الأسود والألوان

الأسود والألوان
        

          يبقى كل شيء على حاله إلى أن تستيقظ العصافير وقد انتصف النهار وصارت الشمس في قلب السماء، بقيت الأشياء على حالها لأن الأشجار والأزهار تخضرّ وتتلوّن حبًا بألوانها، تعطي الفرحة للناظر إليها ولمن يشمّها دون أن تقرر هذا، فهي خُلقت لأن تكون عطرة وملوّنة كأنها اختيرت للفرح وللراحة والبسمة.

          عندما سمع صديقي ما قلته عن الأشياء والأزهار والعطر والألوان، ابتسم، قلت لنفسي: لعلّه شعر ورأى ألوان الطبيعة وشمّ عطرها فابتسم، تابعت قائلاً لذاتي: هذا نجاح لي.. لقد ربحت ابتسامة من صديقي، وأنا لم أر مرة واحدة ابتسامة مرسومة على محيّاه، لقد ربحت إذن، ربما سيعتاد وجهه على الابتسام فنتشارك عندئذ بالبسمة ومَن يدري بالضحك!

          قلت له: مَن يدري.. لعلك ستضحك يومًا..

          أجابني: أضحك لمن؟ لأي شيء؟ تتكلّم عن ألوان الزهور وزقزقات الطيور، ولم تذكر السواد المسيطر في كل مكان.

          قلت له: هل سمعت بـ«ماتيس» Matisse؟

          - نعم.. تقصد الرسام؟

          - نعم.. قال يومًا إنه عندما يحتار في اختيار لون، فهو يضع لونًا أسود بانتظار إنهاء لوحته، يبقى اللون الأسود أو يتحوّل إلى لون آخر، وفي لوحاته ترى أشكالاً سوداء مجاورة للأحمر والأخضر والأصفر والأبيض، عندها ترى جمال الأسود المحاط بتلك الألوان يتحاور معها ويغنيها وتغنيه.

          - هذا جميل.. جميل ما تقوله..

          - لا.. هذا واقع.. ماتيس تأثر جدًا بالفنون الإسلامية، حتى أنه كان يقتني أقمشة أتى بها عندما سافر إلى بلدان عربية.. محوّلا مرسمه إلى جو شرقي أثّر في عمله الفني وجعله الملوِّن الأول بين رسّامي عصره.. ثم إن صديقه بيكاسو لم يتأثر ولم يهتم عندما قيل له يومًا إن بعض لوحاته تذكّر بلوحات ماتيس.

          قاطعني صديقي قائلاً: أين كنّا وأين صرنا؟

          - أين صرنا؟ مازلنا هنا بين الزهور الملوّنة وعطورها ولوحات ماتيس.

          - طيب.. لكن.. لكن قلت لك إن السواد طاغٍ في شوارع المدينة.. أنت لا ترى امرأة إلا وقد لفّت جسدها بالأسود.. يا أخي الحياة جميلة... والأديان غايتها سعادة الإنسان، هكذا يقال، والسعادة تهرب من حزن الأثواب والأغطية السوداء التي تلف الناس والمدينة، وتقول إني لا أبتسم، نعم لا أستطيع أن أبتسم للبشاعة، وأنا أعلم، أعرفك جيدًا، أنت محبّ للجمال.. للفرح.. وأنا كذلك.. ولكن كما ترى.

          - صحيح.. أنا تكلّمت عن مجاورة الألوان والانسجام ما بينها وأعطيت مثلاً في الفن.. وأني لا أفضّل لونًا على لون آخر، لكل لون رونقه، المهم هو كيف تضعه وأين تضعه وبجانب أي لون تضع لونًا ليؤلفا انسجامًا مريحًا للعين والنفس، أكاد أقول للرّوح أيضًا.

          - ها.. ها.. ابقَ هنا.. اترك الرّوح.

          - سماع موسيقى لباخ أو لموزارت أو غيرهما من الكبار يشعر المستمع المحب للموسيقى بحالة روحية.. أو قريبة بحالة الروحية.. كذلك عندما ترى لوحة لفالسكيز Velasquez الإسباني فهي تجعلك تسمو بعيدًا.

          - قل لي مَن تستمع أو ما تسمع من موسيقانا وأغانينا؟

          هنا قهقهت ثم ضحكت ثم ابتسمت
-------------------------------
* فنان تشكيلي وناقد من لبنان.