«تانيا» (قصة مترجمة)

 «تانيا» (قصة مترجمة)
        

ترجمة: د. هشام محمد محمود**

          قبل الحرب كنت أسكن مع والدي في حوش كبير بموسكو تحيط به من جميع الجهات بيوت حجرية مرتفعة. كنا اثني عشر صبيًا في عمر واحد، نسكن في الحوش نفسه ونلعب لعبة «الحرب الأهلية» مع صبيان الحوش المجاور. كنت أنا قائد الفصيل وكانت معنا فتاة تدعى «تانيا». كانت «تانيا» هذه شجاعة للغاية، بحيث كان من الصبيان مَن يكن لها مشاعر الهيبة، في حين كان بعضهم يخاف منها.

          عندما انتقلنا للصف السابع بالمدرسة كانت «الحرب الأهلية» بيننا وبين الحوش المجاور قد وضعت أوزارها، ولاحظنا أن «توليا شيرباكوف» ارتبط بعلاقة صداقة مع إحدى فتيات الحوش المجاور، وأصبح يتردد بكثرة على هذا الحوش حيث يسكن أعداؤنا، حتى جاء في إحدى المرات، وقال إنه لن يشارك في «الحرب» بعد اليوم.

          كنا قبل ذلك قد بدأنا نلحظ أن «تانيا» فتاة ذات جمال وأنها تشبه إحدى فنانات السينما. كان أول من لاحظ ذلك «فالكا أرخيبوف» ووقع في غرامها. أما «تانيا» فأخذت من ناحيتها تنظر لـ «فالكا» نظرات غير عادية، وأصبح كل منهما يستحي من الآخر، وبدآ يتواعدان ويتحدثان عن أمور سرية خاصة بهما. بعد ذلك قال «فالكا» إن أموره في المدرسة ليست على ما يرام وخرج من الفصيل، وسرعان ما لحقت به «تانيا» وانتهت «الحرب الأهلية» بشارعنا.

          أصبح لدي الكثير من وقت الفراغ، وربما لهذا السبب وقعت أنا الآخر في حب تانيا. بدأت تتأجج بداخلي مشاعر الكراهية تجاه «فالكا أرخيبوف»، لم أكن أدرك وقتها أن هذه هي الغيرة، لكنني كنت أدرك تمامًا أن «فالكا» يقف عثرة في طريق سعادتي. وللحق كان فالكا شابا جيدًا وأهم ما فيه أنه كان كثير القراءة، أشياء كثيرة كنا نعرفها لأول مرة منه، وكان شجاعًا أيضًا فأعداؤنا من الحوش المجاور لم يكن خوفهم منه بأقل من خوفهم مني أنا شخصيًا.

          عزمتُ على أن أتحدث مع تانيا في الأمر. كان الوقت مساء ربيعيًا هادئًا، وكان فالكا قد أصابته وعكة صحية أقعدته عن الذهاب إلى المدرسة. وقفت أنا وتانيا على ناصية الشاعر نراقب الطيور التي تحلِّق في السماء الربيعية. رفعت تانيا وجهها ناحية السماء الوردية فاكتسى وجهها باللون الوردي، كانت باهرة الجمال في هذه اللحظة، وقالت:

          - فالكا عاودتته الأنفلونزا مجددًا، إنه ضعيف الجسم ويمرض كثيرًا.

          قلتُ:

          - وأي حاجة لك في فالكا هذا؟

          نظرت إلى تانيا باندهاش بدا أنها فهمت كل ما أعنيه. أمسكت بيدي وقالت: هيا بنا.

          سرنا عبر الشارع يصمت كل منا عن الكلام ثم توقفنا عند البيت الذي نسكن فيه، وقالت:

          - أنت أيضًا جيد ولكنك لست مثل فالكا.

          - قلت لها: لكنك قلت للتو إنه ضعيف..

          - قالت: لا، فالكا ليس ضعيفًا، هو ليس كذلك، قل لي: هل باستطاعتك أن تحملني على يديك طول العمر، أتستطيع ذلك؟

          فهمت سؤال تانيا بطريقة مباشرة وشردت بذهني فإذا بها تضحك وتقول:

          - أترى، أنت تفكر في الأمر، أما فالكا فيقول لي ذلك من نفسه، يقوله لي كل يوم، كل يوم.

          هاتان الكلمتان الأخيرتان ألقتهما تانيا على مسامعي وجرت متوجهة إلى البيت. أما أنا فجلست في الحديقة حتى وقت متأخر من الليل. في اليوم التالي في المدرسة جرت تانيا من أمامي وأعطتني كتابًا، وقالت لي:

          - اقرأ السطور التي وضعت تحتها خطًا.

