أودن، غينسبرغ، هيوز وميروين في ترجمة لسركون بولص: «الـخيانة» الـجميلة والـحفاظُ على أَلَقِ الشعر

أودن، غينسبرغ، هيوز وميروين في ترجمة لسركون بولص: «الـخيانة» الـجميلة والـحفاظُ على أَلَقِ الشعر
        

          لطالما كانت ترجمة الشعر محلاً للريبة والتوجس من قبل الكثير من الكتّاب والمشتغلين بالثقافة ودارسي الأدب. ذلك أن الشعر بوصفه «لغة في اللغة» كما يذهب أحد النقاد، يمتلك من الخصوصية التعبيرية والإيقاعية والأسلوبية ما يجعله غير قابل للنقل من لغة إلى لغة، دون أن يفقد جانبًا غير يسير من سياقاته الأصلية وكهربائه الأولى وتكوينه الجمالي. فالشعر ليس أفكارًا لكي تسهل ترجمتها، كما هي الحال مع كتب النقد والفلسفة والاجتماع، وهو ليس مجموعة من الصور البيانية والصياغات البلاغية التي نجد دائمًا ما يعادلها في اللغات الأخرى، بل هو الانعكاس الأكثر عمقًا لروح الجماعة ووجدانها وحساسيتها الخاصة إزاء الوجود والعالم. ومن هنا نستطيع أن نفهم قول الشاعر الإنجليزي ت.س.إليوت «إنه لأسهل أن تفكر من خلال لغة أجنبية من أن تشعر من خلالها، فما من فن يتسم بالقومية اتسامًا عنيدًا أكثر من الشعر». على أن هذه المحاذير - رغم وجاهتها - لن تقف حائلاً دون ترجمة الشعر ونقله مادامت الترجمة هي الطريقة الوحيدة للتواصل بين الثقافات والممر الإجباري الذي لابد من قطعه للاطلاع على إبداعات الأمم المختلفة، خاصة أن أحدًا من الكتّاب والمبدعين لن يستطيع مهما بذل من جهد أن يلمّ بسائر اللغات الحية على الكوكب الأرضي.

  • يظهر لنا حرص «أودن» المفرط على تنكب مغامرة الحداثة من جهة، وعلى الالتزام بقضايا الإنسان وهمومه ومكابداته من جهة أخرى
  • ربما كان صوت آلن غينسبرغ هو الصوت الأكثر تعبيرًا عن الضمير الأمريكي الحقيقي الذي سبق لوالت ويتمان أن استنهضه في ديوانه الشهير «أوراق العشب».
  • النقد الأكثر قسوة لإفراغ الحلم الأمريكي من مضمونه الإنساني ولانقلاب أمريكا على مثالها الأول تمثل في الصوت الاعتراضي الصارخ في برية الفولاذ والدم، الذي انطلق من حنجرة غينسبرغ
  • سركون بولص ليس المبادر الأول إلى ترجمة كتاب تيد هيوز المتميز، بل إن آخرين قد سبقوه إلى ذلك قبل سنوات

          ثمة مَن يرى في هذا السياق أن الشعراء أنفسهم هم أفضل مَن يتصدى لهذه المهمة الشاقة ويبرع في تحقيقها، خاصة إذا كانوا على صلة وثيقة باللغة الأصلية للنص كما باللغة التي ينقلون النص إليها. ذلك أنهم أفضل مَن يدرك سر العملية الشعرية وكيميائها الداخلية المعقدة، بعيدًا عن النقل الحرفي والترجمة الجامدة والخالية من الروح. وهو أمر تؤكده شواهد كثيرة في العقود المنصرمة، كما هي حال الترجمات العديدة التي تولاها شعراء معروفون من مثل أدونيس وسعدي يوسف وميشال سليمان وكاظم جهاد، وصولاً إلى سركون بولص الذي عدّه الكثيرون أحد الرموز الأكثر تميزًا لقصيدة النثر العربية. على أن منسوب «الخيانة» في ترجمــات الشعراء هو أعلى من مثيله لدى المترجمين من غير الشعراء، ذلك أن الشاعر حين يقوم بترجمة نص شعــري لا يملك أن يكون حياديًا بالكامل، بل يحقن النص المـــتــــرجم بالكثير من نفحاته الأسلوبية والوجدانية وبقاموسه اللغوي الخاص، بحيث يصبح النص - ولو دون قصد - خليطًا هجينًا بين نصين: أحدهما بقلم المؤلف والآخر بقلم المترجم. وبالرغم من هذه الإشكالية، فإن الافتقار إلى الدقة والأمانة الموضوعية في ترجمات الشعراء، يتم التعويض عنه عبر الاحتفاظ النسبي بروح الشعر ومجاله الحيوي والرؤيوي.

