قصص على الهواء

 قصص على الهواء
        

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
-------------------------------------------

  • القصة الفائزة بالمركز الأول هي «حرية» لـ خالد عاشور - مصر:

          هذه قصة موثرة تنتمي لأدب ما بعد الثورة، فالشعب الذي أسقط الدكتاتورية، وحرر معتقلي الرأي، وحلم بأن يمارس حقه في المطالبة بالحرية والعدالة والعيش الكريم، يفاجأ بوجود تلك الدكتاتورية حتى في الأنظمة المختلفة. تخبرنا قصة حرية، بأن لا شيء قد تغير، سوى سقوط مزيد من الضحايا.

  • قصة «يا خديجة ها أنا» لـ تغريد شاهين - سورية:

          القصة ممتازة، فالراوية التي تمر بضغوط كثيرة، منها الفقر والانتظار، وتعيش في حلم بسيط أن تحصل على أجرة السفر إلى بلدتها، تصل إلى حالة أن تختفي عن أنظار الناس الذين لا تتوقع أن يعاونها أحد منهم، تمر بذكرياتها ولا تجد نفسها، لكنها حين تعانق براءة الطفولة ممثلة في الطفلة خديجة، تعود إلى الظهور. كأنها أرادت أن تضعنا أمام القسوة واللين. شيء يسحقها، وشيء يمنحها الأمل.

  • قصة «البيه.. وسباطات البلح» لـ سيد خليل المراغي - مصر:

          هذه القصة تبدو كومضة حلم. العربي الحالم باختراقه للسلطة، وسرقة ممتلكاتها لتوزيعها على الآخرين، وفي الوقت نفسه يحلم بالمرأة التي تخيلها محركة لغرائزه، هو في النهاية مجرد حالم ليس إلا، كان كل ما تخيله بلا وجود، النخلة سرقت منذ زمن بعيد، والمرأة - الخصوبة بلا وجود.

  • قصة «الوقت بدل الضائع» لـ عبدالرحمن مسحت - المغرب:

          هذه قصة كلاسيكية عن معاناة الشباب في العثور على عمل، ومعاناة المبدعين الشباب في الحصول على من يسمعهم ويقدمهم للأضواء. الراوي المتعلم والشاعر والروائي، موصدة كل الأبواب في وجهه، محاط بالوعود ولا وعدًا ينجز، ما يؤدي به للانتحار. ميزتها أنها كتبت بلغة جميلة شفافة، وباقتصاد لغوي كثيف.

  • قصة «أحلام حب قرب برج الحمام» لـ جمال الحنصالي - المغرب:

          هي قصة عن سقوط الفتيات في أحلام وردية تنشأ عبر شبكات الاتصال مثل الموبايل والإنترنت، وأيضا تخصص بعض الرجال في صناعة مثل تلك الفخاخ لتسقط فيها الغريرات. الفكرة ليست جديدة، والنهاية غير مقنعة، بأن ينصرف الرجل في هدوء من دون أن يوضح مبرراته، وأيضا مسألة الأم، التي ذكر أنها عنيدة، لم يوضح لنا القاص إن كان الرجل قد حاول إغواء أمها من قبل.

----------------------------
حرية
خالد عاشور - مصر

          أحضروه قرب الفجر، وكنا نغط في نوم عميق.

          الضوء الخافت الذي تسرب من فتحة الباب مع الصوت الذي صدر عنه حين دفعه العسكري داخل الزنزانة جعلنا نستيقظ، تكوم على الأرض أمامنا ينزف من فمه وفتحتي أنفه، نظرنا إليه من دون أن نتكلم، خشينا أن ينالنا عقاب، سبه العسكري بأمه وأغلق الباب بترباس حديدي كبير واضعًا عليه قفلاً ضخمًا أصدرت «تكَّته» وهو يغلقه صوتًا مدويًا، انزوى هو في ركن بالزنزانة مقوسًا جسده الهزيل متكورًا على نفسه في وضع جنيني، لم يصدر عنه صوت، وخشينا أن يكون قد أصابه ضرر، ذهب بعضنا يستكشفه، حين لمسه أحدهم قام فزعًا في هياج يصرخ:

          - لا.. لا.. كفاية ضرب.