          خرجت لفناء المدرسة لمكان لا يراني فيه أحد، فتحت الكتاب وقرأت السطور التي وُضع تحتها خط فإذا بها: «إنني إذا أحببت فسيكون حبًا يلازمني طوال العمر». غادرت المدرسة وقرأت الكتاب كله، كنت أبحث فيه عن كلمات تصلح لأن تكون ردًا على كلمات تانيا، لكنني لم أجد فكتبت في الصفحة نفسها هذه الكلمات: «عندما تعيدين النظر في الأمر وتغيرين رأيك سيكون الوقت قد تأخر». وفي اليوم التالي في المدرسة أعطيت الكتاب لـ«تانيا».

          مازلت أذكر كل شيء، كان هذا يوم الجمعة، وفي يوم السبت مرضتُ مرضًا شديدًا، كانت درجة حرارتي مرتفعة جدًا، وبعد الشفاء رحلتُ إلى الجنوب، وفي الربيع لحق بي والداي للإقامة معي. هكذا انتهت قصة أول حب في حياتي.

          بعد الحرب عدت للإقامة في موسكو من جديد. وذات مرة كنت واقفًا في محطة الحافلات وكان الصقيع شديدًا لدرجة يصعب معها التنفس، ولم تكن هناك حافلات، وإذا بصوت يسأل:

          - أنت الأخير في المحطة؟

          فأجبت بامتعاض:

          - يبدو ذلك.

          فعاودني الصوت من جديد:

          - القادة، بالمناسبة، أناس مهذبون.

          التفت فإذا بسيدة جميلة طويلة القامة تقف خلفي وتنظر إلي وتبتسم برقة. فقلت وأنا غير واثق تمامًا:

          - «تانيا».

          ركبنا معًا في الحافلة، كل منا كان ينظر للآخر، لكننا كنا صامتين. فبادرت قائلاً:

          - كيف الحياة معك؟

          كنت أشعر بالحرج إذ لم أستطع أن أسأل سوى هذا السؤال المعتاد. فقالت تانيا:

          - على خير ما يرام، يا للعجب، اليوم أنا وفالانتين كنا نتحدث عن ذكرياتنا معك.

          - قلت: أي فالانتين؟

          - فقالت ضاحكة: يا للخجل! أنسيت؟ «فالكا أرخيبوف» (1)، إنه الآن زوجي. إنني لم أعد النظر في الأمر ولم أغير رأيي.

          - قلت: وما الذي كان عليك أن تعيدي النظر فيه؟

          - فقالت: ألا تخجل من نسيانك لكل هذا؟! أتذكر حين كتبت لي في الكتاب: «عندما تعيدين النظر في الأمر وتغيرين رأيك سيكون الوقت قد تأخر»، مازال عندي هذا الكتاب ولو كنت تنوي المجيء إلينا سأريك إياه، تعال زرنا، سيسعد فالانتين بك جدًا، لقد كان يحبك بشدة، لابد أن تأتي لزيارتنا، نعيش في المكان نفسه، في البيت نفسه الذي كنت أسكن فيه.

          في يوم الأحد عزمت على الذهاب لزيارتهما، عندما اقتربت من البيت الذي شهد طفولتي أصابني التوتر بشدة، فتحت لي تانيا بنفسها الباب، أدخلتني إلى غرفة مضيئة، لم أستطع أن أرى على الفور كل ما في الغرفة، كانت تانيا تقف في جانب من جوانب الغرفة وترقبني بشيء من التوتر، رأيت عينين سوداوين، في البداية رأيت عينين ثم رأيت جسدًا طويلاً لشخص ما يرقد على السرير، اعتقدت في البداية أنه والد تانيا، لكن هذا الشخص فاجأني، قائلاً:

          - تعال، أيها القائد، إلى هنا!

          كان هذا الشخص فالكا أرخيبوف، اقتربت من السرير ببطء، ولسبب ما شعرت بخوف شديد، اقتربت فرأيت وجهه النحيل وكتفيه الدقيقتين، مد لي فالكا يده النحيفة مصافحًا، أمسكت بيده الواهنة ونظرت إلى تانيا ففهمت أنني بحاجة إلى المساعدة فاقتربت وجلست بجوار فالكا، لم أكن أعرف ماذا أقول، فلسبب لا أعرفه ينتابني دائمًا شعور بالخوف من التحدث مع المرضى، فقلت بشيء من المزاح المصطنع:

          - مستحيل أن أتعرف عليك، لو كنت قابلتك في الشارع لما استطعت التعرف عليك أبدًا. فقال فالكا بهدوئه وابتسامته:

          - من المستحيل أن تقابلني في الشارع، أنا لا أخرج إلى الشارع أبدًا.