          كان لابد من هذه التوطئة قبل مقاربة التجربة الناجحة التي خاضها الشاعر العراقي الراحل سركون بولص في مجال الترجمة عن الإنجليزية. فبولص الذي نظر إليه العديدون بوصفه أحد الرموز الأبرز لقصيدة النثر العربية، أفاد من إقامته الطويلة في الولايات المتحدة الأمريكية ومن تمرّسه باللغة الإنجليزية ليقدم للقارئ العربي قصائد مختارة لكل من و.هـ. أودن وآلن غينسبرغ وتيد هيوز و و.س. ميروين. وقد حرص صاحب «حامل الفوانيس في ليل الذئاب» على وضع مقدمات تعريفية مختصرة لبعض المختارات المترجمة، والصادرة عن دار الجمل، تاركًا بعضها الآخر دون تقديم، ودون أن يعرف القارئ السبب في ذلك.

رؤى متفاوتة

          يحرص سركون بولص في كتاب «و.هـ.أودن/قصائد مختارة» على تقديم الشاعر الإنجليزي الشهير عبر قصائد متعددة الأساليب ومتفاوتة الرؤى والمقاربات، بما يظهر لنا حرص «أودن» المفرط على تنكب مغامرة الحداثة من جهة، وعلى الالتزام بقضايا الإنسان وهمومه ومكابداته من جهة أخرى. وإذا كان أودن يلتقي مع بعض معاصريه في تبرّمه بالرومانسية التي أجهزت الحرب العالمية الأولى بفظاعاتها المرعبة على غنائيتها الرخوة والمتداعية، فإنه قد افترق عنهم من حيث إيمانه الصلب بقدرة الشعر على مجابهة الطغيان والجشع الرأسماليين، دون أن يغادر التزامه بمغامرة التجديد وتوسيع أفق المخيلة. ففي حين اكتفى ت.س. إليوت وعزرا باوند بالكشف عن خراب العالم القديم وانهياراته، متنصلين من الوظيفية التعبيرية للشعر بدا أودن في كتاباته أقرب إلى الأهداف العظيمة التي وضعها برتولت بريخت نصب عينيه، بالرغم مما بين الشاعرين من فروقات. وهو ما يبدو بوضوح في قصيدة الشاعر «شاهدة على قبر طاغية»، التي يقول فيها:

          الكمال، من نوع ما، كان ما يسعى إليه
          ويسهل علينا أن نفهم ما لفّقه من الأشعار
          كان خبيرًا بالسقطات البشرية كما بظاهر يده
          شديد الاهتمام بالجيوش والأساطيل
          وكان إذا ضحك، قهقه أعضاء مبجلون في مجلس الشيوخ
          ومات الأطفال في الشوارع، إذا بكى

          سيعثر قارئ أودن على صور عديدة للطاغية تذكّره إلى حد بعيد ببعض أولئك الذين خبر تسلطهم وفظاعاتهم الدموية في هذا البلد العربي أو ذاك. ولابد أن تتملكه الدهشة حين يقرأ عن الأشعار الملفقة للطاغية، والتي تذكره بأشعار بعض الحكام العرب البائدين وكتاباتهم الساذجة. وستتكرر عبر المختارات نصوص مماثلة تنتصر للمعذبين في الأرض ولجنودها المجهولين. ففي نص قصير بعنوان «شاهدة على قبر الجندي المجهول»، يقول الشاعر:

          من أجل أن تنقذوا عالمكم
          طلبتم من هذا الرجل أن يموت
          هل لهذا الرجل أن يسأل،
          لو قُدِّر له أن يسألكم الآن: لماذا؟