          سحبوا أنفسهم متراجعين وقد عاد كل إلى مكانه.

          في الصباح أيقظونا للتمشية، خرجنا جميعًا إلا هو، رفضوا خروجه، سحبه مجندان من تحت إبطيه من دون أن يقاوم، رأيناهما يجرانه في طرقة المعتقل، قدماه عاريتان وجسده النحيل مستسلم للشد، اختفيا به مع انحناءة الطرقة.

          في المساء أحضره مجندان آخران، كانا يسحبانه من تحت إبطيه أيضًا، رائحة الدم أزكمت أنوفنا وقد امتلأت بها ملابسه الممزقة من أثر الضرب. دفعوا به إلى الزنزانة في عنف، فتكوم على وجهه مرتطمًا بأرض الزنزانة فاقدا للوعي، قال أحدهما في نبرة سخرية:

          - «كل يوم من ده. عامل فيها جدع. استحمل لو تقدر. قولتوا تغيير. آدي التغيير يا روح أمك».

          أحسسنا به ينتفض. اقتربنا منه. اهتز جسده في عنف، بعدها أفرغ ما في معدته وتكوم لاهثًا. كنت الأقرب إليه، تحسسته في حذر، كانت أنفاسه قد هدأت واسترخى جسده النحيل، خفت أن يكون قد مات. وضعت يدي على صدره، كان يلتقط أنفاسه في صعوبة، ملت عليه وسألته:

          - جاي في إيه؟

          لم يرد، نظرت إلى من معي وكانوا في أماكنهم يخشون الاقتراب منه. يده كانت بجيبه لا يخرجها. قلت أرى ما بها، أخرجتها وحاولت أن أفك قبضته المضمومة بعنف، كان بها خاتم فضي تحسسته في هدوء حين أخرجته من جيبه، انتبه لي فقام فزعًا ينتفض:

          - لا.. إلا هي.. إلا هي.

          عدت إلى مكاني وراقبته وهو يعيد يده إلى جيبه وهو لايزال قابضًا عليه.

          في الصباح تكرر المشهد. هذه المرة سحبه أربعة جنود. رفعوه كالميت من أطرافه، واختفوا به في نهاية الطرقة.

          سمعنا من أحد المعتقلين الذين أتوا معه في ساحة المعتقل أنه قبض عليه في المظاهرات الأخيرة ضد النظام، قال إنه كان مسئولًا عن الهتافات. ضحك وهو يخبرنا أنه شاعر يجيد كتابة الهتافات. هذه كل تهمته، وحين سألناه عن سبب مجيئه هو الآخر، قال في ضيق:

          - «كنت فايت جنب المظاهرات. قلت أقف أشوف، محسوبكم بيحب الفرجة، قبضوا عليّ وجابوني معاهم. مراتي حامل في أيامها الأخيرة، وأحلف لهم إن ماليش في السياسة، أبدًا ميصدقوش».

          - طيب وصاحبك؟

          - «ولا أعرفه. أنا شوفته بيهتف بسقوط النظام. كان بيردد (عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية)، عجبني الكلام. وقفت اتفرج، ركبونا كلنا في عربية واحدة. قال لي إنه دكتور في كلية فنون جميلة. حكى لي في السكة عن الفساد والبلد اللي بتنهار. مفهمتش حاجة. ولما جينا هنا مشوفتوش تاني».

          بالليل أحضروه، هذه المرة كان فاقدًا للوعي. يده مازالت بجيبه وقبضته ممسكة على شيء لا تتركه رغم ما به، اقتربنا منه، كان الدم غزيرًا يتدفق من فمه، انتفض للحظة وسكن جسده نهائيًا، صرخ أحدنا في هلع:

          - مات.. مات.