          نظرت إليه برعب فقال لي وقد وضع يده الواهنة على ركبتي:

          - لا تخف، سأشرح لك الآن كل شيء، في إحدى معارك القتال اخترقت ثلاث من الشظايا عمودي الفقري والآن أصبحت ملازمًا للفراش، هذا كل ما في الأمر، لعلك فهمت الآن؟

          لم أجب فالكا على الفور، ففي هذه اللحظة كانت أفكاري بعيدة كل البعد عمّا يحدّثني عنه، كنت أتذكر ما قالته لي تانيا يومًا ما: «هل باستطاعتك أن تحملني على يديك طوال العمر، أتستطيع ذلك؟ إن فالكا يقول لي ذلك من نفسه، يقوله لي كل يوم، كل يوم».

          نظرت إلى تانيا فإذا بها في هذه اللحظة تنظر إلى فالانتين، تنظر إليه بوجه راض سمح، ثم قالت وهي لاتزال تنظر إليه:

          - نعيش على هذا النحو.

          كان هناك هاتف وكتب كثيرة بجوار السرير وكانت عليه سبورة للكتابة، في هذه اللحظة دق جرس الهاتف، رفع فالكا السماعة وأخذ يتكلم:

          - نعم، هذا أنا، صحتي على خير ما يرام، أنا أسمعك، حسنًا.. حسنًا.. أعد علي ما قلته من فضلك، حسنًا، في هذه الجزئية أنت ارتكبت خطأ، لقد استخدمت الصيغة الخطأ، لا داعي لأن تشكرني، حل المسألة ثم عاود الاتصال بي ثانية، سأنتظر مكالمتك، مع السلامة.

          وضع فالكا سماعة الهاتف، فقالت تانيا:

          - أنهى فالانتين كلية الرياضيات قبل الحرب.

          أحضرت لنا تانيا شيئًا نشربه، فاقترحت أن نشرب في صحة تانيا، عندما انتهينا من الشرب قالت تانيا إنها ستؤدي الامتحان غدًا، فاعتذرت وغادرت الغرفة، وضع فالانتين يده الواهنة مجددًا على ركبتي وقال بنبرة هادئة:

          - أشكرك جزيلاً على أنك اقترحت أن نشرب في صحة تانيا، لو عرفت مدى سعادتي بوجودها إلى جواري في هذه الدنيا، لقد بحثت عني حتى عثرت عليَّ في المستشفى العسكري، نقلتني إلى هنا ومنذ ذلك الحين وهي تحملني على يديها الضعيفتين، قريبًا سأناقش رسالة الدكتوراه، فأنا أعمل في الجامعة، وكل هذا بفضلها هي، بفضلها هي، كانت تانيا تحلم أن تصبح ممثلة، لكنها تدرس الآن بكلية الرياضيات، أي سعادة لي وهي إلى جواري!

          كان فالانتين يتحدث بهدوء وبطء ثم صمت، ثم سألني:

          - ألديك زوجة؟

          - كانت لدي زوجة، لكننا الآن انفصلنا.

          - لا أستطيع أن أفهمك، كيف يكون هذا؟ أتزوجتما عن غير حب؟ أما أنا فقد حالفني الحظ، أليس كذلك؟ أم تراني أنا من صبيان الحي الذي أخذ الحب كله لنفسه؟

          ضحك فالانتين بهدوء، في هذه اللحظة دق جرس الهاتف، وعاود الحديث مع طلبته من جديد، ثم تحدثنا عن ذكريات الطفولة والأصدقاء.

          غادرت من عندهم في المساء، وقفت على ناصية الشارع الذي كنت أنا وتانيا نقف عندها يومًا ما ونتحدث، كانت الطيور تحلِّق في السماء، وبالقرب مني وقف شاب وفتاة، كانا يراقبان الطيور ويتحدثان معًا، لم أكن أسمع ما يقولانه، لكنني كنت على يقين بأنهما يتحدثان عن الحب، الحب الحقيقي، الذي هو عظيم كالمأثرة، وخالد خلود الحياة.
----------------------------------
* كاتب وصحفي روسي.
** أكاديمي من مصر.

--------------------
(1) «فالكا» هو اسم الترخيم من «فالانتين»، المترجم.

 

تأليف: فاسيلي أرداماتسكي *    
ترجمة: د. هشام محمد محمود