المحاولة الأدبية.. فن عابر للأجناس

 المحاولة الأدبية.. فن عابر للأجناس
        

          لا نعثر في الأجناس الأدبية العربية، على نوع «المحاولة»، بينما نجده رائجًا في الأجناس الأدبية باللغات الأخرى، وخاصة الفرنسية. كما أن هناك مراجع كثيرة، تعرّف «المحاولة» الأدبية، بطريقة، لا توحي بأنها المقالة أو الدراسة أو البحث، كما قد يتبادر إلى الذهن من الوهلة الأولى.

          من أنواع الجوائز الممنوحة في جائزة مديسيس الأدبية الفرنسية الشهيرة مثلًا، نعثر على جائزة للرواية، وجائزة للنقد الأدبي، وجائزة للمحاولة الأدبية. ففي السنة الفائتة، حصل كل من ماتيو ليندون على جائزة النقد، ودافيد غروسمان على جائزة الرواية، بينما حصل سيلفان تيسون على جائزة المحاولة الأدبية.

          بالذهاب إلى كتاب سيلفان تيسون، ولمقاربة هذا النوع من الكتابة، الذي لم يحصل على الاعتراف المستقلّ كنوع مختلف في الأدب العربي، بل عومل كأنه نقد مرة، أو بحث مرة أخرى، أو مقالات، فإن كتاب تيسون حامل عنوان» في غابات سيبيريا» هو عبارة عن رؤى لمنفى الكاتب، أو «أوديسته» كما استعمل بعض النقاد من اصطلاح للتعبير عن «أوديسا» سيلفان تيسون. ربما يُصنّف الكتاب في الثقافة العربية بأنه أدب رحلات، ولكن هذا أيضًا هو طمس لأدب المحاولة، أو لجنس المحاولة الأدبية، غير الرائج في الكتابة العربية، وإن وُجد، ولكن ليس تحت هذا المسمّى.

          حتى أن وصف «محاول أدبي» مُعترف به، وإذا ذهبنا إلى غوغل، وكتبنا عبارة «محاول أدبي» باللغة الفرنسية، فإننا سنحصل على نتائج، منها :

          ـ غونزالو ليزالدو: روائي، محاول، باحث مكسيكي.
          ـ ميشيل مور: روائي، محاول، ناقد أدبي.
          ـ جان ليفي: سينمائي، روائي، مترجم، محاول. 
          ـ فيليب فوريست: روائي ومحاول.
          ـ نانسي أوستن: روائية ومحاولة.

          الأمثلة كثيرة، تم إيراد بعضها هنا، للتأكيد على استقلالية هذا النوع من الكتابة، وضرورة فصله عن غيره من الأنواع الكتابية.

          بعض النماذج المعروفة في المحاولة الأدبية:

سيمون دو بوفوار: «الجنس الثاني»

          كتبت سيمون دو بوفوار الرواية والمحاولة. وتكاد تكون «المثقفون» أشهر من نار على علم، وقد تُرجمت إلى العربية، وطُبعت بأكثر من طبعة، آخرها صدرت عن دار الآداب، من ترجمة ماري طوق.

          كما كتبت الرواية، اشتهرت دو بوفوار بكتابها «الجنس الثاني»، وهو مكتوب بطريقة يصنفّها الفرنسيون بالمحاولة الأدبية.

          في موسوعة ويكيبيديا أيضًا، وفي اللغة الفرنسية، تم تعريف كتاب «الجنس الثاني» بأنه محاولة وجودية ونسوية، ظهرت سنة 1949، في عمر 41 سنة لكاتبتها، سيمون دو بوفوار.

          بينما تقول الموسوعة في قسمها العربي: الجنس الآخر هو كتاب مهم في نشأة الحركات النسوية الغربية، وقد صدر لأول مرة بالفرنسية عام 1949 على يد المفكرة والفيلسوفة الفرنسية المعروفة سيمون دو بوفوار.

          أي أن القسم العربي أسقط عن الكتاب، التعريف الفرنسي، وهي لغة الكتاب الأصلية، جملة «محاولة وجودية»، والأهم دومًا، غياب لفظة «محاولة». كما أن القسم العربي هنا، لا يتطرق لنوع الكتاب، بل يكتفي بوصفه بأنه كتاب.

نانسي أوستن: «أساتذة اليأس»

          أما نانسي أوستن، التي تكتب بالفرنسية والإنجليزية وهي كندية تعيش في فرنسا، فتكتب الرواية، والمسرح، ولها أيضا كتب في المراسلات، والمحاولة أيضًا.

          روائيًا، أصدرت أوستن، «أيلول ثلاث مرات»، «تحت الأحمر»، «افتتان» وغيرها، في المراسلات، أصدرت «رسائل باريسية» ومن المحاولة، لها: «الشمال الضائع»، «يوميات الإبداع»، «أساتذة اليأس» ، «تأملات في عين الرجل».

          في «أساتذة اليأس»، تعالج أوستن موضوع العدمية في الأدب، منذ نشأتها، وحتى الأدب المعاصر، ويحمل الكتاب الكثير من وجهات النظر الشخصية للكاتبة، حتى أنها تشكك فيما لو كانت العدمية في الأدب، موقفًا وجوديًا حقيقًيا أم افتعالاً لنجاح الرواية في الغرب. الكتاب مترجم وصادر عن مشروع «كلمة» في أبوظبي.