          ثمة قصائد من نوع آخر تنفذ إلى أعماق الأسئلة التي تؤرق الإنسان. قصائد عن وحدة الـــكائن وقـوانين الحــــياة الخفــية وعــن الزمـــن الهارب والحـــب والمفترقات الشبــيهة بالمتاهات. وقصائــد أخــرى عن شعراء وفلاسفة وعواصم وحـــروب أهلية. وأخرى عن إيكاروس الذي حلم بالطيران وحلق بأجنحة من شمع خارج مدار الأرض، قبل أن تذيب الشمس أجنحته وتودي به إلى الهلاك، حيث «سمع الحرّات صوت الارتطام بالماء والصرخة المهجورة» وحيث ركاب السفن البديعة «رأوا صبيًا يسقط من السماء». لكن القصيدة الأروع  التي كتبها أودن هي تلك المرثية المؤثرة التي خص بها أحد أصدقائه المقرّبين إثر رحيله المفاجئ. تلك القصيدة التي أبكت الملايين في بلاده باتت في نظر الكثيرين نشيدًا للموت يستحضرونه عند كل فاجعة مماثلة:

          أوقفوا جميع الساعات، واقطعوا حبل التليفون
          أخرسوا البيانو، وعلى إيقاع طبل مخنوق
          احملوا التابوت إلى الخارج
          دعوا النادبين يأتون
          دعوا الطائرات تحلق وهي تئن فوق الرؤوس
          كاتبة على السماء رسالة تقول «إنه مات»...

          لا تبتعد تجربة الشاعر الأمريكي آلن غينسبرغ كثيرًا عن تجربة أودن وبخاصة في الشق المتعلق بالاعتراض على وحشية المجتمع الرأسمالي وتهافت القيم السياسية والأخلاقية الغربية. كما أن التأثر بمناخات والت ويتمان ذات التوجه الإنساني والنبرة الاعتراضية هو أحد القواسم المشتركة بين أودن وغينسبرغ. آباء الحداثة واللافت في هذا السياق هو أن كلا من الشاعرين قد احتفى بويتمان عبر أكثر من قصيدة وإشارة وموقف، بوصفه أحد الآباء الرئيسيين للحداثة الشعرية الغربية من جهة، وبوصفه الشاعر الذي يمثل روح أمريكا الحقيقية وحلمها بالحرية والعدالة والتقدم من جهة أخرى. على أن الفارق بين الشاعرين يكمن في طبيعة التحولات التي أصابت المجتمعات الغربية نفسها، كما في الفارق الزمني بينهما، حيث بلغت تجربة أودن أوجها في ثلاثينيات القرن المنصرم وأربعينياته، بينما جاء غينسبرغ بعده بعقدين من الزمن، حيث كانت التحولات تتسارع بوتيرة عالية وبخاصة بعيد الحرب العالمية الثانية. ففي تلك الحقبة كانت أمريكا قد تخلت عن الكثير من مبادئها الإنسانية التي أطلقتها أوائل القرن لتدخل في الحقبة المكارثية المصادرة للحريات، بموازاة محاولاتها لقهر الشعوب وترويضها ومصادرة ثرواتها. وكان لدخول أمريكا في حرب فيتنام صدى بالغ الدوي داخل المجتمع الأمريكي نفسه، الذي عبّر عن اعتراضه على هذه الحروب بحركات الهيبيين والبيتلز وغيرها من حركات الاحتجاج.

          ربما كان صوت آلن غينسبرغ من هذه الناحية هو الصوت الأكثر تعبيرًا عن الضمير الأمريكي الحقيقي الذي سبق لوالت ويتمان أن استنهضه في ديوانه الشهير «أوراق العشب». وقد باتت قصيدة غينسبرغ «عواء» التي قرأها الشاعر في إحدى حانات سان فرانسيسكو أيقونة الشعر الأمريكي المعاصر، والنشيد الموحد لا للأمريكيين وحدهم، بل لجميع الرافضين للظلم وامتصاص دم الشعوب الذي رمز إليه الشاعر بمولوخ، إله المال عند العبرانيين، وصرخ في وجهه قائلاً:

          مولوخ الذي عقله آلية خالصة، مولوخ الذي دمه مالٌ
          جارٍ، مولوخ الذي أصابعه عشرة جيوش، مولوخ الذي
          صدره دينمو آكل لحوم بشرية، مولوخ الذي ناطحات
          سحابه تقف في الشوارع كيهوات بلا نهاية، مولوخ الذي
          روحه كهرباء وبنوك.. لقد كسروا ظهورهم ليرفعوا مولوخ إلى السماء،
          ليرفعوا إلى السماء المدينة التي توجد من حولنا
          وفي كل مكان هي رؤى نبوءات، معجزات،
          نشوات، سفلاً إلى النهر الأمريكي.