          قمنا جميعًا من أماكننا، رحنا نضرب على الباب الحديدي للزنزانة مصدرين صوتًا عاليًا كسر سكون المعتقل، دقائق وجاء المأمور برفقة عدد من العساكر، أمر الحارس أن يفتح الباب، وقال في هدوء:

          - «إيه..؟ فيه إيه»..؟

          قلت وأنا أرتجف:

          - الراجل مات.. مات يا بيه.

          نظر نحوي في سخرية وقال مخاطبًا مرافقيه:

          - «ابعتوا إشارة للمستشفى تيجي تاخده. وخليهم يظبطوا تقرير الوفاة، مش ناقص قرف».

          أغلقوا الزنزانة ومضى المأمور يتبعه العسكر.

          عدت إليه، سحبت يده من جيبه وفككت قبضته، وقع الخاتم الفضي منها، نظرت إليه في الضوء الخافت وكان محفورًا عليه اسم «حرية»، ربما كان اسما لزوجته أو خطيبته أو محبوبته، أخفيته في جيبي حين سمعت أقدام الحرس تقترب، فتحوا الباب ورفعوه، قال أحدهم قبل أن يغلقه:

          - «أي كلب هايفتح بقه هايحصله».

          سكتنا جميعًا. سحبوا الجثة ومضوا في هدوء، نظرت من كوة الزنزانة ورأيتهم يسيرون عبر الطرقة حتى اختفوا في نهايتها. عدت إلى مكاني وتمددت، أمسكت الخاتم في يدي وظللت أتحسسه شاردًا حتى الصباح.

----------------------------
يا خديجة ها أنا
تغريد شاهين - سورية

          على حلم رنين الهاتف الذي لم يكن موجوداً أصلاً, استيقظت.

          حلمت أن اتصالاً جاءني من شركة الحوالات ليخبرني بأن الحوالة التي أنتظرها وصلت, هذا يعني أنني استطيع أخيراً مغادرة العاصمة حيث علقت، بعد أن فشلت آخر محاولاتي لإيجاد عمل لائق فيها، فلم يكن ما يمنعني من المغادرة سوى عدم توفر ثمن تذكرة الحافلة التي ستقلني إلى محافظتي، ولو قلت ذلك لأيٍ أحد لما كان سيصدقني بعد أن انتشرت ظاهرة المتسولين المتذرعين بذات السبب في أرجاء العاصمة، فكلما مررت بأحد هؤلاء المتسولين خطر لي أن أقول له "الحال من بعضه" لكني كنت أكتم دمعةً وبسمة وأصمت.

          ليس هناك طريقة لأعرف إن كانت الحوالة قد وصلت فعلاً أم لا، سوى الذهاب إلى الشركة، لذا غادرت غرفتي فور استيقاظي، وقبل أن تبدأ نوبة الزحام.

          في الطريق إلى الحافلة، كنت كئيبةً جداً وقد علا جو الحزن وغيم وأمطر في قلبي. تمنيت أن أختفي أو اختفيت بالفعل، لم أعد أذكر، لكن الناس كانوا يمرون بجانبي ولا يلقون علي السلام والمرايا التي كنت أمر أمامها، لم تكن تلتقط صوري.

          وصلت إلى الحافلة(السرفيس)، ولاحظت أنها توقفت عند المنتظِر الذي يسبقني بعدة خطوات، أسرعت قليلاً لألحق بها، وتنبهت إلى أنني بدأت أتصرف فعلاً ك"مختفية"، فأنا أعرف أن السائق أحرص من الراكب على صعوده في هذا الوقت من النهار, لكني ما وثقت برؤيته لي لذا أسرعت، جلست على أحد المقاعد، و حاولت دفع الأجرة، لم يلتفت أحد إلي حتى أنني اضطررت أن أضعها بجانب الشاب في المقعد الأمامي، ليأخذها بدوره ويعطيها للسائق بشكل آلي وروتيني.

