرنق بنت بدر: ألست ترى القطا متواترات ومن هذه الخيوط الفنية الترديد أو التصدير، وهو رد العجز على الصدر، وهو ورود كلمة من النصف الأول في النصف الثاني وهو أقسام، منها ما يوافق أول كلمة في النصف الثاني أول كلمة في النصف الأول، كقول أم النحيف: حذار بنيَّ.. البغي لا تقربنَّه ومنها ما وافق كلمة في نصف البيت الأخير أول كلمة في الشطر الأول، كقول أم النحيف أيضا: وعرضك لا تبذل بعرضك إنني ومنها ما ورد في حشو البيت، كقول البكرية تردد لفظة «مغل» فتذكره مرة منكرا ثم معرفا بأل، إظهارا للاسم في مقام الإضمار ليكون أبلغ في المدح. تقول: فلو كان لي عبد مغل مدحته واستعمل شواعر الخليج الجاهليات الأمثال، وهي مما يلحق بالحكمة، من ذلك قول الخرنق بنت بدر: (10) كما قالت فتاة الحي لما فقد ضمَّنت الشاعرة بيتها الثاني المثل الذي أطلقته زرقاء اليمامة وهو «لو ترك القطا لغفا وناما»، عندما رأت سرب القطا يسير متتابعا في الليل على غير العادة التي يُرى فيها وهي مطلع الفجر، مما يدل على أن جيشا يزحف نحو قومها (11). والبيت الثاني يحتوي أيضا على التصدير، حيث تردد لفظ القطا في حشو هذا البيت. وأخيرا،ً فإن شعر الحكمة في شعر المرأة - عموما- قليل بالقياس إلى الرجل، ويعلل بعض الباحثين ذلك بغلبة العاطفة عند المرأة، وأن الحادثة تجذب انتباهها أكثر من الفكرة، وأنها تفكر في الأشياء على أنها جزئيات (12).
|