تزيفان تودوروف: «الأدب في خطر»

          تودورف، الكاتب البلغاري الأصل، والذي يعيش في فرنسا، وهو معروف بأنه محاول وفيلسوف ومؤرّخ. نشر الكثير من الأعمال المهمة، على سبيل الذكر «شاعرية النثر»، «فتح أمريكا: سؤال الآخر»، «الأمل والذاكرة»، «مديح الفرد»، الأدب في خطر» وهو كتاب مهم ومترجم إلى العربية، وينضوي تحت نوع «المحاولة الأدبية». وهو يتضمن تجربة الكاتب الذاتية ورحلته في عالم الأدب ووجهات نظره الشخصية حول الأدب. حيث يبدأ في مقدمة الكتاب، بالحديث عن ذكرياته المُحاطة بالكتب وعلاقته بالكتاب، بدءًا من نشأته.

ميشيل بيتور: «الرواية الجديدة»

          الروائي الفرنسي المعروف كأحد أنصار تيار الرواية الجديدة، لم يكتفِ بكتابة الرواية، بل راح ينظّر لها في كتابه المترجم إلى العربية تحت عنوان «بحوث في الرواية الجديدة».

          يعرّف بوتور موسوعيًا، بأنه: روائي، شاعر، محاول.

          صاحب روايات: «ممر ميلان»، «التغيير»، «درجات» .. ومن المحاولة: «ارتجالات حول فلوبير»، «ارتجالات حول رامبو»، «ارتجالات حول بلزاك»، «الأداة الشعرية»...

          هذه الأمثلة المكثّفة، تدلّ على اشتغال الروائيين والنقاد بجنس المحاولة الأدبية، الذي ربما يُثري كتاباتهم الأخرى، سواء الإبداعية، أو البحثية. دون أن ننسى كتاب الروائي ميلان كونديرا الشهير «فن الرواية»، الذي ينتمي إلى أدب المحاولة، ووُصف في بعض الصحف الفرنسية بأنه «فن المحاولة». وكونديرا من أهم الروائيين المعاصرين الذين يكتبون الرواية والمحاولة معًا.

          إن المحاولة إذن، ليست انتقاصًا من أهمية الكتاب، وليست كتابًا غير منجز، كما قد تثير لفظة محاولة، أو ترجمة فعل «حاول» في اللغة العربية، الذي قد لا يعني الوصول إلى الهدف. وربما من هنا تأتي أهمية هذا النوع الكتابي، بأنه شروع في فكرة، أو نظرية، أو بحث، يحتمل الكثير من الإبداع الفردي، ولا يمت بصلة كبيرة إلى المنهجية أو الأكاديمية، إذ كما يرى القارئ عبر النماذج المعروضة لأهم المحاولين في تاريخ الأدب الفرنسي، بأنهم مبدعون في أجناس أدبية أخرى، كالرواية غالبًا، أو فلاسفة مشهود لهم بابتكاراتهم وربطهم بين الفلسفة والأدب.

          قد يرى البعض أنه من عديم الأهمية طرح هذا الموضوع، والتدقيق مفصلًا بين الأجناس الأدبية، في الوقت الذي ينادي به البعض بتقويض الأجناس الأدبية، وكسر الفوارق بينها، كما حصل حين دعا إدوار الخراط إلى مصطلح الكتابة عبر النوعية، أو أيضًا ما سمّي في وقت ما، بالنص المفتوح، حيث دمج الأجناس الأدبية في كتابة واحدة، أو نص واحد. وهذه الآراء جميعها منطقية ومقبولة، ولكن من جهة أخرى، يمكن التعامل مع «المحاولة» باعتبارها نصًا مفتوحًا أيضًا، إضافة إلى أن التعرّف عليها قد يثري النص المفتوح المقترح عبر إدخال هذه التقنية في الكتابة الجديدة المرغوب بها، فضلاً عن أن الاطلاع على تجارب الغير، عبر «المحاولة»، يُثري مخيلة الكاتب، الروائي أو الباحث المتحرر من المنهجية، والشغوف إلى كشف بعض من فرديته ومزاجه الإبداعي في الكتابة، ويقدّم احتمالات كتابة جديدة .

          إن العودة إلى هذا الجنس الأدبي، وإعادة الاعتبار له في الكتابة العربية، تفتح آفاقًا مهمة أمام الكتّاب العرب، الباحثين عن التحرر من أنواع ثابتة، قد لا يجدون أنفسهم، إبداعيًا، ينضوون تحت تقسيماتها.

          ينبغي في ختام هذه المادة، التأكيد على عدم وجود أية علاقة بين «المحاولة» كنوع أدبي، وبين التجريب أو التجريبية، كتفكير أو مدرسة فلسفية، وإن بدا أن هناك تقاربًا في المعنى اللغوي للفظتي محاولة وتجريب. المحاولة إبداع مختلف، ربما نقترب منه لاحقًا، عبر البحث في نماذجه في الأدب العربي.
--------------------------------
* كاتبة روائية سورية مقيمة في باريس.

 

 

 

مها حسن*