          وصلت إلى الشركة أخيرا. كان المكان مزدحماً جداً، لا شيء أكثر من الازدحام يشعرني بالوحدة، كلما رأيت كما من البشر أسأل : أكل هؤلاء يا رب وأنا وحدي؟، أكل هؤلاء ولا عين رأتني, ولا قلب نبض لي؟

          اقتربت من الكوة لأسأل الموظف الذي بدأ نوبة صراخ مفاجئة وقال: "لا أريد لأحد أن يسألني شيئاً. سأضع كل المعلومات على ورقة" استغربت تصرفه، وشعرت بأنه تصرف جريء بالنسبة لموظف قطاع خاص، دقائق وفعلاً علق قائمة بأسماء من وصلهم شيء ما كالحوالات أو الطرود. اقتربتُ. نظرت، اسمي ليس بين الأسماء, جررت خيبتي، ألقيت نظرة على الليرات المتبقية عندي، كانت تكفي لتوصلني إلى غرفتي، ولأعاود قدومي إلى الشركة غداً, الحمد لله "... وغادرت.

          ركبت أول حافلة رأيتها، تكرر مشهد القدوم ولم أكن بين الممثلين كما توضح الصورة.

          قبل نزولي كنت قد بدأت أختنق من فكرة عدم مرئيتي.. تحرشت بالعجوز التي بقربي لكنها لم تستجب، حللت شعري المعقود، حركته بيدي وابتسمت للشاب الجالس قبالتي, لكن الشاب لم يحرك ساكناً.. نزلت بسرعة عند الموقف القريب من البيت، ركضت إلى مرآة الحافلة لأحركها و أرى صورتي لكن الحافلة غادرت مسرعةً قبل أن أحقق ذلك كما أنها كادت أن تدهسني، سألت نفسي وقتها: لو أنها دهستني هل كنت سأموت أم أني سأمر من خلالها كالأشباح؟، ولو مت هل سيراني أحد بعد أن أصير جثة؟

          تخيلت نفسي ملقاةً على الأرض والدماء في كل مكان والمارة يمرون، وفقط.

          دخلت في الطريق الطويل الذي يوصل للبيت، طريق متعرج فيه جسر فوق فرع من أفرع نهر بردى, في الشتاء تكون مياهه غزيرة جداً، وصوت النهر مع عرائش العنب حولك تعطيك شعوراً لا ينسى، تجمعني بهذا الطريق ذكرياتٌ كثيرة، فهل يعرفني؟ أم أنه هو أيضاً لا يراني؟

          من بداية الطريق نرى نهايته، وهي نهاية الدرج هناك، هي نهايةٌ أعلى بشكل واضح، حيث يبدأ طريق آخر يقطعه بشكل عرضي، يطل على النهر ويحده سورٌ قليل الارتفاع, هناك وبتلك النقطة بالذات رأيتها.

          فيما مضى كنت أمر صباحاً بها وأنا ذاهبة لجامعتي، صغيرةٌ شقراء بعينين واسعتين وشعرٍ غير مرتب، تبدو في الخامسة من العمر، كعادتي كلما مررت بصغير ما، كنت ألقي عليها السلام وابتسامة.

          لم تكن تبدي ردة فعل سوى أنها تخفض رأسها وتسترق النظر إلي، وقد تلمس (البسطة) التي أمامها والتي كانت تبيع عليها بعض الأشياء الصغيرة.

          كلما مررت بها،أقول لها مرحبا وأبتسم، لكنها لم تجب يوما إلا أنها كانت تحملق بصديقاتي اللائي يمررن بجانبها عندما لا أكون معهن، وقد قالت لي إحداهنّ: " إنها تعطي إشارات بعينيها كأنها تسأل عنك..".

          أخبرتني ذات مرة الصديقة التي ولدتْ وتربتْ في تلك المنطقة، إن الفتاة اسمها (خديجة) وإنها كردية، لم تدخل المدرسة ولم تتعلم العربية بعد، لذلك على الأغلب لم تفهم سلاماتي ولا توددي ولذلك أيضاً هي غير قادرة على الرد، أخبرت الصديقة: "بقي الابتسامة, فهي لغة عالمية ...."