          ولن يبذل القارئ كبير جهد لكي يتيقن من أن هذه المدينة هي نيويورك بالذات، وبما هي رمز صارخ لحداثة الإسمنت وسطوة المال وشهوة الاستحواذ على العالم. لذلك استطاعت المدينة أن «تستفز» بشكل أو بآخر الكثير من الشعراء الذين زاروها ووقفوا ذاهلين أمام أبراجها المتقابلة، بدءًا من غارسيا لوركا في أواخر عشرينيات القرن المنصرم وحتى أدونيس في سبعينياته. على أن النقد الأكثر قسوة لإفراغ الحلم الأمريكي من مضمونه الإنساني ولانقلاب أمريكا على مثالها الأول تمثل في الصوت الاعتراضي الصارخ في برية الفولاذ والدم، الذي انطلق من حنجرة غينسبرغ، لا في قصيدة «عواء» الشهيرة وحدها، بل في غير قصيدة ومجموعة، وبخاصة في قصيدة «أمريكا»، التي يستعمل فيها الشاعر ضمير المخاطب قائلاً:

          أمريكا، متى ستصبحين ملائكية؟
          متى ستنظرين إلى نفسك من خلال القبر؟
          أمريكا، لماذا مكتباتك مليئة بالدمع؟
          أمريكا، عندما كنت صبيًا كنت شيوعيًا
          وإنني غير آسف،
          كنت أجلس في بيتي أيامًا بطولها وأحدِّق
          في الأزهار داخل الدولاب..
          أمريكا، كيف أستطيع أن أكتب نشيدًا دينيًا مقدسًا
          بمزاجك الأخرق؟

رسائل عيد الميلاد

          الكتاب الثالث الذي نقله سركون بولص إلى العربية هو «رسائل عيد الميلاد» للشاعر البريطاني تيد هيوز، الذي عدّه النقاد أحد أجمل كتب الحب وأكثرها تعبيرًا عن العلاقة العاطفية العميقة، والمدمّرة في آن واحد، التي ربطت بين هيوز وبين الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلات في خمسينيات القرن الفائت. ولعل الانتحار المأساوي للشاعرة العاشقة التي آل زواجها بهيوز إلى الإخفاق قد ترك خدوشه العميقة في روح الشاعر الزوج، بحيث بدا عمله الشعري المتميز محاولة متأخرة للتطهر من شعوره الراسخ بالذنب من جهة، ورغبة موازية لاستعادة المرأة التي فقدها عبر الكتابة، من جهة أخرى. وما اعتراف هيوز في إحدى مقالاته بأن «الشعر ليس سوى كشف عن شيء لا يريد الكاتب أن يكشف عنه في الحقيقة، لكنه في يأسه يحتاج إلى التواصل عن طريقه، كما إلى التخلص منه»، إلا تأكيد واضح على العبء الثقيل الذي حمله الشاعر على كاهله بعد الانتحار المأساوي لزوجته الشابة، والذي أراد أن يلقيه عن ظهره لكي يتمكن من مواصلة حياته. ومع أن أسلوب هيوز لم يكن بأي حال ليعتمد على الكشف الصريح والواقعية المباشرة في مختلف أعماله، لكنه حاول جاهدًا أن يوفق بين نزوعه الدائم إلى الغموض والترميز وبين رغبته في البوح وتحويل رسائله الميلادية إلى نوع من السيرة الشخصية والعاطفية، التي تعصم علاقته ببلاث من النسيان. واللافت هنا هو أن الشاعر الذي استغرق ربع قرن كاملاً في صياغة وتنقيح مجموعته تلك، ظل يحتفظ بنبرته الرثائية الموجعة التي أكسبها مرور الزمن ملمحًا جنائزيًا وشبه أسطوري:

          كانت الذئاب ترفعنا في أصواتها الطويلة
          كانت تلفُّنا وتوشجنا بنواحها من أجلك
          كنا نرقد في موتك في الثلج الذي تساقط
          بينما كان جسدي يغرق في الحكاية
          حيث تغني الذئاب في الغابة
          من أجل طفلين
          تحوّلا في نومهما إلى يتيمين
          ينامان جنب أمهما الميتة

          بدا كتاب «رسائل عيد الميلاد» كنوع من التعزيمة أو الرقية التي أراد الشاعر أن تساعده على الشفاء. ذلك أنه وهو الذي اتهم من قبل الكثيرين بتسببه - عن عمد أو غير عمد - بـانــتـــحار الـــزوجة التي عشقته حتى الثمالة، شاء للكتابة أن تلعب دور المسيح الذي ينهض لعازره الشخصي مـــن الموت. هـــكذا راح ينـــقّب عن كل تفصيل في حياتهما المشتركة، وعما خشي أن يضيع من لحظات الحب الوردية أو من لحظات ترنح الزوجة تحت مطرقة مرضها العصبي، ليكتب بالنيابة عن الاثنين معًا سيرتهما العاطفية المشتركة:

          في مكان ما داخل تلك الأرض الهامدة
          مستقبلنا يحاول أن يحدث
          أرفع عينيّ كأنما لألاقي صوتكِ
          بكل مستقبله اللجوج
          الذي انفجر مقتحمًا إياي
          ثم أعود لأنظر إلى الكتاب
          وكلماتك المطبوعة
          عشر سنوات مرت على موتك
          إنها مجرد قصة
          قصتك، قصتي

          ثمة ملاحظتان لابد من الإشارة إليهما في هذا السياق. الأولى تتعلق بكون سركون بولص ليس المبادر الأول إلى ترجمة كتاب تيد هيوز المتميز، بل إن آخرين قد سبقوه إلى ذلك قبل سنوات. إلا أن أي مقارنة بين هذه الترجمات ستنتهي في مصلحة بولص، الذي استطاع بلغته المشرقة ومعرفته الوثيقة باللغتين، المنقول عنها والمنقول إليها، أن يقدم نصًا مؤثرًا وشفافًا يضاهي النص المكتوب باللغة الأم. وثانيتهما تتعلق بتسمية تيد هيوز شاعرًا للبلاط البريطاني قبل عقدين من الزمن، دون أن يعني ذلك تنازلاً من الشاعر نحو السلطة السياسية أو تفرغه لمديحها، كما هي الحال في العالم العربي وأماكن أخرى من بلدان العالم الثالث. لا بل إن التسمية هنا ليست سوى اعتراف من الأمة، ممثلة بأرفع سلطاتها، بقيمة الشاعر المسمى وقدرته على تجسيد روحها الحقيقية وتطلعاتها إلى المستقبل. وما حدث لهيوز حدث للشاعر الأمريكي و.س.ميروين الذي تولى سركون بولص أيضًا ترجمته إلى العربية، ثم سمي شاعرًا رسميًا للولايات المتحدة بعد ثلاث سنوات على رحيل المترجم، أي في العام 2010م.