          فكرت بكل ذلك وأنا أراها من بعيد تبدو أكبر سناً، وأكثر انطلاقاً وهي تلعب مع أولاد آخرين. ها هي, كأنها تقترب من السور والدرج، عدة درجات فقط تفصلني عنها، أجر حزني وجسداً ثقيلاً غير مرئي وأحملق فيها. هذه الصغيرة كبرت كثيراً.

          كلما صعدت خطوة, بانت ملامحها الجميلة أكثر، عيناي التائهتان كانتا تجاهدان لكي تلتقطان صورتها، كم أثقلني الحزن يا صغيرتي. وصلتُ، خطوتْ خطوتين...ثلاثاً.. اقتربتْ، إنها تنظر إلي مباشرةً، شفتاها تحركتا بابتسامةٍ وكلام : "أين أنتِ, أنا اشتقتُ لك"

          صوتها..آهٍ من صوتها, واثقٌ من حبه ونقائه..

          عيناها كانتا تشعان، أُحطتُ فجأةً بغمامةً من دفءٍ ونور, شعرت بشيء غريب، كأنه التحول من "لست هنا" إلى "ها أنا"، شيءٌ يشبه الولادة، كأنك تشهد إعادة خلقك وأنت بكامل الوعي.

          كانت عيناها أمامي، تنظران إلي بعمق, أخيراً ولأول مرة، نطقت, وبعربية سليمة وبمنتهى الحميمية: "أين أنت، أنا اشتقت لك. " قالت ذلك... نعم فعلت.

          اقتربت منها.. وجدتني في عينيها.

          على واجهة المحل الذي نقف أنا وهي قبالته، الواجهة المرآة، إحدى المرايا التي لم تكن تلتقط صورتي صباحاً، ارتسمت هي, وأنا أيضاً كنت هناك في الصورة.

          "ها أنا" ابتسمت لنفسي قبل أن أبتسم لها، ابتسمت لنفسي في عينيها ولسرب عصافيرٍ طار منهما فرحاً، أخذتها بين يدي.

          "يا خديجةُ ..ها أنا".

----------------------------
البيه.. وسباطات البلح
سيد خليل المراغي - مصر

          لم يكن يشغله شيء .. قدر رؤيته للبيه صاحب النخيل وهو قادم من أي اتجاه. كان فوق سطح البيت في موقع يمكنه من رؤية كافة المداخل، الأولاد تحت البيت وجوههم مرفوعة نحوه ينادونه:

          ـ ارمي يا عربي .. ارمي يا عربي.

          من أعلى البيت، وفي مستوى قمة النخلة، كان يضرب سباطات البلح بقطع الدبش التي جاء بها من تحت في حجر الجلباب، فتسقط الثمار علي الأرض، وينكفئ الأولاد، ينهمكون في جمعها بنشاط بينما عيونهم لا تغيب عن مدخل الطريق، خشية أن يفاجئهم البيه. يتأملهم عربي من أعلى، يبدون كدمي صغيرة الحجم تتحرك تحت النخلة، يضحك، يطوف بعينيه حول المداخل، التي يأتي البيه من أحدها، قد يأتي في أي لحظة متلصصا، يحاول قدر ما يستطيع التخفي بجوار الجدران، إنه البيه صاحب أشجار النخيل التي بلا صاحب. في أنحاء البلدة، يقال إن صاحب سلطان منحها له هبة، ومعها رتبة البكوية ، وإن كانت هيئته عموما لا توحي بشيء من ذلك.

          صوت الأولاد يعلو:

          ـ ارمي يا عربي.

          يتطلع يمينا، ويسارا حتى يطمئن إلي أن البيه لا وجود له، ثم يرمي قطعة الدبش علي سباطة، تصيبها .. تهتز .. تتساقط الثمار. كانت تأتيه أصوات النسوة، في مؤخرة سطح البيت، وهن يتحدثن ويتضاحكن بصوت مرتفع يرهف السمع، ويميل بأذنه نحوهن منصتا. كان في حديثهن سحر وإثارة، كفيلة بأن تدغدغ أحاسيسه ومشاعره الصغيرة، خاصة عندما يخضن في الحديث عما يدور بينهن وبين أزواجهن، إنهن يتحدثن بوضوح، وبشكل فاضح أيضا، وكثيرا ما تمتد أيدي بعضهن إلي الأخريات علي سبيل المداعبة والمزاح، وتنطلق واحدة خلف أخرى فوق السطوح الفسيحة في الشمس الساطعة، وكانت أكثرهن إثارة، تلك المرأة القناوية ـ زوجة العسكري ـ السمراء الجميلة بعينيها الواسعتين، وجسدها البض، والتي لا تتورع عن كشف جسدها أمام النسوة، للتباهي بروعته، وملامحه المتناسقة خاصة نهديها النافرين في تحفز. كانت ما تزال عروسا، لم تنجب بعد. يسرح العربي قليلا مع حديث النسوة، وينسى برهة سباطات البلح، وأكوام الدبش فوق السور، والأولاد الذين ينتظرون تحت النخلة، كانت غنجات زوجة العسكري وضحكاتها المثيرة، تحمله فوق سحب الحلم الجميل، كانت النسوة تعرفن أنه هناك، لكنهن لا يعرنه اهتماما، هو ليس أكثر من صبي صغير. يفيق أخيرا علي صوت الأولاد: يا عربي . يتطلع بلهفة من فوق سور السطح إلي الأولاد، يلمح فلولهم وهم يفرون هاربين إلي الدروب الضيقة حول البيت، ويلمح طيف " البيه " قادما نحوه من ناحية الشرق وهو يتطلع إليه من أسفل، فيصيبه الهلع، وينطلق مبتعدا عن السور وقطع الدبش في اتجاه مجلس النسوة في مؤخرة السطح، ليختبئ بينهن لكنه لا يجد واحدة منهن، يعود مسرعا إلي درابزين سلم البيت الخشب، بحثا عن البيه القادم فلا يجده، مرة أخرى يعود إلي سور السطح، فلا يجد الدبش ويلقي نظرة أخيرة إلي الطريق، فلا يجد النخلة في مكانها .. يتذكر أنها قد اجتثت من جذورها منذ زمن بعيد.

----------------------------
الوقت بدل الضائع
عبدالرحمن مسحت - المغرب

1 - الشوط الأول

          للمرة الألف على ما أعتقد تدحرجت كالكرة ناحية الشركة، رأسي من تحت، و قدماي في السماء، هكذا حاولت أخيرا أن أتعلم المشي. في بعض الأحيان عندما أتمرد على أفكاري و أمشي عاديا كبقية البشر، أشعر كما لو أن العالم يسخر مني، يخرج لسانه في حركة بهلوانية و يشمت بي. وتبدو لي الصور ضبابية غير واضحة المعالم كخريطة كرتونية تبللت في يوم ممطر.

          تدحرجت ذلك الصباح الندى، و كانت المدينة ما تزال نائمة- وباردة أيضا كجليد- بدت لي الشركة على مقربة مني بلا معالم، كل ما فيها أبواب موصدة و نوافذ حديدية تآكلت بفعل الصدأ. نظرت إلى رأسي فرأيته يتأرجح يمنة و يسرة، يأبى أن ينطلق إلى الداخل. ترددت كثيرا قبل أن أقرع بقدمي الباب. فتح لي صالح "شاوش" بابتسامة عريضة عفوية و حياني بحرارة.. أول ما تنظر إليه تحس بالطمأنينة..هذا الرجل الصبيح الطيب، لا بد أن أحد أولاده في مثل سني؟، لذلك كنت كلما جئت إلى الشركة يسرع في استقبالي بحفاوة بالغة ويدعو لي بالتوفيق، و يحذرني في نفس الوقت، من شر المدير و الكلاب المحيطة به.