          قد يكون و.س.ميروين هو الأقل شهرة على المستوى العالمي بين الشعراء الأربعة الذين ترجم لهم سركون بولص. ولكن نظرة متفحصة إلى قصائده المترجمة تحت عنوان «قصائد مختارة» تبين بوضوح أن الشاعر الأمريكي الحائز جائزة بولتيزر عام 1971 يقف جنبًا إلى جنب مع كبار شعراء الإنجليزية الذين اتسموا بالمواءمة بين البراعة الشكلية وتوهج المعنى. صحيح أن ميروين قد تأثر في بداياته بلغة إليوت ومناخاته التعبيرية والرؤيوية، كما بالمغامرة التجريبية لشعراء الحداثة الفرنسيين وبالغنائية المشمسة للشعراء الإسبان، إلا أنه استطاع في نهاية المطاف أن يمتلك بصمته الخاصة التي تغذت من الرموز التاريخية والأساطير، بقدر ما حاولت أن تصنع من فكرة المنفى أساسًا لتطلعها نحو كتابة عابرة للحدود. ومن هنا نفهم سبب احتفائه بأوديسيوس (عوليس)، بطل الأوديسة الذي لا يكف - وفق ميروين - عن الإبحار في النقطة ذاتها، بالرغم من أن ما يقطعه يُحسب بالسنين لا بالأميال. وفي مجموعاته المختلفة مثل «الدريئة المتحركة» و«المطر في الأشجار» و«أسفار» وغيرها ستطالعنا دائمًا فكرة نزوح الأشياء وانزلاقها، كمعادل مواز لانزلاق الزمن من بين الأصابع. وهو ما تعكسه بوضوح قصيدة «المداومة» التي تتحول فيها الريح إلى رمز نموذجي لكل ما لا يثبت على شكل أو يستقر في مكان:

          ماذا يمكنك أن تفعل بهذه الريح؟
          ليس لك أن تناقشها أو تسليها أو تعيدها
          إلى الوراء.
          فارغةٌ تمامًا بلا وجه ولا قفا، وقبل أن تدري،
          غير محتاجة إلى أبواب، تخفُّ خارجةً من الأشجار،
          من الرايات ونوافذ البنايات الساقطة
          بضجة يمكنها أن تسوق لها قطاراتها
          ماذا يمكنك أن تتعلم منها
          إذا كانت تترك أحذيتها في كل الأماكن؟..

          لم يكن و.س.ميروين ليستقر في كتاباته على أسلوب نهائي أو شكل بعينه. ولعل مرد ذلك، إضافة إلى قلقه الدائم إزاء ما ينجزه، هو اشتغاله بالترجمة عن اللغات الأخرى، وبخاصة الفرنسية والإسبانية. فقد ترجم أعمالاً كثيرة لأبولينير وإيلوار وشار وميشو ونيرودا وماتشادو وغيرهم، وهو ما دفعه للإصغاء مليًا إلى أصوات الآخرين وإيقاعاتهم وحساسياتهم المختلفة. كما أنه عمل من جهة أخرى على هدم معظم الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر، مستفيدًا من لغة السرد والأمثولة والحكاية ومقاربًا النص المفتوح والبعيد عن التقطيعات الشعرية المألوفة، لكن هذه النصوص التي توحي بمألوفيتها في البداية سرعان ما تضاعف منسوب توترها سطرًا تلو سطر، إلى أن تصل ذروتها عبر ضربة الختام المفاجئة. على أننا سنعثر في شعر ميروين على شغف بالحياة قل نظيره، وعلى رغبة عارمة في التوحد مع الوجود وكائنات الطبيعة وأشيائها، بما يقارب الحلول التام والانتشاء بروح العالم:

          مرة كنت عصفورًا
          أمكنني أن أرى أين تستدير النجوم
          وباشرت رحيلي..
          عاليًا في رأس عنزة جبلية
          استطعت أن أرى عبر واد، تحت الأشجار المضيئة
          شيئًا يتحرك عميقًا في البحر الأخضر
          رأيت جانبي الماء وسبحت بينهما
          إنني أتطلع إليك في نور الصباح الأول
          لأطول ما يمكنني من الوقت.
------------------------------
* شاعر وكاتب من لبنان.

----------------------------------------

أَيُّها القَلبُ مُت فَخَيرٌ وَأَبقى
                              لَكَ مَوتٌ يَقيكَ شرَّ العِبادِ
إِن تَكُن طاهِراً فَحَسبُكَ ما لا
                              قيتَ في الكَونِ مِن عَظيمِ الفَسادِ
ما ترجّي وَقد شَعَرت بِأَنَّ ال
                              مكرَ يَثوي حَتّى بِقَلبِ سعادِ
يا فُؤادي خَيرٌ لِجِسمي حَياةٌ
                              في شَقاها تَبقى بِدونِ فُؤادِ

إلياس أبوشبكة

 

 

شوقي بزيع*   




 





 





 





 





و. هـ. أودن





تيد هيوز





آلن غينسبرغ