2 - الشوط الثاني

          قطعت الممر الضيق المفضي إلى مكتب السكرتيرة الخاصة للسيد المدير المحترم. قرعت الباب و انتظرت و قتا طويلا حتى خلتها نسيت و جدودي. و أخيرا أذنت لي بالدخول. نظرت إلى و "مصمصت" شفتيها استخفافا و استمرت تمضغ العلكة. حاولت أن أكون معها مؤدبا، حييتها و ابتسمت. لم تكلف نفسها عناء الرد على تحيتي. تأملتها عميقا فبدت لي كما لو أنها تمضغ العلكة بمؤخرتها.. فكرت في أكتر من طريقة لسحقها، و تخيلت نفسي أصرخ في وجهها:" أنا إنسان مثقف.. حاصل على الإجازة في الأدب العربي و دبلوم في الإعلاميات.. أنا شاعر نشرت عدة قصائد في جل الصحف الوطنية، و في سنة ... 19، لا اذكر السنة بضبط، كتبت رواية من الحجم المتوسط وطفت بها أعرضها على المطابع ودور النشر، بعد جولات عديدة تأكد لي أنني أتواجد بسوق الجزارين. وخلال بعض التظاهرات الثقافية بالمدينة، التقيت ببعض الكتاب والنقاد- تضحكني كلمة النقاد حقا- قدمت لهم ملفا صحفيا شاملا عن أعمالي المتواضعة، وأعطيتهم عنواني ورقم هاتف صديقي. قلت لهم إنني أنتظر ملاحظاتهم وتوجيهاتهم، وخيبوا ظني، لم يتصل بي أي أحد منهم وأصبحت في خبر كان. نسيتهم تماما وكنت كلما قرأت اسما من أسمائهم، ألعنه في نفسي وأبصق عليه في خيالي، وفي أحسن الأحوال أمسح بالقصاصة فضلاتي، أذكر أنني رأيت أحدهم على الشاشة الصغيرة في أحد الأيام، كان يبتسم للكاميرا ويوزع الوعود مجانا على الشباب، ويعدهم بمستقبل أدبي مشرق، مر وقت طويل من دون أن تحين هذه الفرصة العجيبة؟

          أعادتني الفاتنة الغبية من هذياني وهي تصرخ في وجهي: طلبك مرفوض. الشركة عندها فائض من الموظفين. ومدت لي الطلب. قلت مستدركا:" لكن السيد المدير وعدني..."، ولكنها قاطعتني وصرخت على الكلاب ليخرجوني من المكتب. وأنا أعلو وأهبط فوق أكتافهم العريضة الصلبة، رأيتها تمضغ العلكة بعصبية وكأنها تمضغ وجودي وتقذف به وسط الأوحال والقاذورات.

          رفضتني الشركة لآخر مرة، ووجدت نفسي أتدحرج في اتجاه شركات وإدارات ومقاهي وحانات وشوارع... بدا لي العالم كله يمضغ العلك بمؤخرته.. ويصرخ في وجهي: من أنت؟"

3 - الوقت بدل الضائع

          تدحرجت نحو نقطة معلومة، صرت بلا حجم: لا ذوق لي ولا طعم ولا رائحة..صرت ظلي ولا ظل لي. تقلص شكلي كقزم هرم.. وتدحرجت عابرا البر الأرضي في اتجاه البحر المائي. هذه المرة وصلت مربع العمليات وبدت لي الشركة على مقربة مني . بدت أقرب مما كنت أتصور، وتدحرجت بشكل غريب: بق..بق..بق..باق ..باق..باق....

4 - نشرة الظهيرة:

          في الحوادث: لفظ البحر شابا مجهول الهوية. التحقيق مستمر لمعرفة ملابسات الحادث . أطفأ المدير التلفاز ونهض لتناول وجبة الغذاء.

5 - نشرة المساء:

          في الحوادث: عثر رجال الإنقاذ على رزمة من الأوراق في جيب الغريق: طلب وظيفة..قصائد شعرية، صورة شيخ في عقده السابع...

----------------------------
أحلام حب قرب برج الحمام
جمال الحنصالي - المغرب

          طَجنت "فريدة" بيضتين كانتا حبيستين في الثلاجة منذ الأسبوع الماضي، بعد أن رمت بكُرّاس الفيزياء والكيمياء ذي الغلاف الوردي الذي تتوسطه صورة "ديكابرينو" قرب "المكورووند" العاطل. أمسكت بكأس الشاي البارد وشربته دفعة واحدة، علّه يطفئ هجير عطشها الوجداني والبيولوجي. فتشت عن الخبز، فلم تجدْ إلا بعض الكسرات وقد علق بها مرق لحم الرأس. عافته وتركته ملفوفا في قطعة قماش يحوم حوله جيش من الذباب. شمرت على ذراعيها الضئيلتين وأنشأت تمزق البيض بسبابتها ووسطاها وإبهامها وإلى الفم مباشرة. كانت المراهقة الصغيرة جائعة؛ فرحلة غذائها اليومية تبدأ بوجبة الفطور الكلاسيكية التي كان بطلاها الخبز والزيت ثم قطعة شوكلاتة في استراحة الساعة العاشرة إلا ربع، غالبا ما تكون هدية من إحدى التلميذات الغنيات، مرورا بحبات زريعة مملحة عند مولاي علي بقال الحي المجاور للثانوية.

          أنهت "فريدة" اللمجة في لمح البصر ثم مسحت نظارتها بورقة "كلينكس" كانت مختبئة في جيب سروالها من نوع "الجينز" الذي تركته إحدى الجارات منشورا على حبل الغسيل قبل أن تهاجر، ثم نظرت إلى الساعة الحائطية، برقت عيناها الذابلتان المتعبتان وفجأة وضعت يدها المتسخة على صدرها وقالت:

          _ سألاقيه عند غيبغياب الشمس ،علي أن أسرع قبل أن تعود ماما من العمل في شركة الموبايلات.

          حَرْجَلتْ البنت كغزالة انفلتت من قبضة ضرغام شرس وتسلقت حائطا صغيرا تطلّ من خلاله على العمارة المعلقة بين السماء والأرض، تتوق إلى لقاء مصيري بينها وبينه.

          تفحصت المكان وهي تلوك علكة بنكهة النعناع ألصقتها البارحة بدرج مكتبها الصغير. قامت ب "زوووم" دقيق على برج الحمام، كانت تستنظره والخوف أنشأ يدبّ في جوف فؤادها المسكين الذي استسلم لحبال الفرح والاضطراب التي تخنق نبضه المنتظم، اعتلتها حُمْرة خجل مستبدّة أعطت أوامرها لجيوشها كي تمتد على أراضي جسدها النحيف.

          انسحق قلب المراهقة لما أقبل الرجل أخيرا، وقد دهس للتو سيجارة من النوع الرفيع، ومسح حذاءه الأسود من غبار السلالم المهترئة، ثم بلّل يده بقليل من الماء المتبقي في أصيص الجيران، ومررها على شعره الأبيض حتى أرغم بعض الشعيرات المتعجرفة على الانحناء.

          تقدّم بخطىً وئيدة، تشجع ثم تأمل "فريدة"، طوى المسافة الفاصلة بينهما في الواقع بعد أن كانت تحكمها موجات اللاسلكي، مدّ يده المبللة، مصافحا إياها، قال كلاما بعينيه أحلى من كلام الأحرف الأبجدية الأجنبية التي يرسلها في منتصف الليل عبر "الموبايل"، كانت تلتحم فتصنع موسيقى رنانة تسحر الفتاة الجميلة.

          ما أن التحمت يد الرجل الأنيق بيد "فريدة" حتى داهمها مغص، هزّ أبراج أحاسيسها الفتية، وتقلب وجهها وهمهت سائلة إياه:

          - ما هذا الخط الأبيض التي على خنصر يدك اليسرى؟

          دسّ الرجل ذو الأربعين عاما وما ينيف يده في جيب سرواله والعرق ينز من جبينه العريض.

          كانت الرسالة واضحة.

          - عنيدة كأمك

          انصرفت وانصرف، واضعا نقطة النهاية لحلم جميل مات قرب برج الحمام.
----------------------------
* كاتب وأديب من السودان.

 

أمير تاج السر*