كتاب المنمنمات تأملات تأويلية على لوحات تشكيلية

 كتاب المنمنمات تأملات تأويلية على لوحات تشكيلية
        

          «كتاب المنمنمات».. كتاب لوحات تجتمع فيها السريالية بواقعية المتخيل، كما تجتمع فيها صور الكائنات الحية بمختلف تجلياتها الكائنة والممكنة، هو كتاب فن حيث الطيور تقع على أشكالها ولا تقع، حيث السماء تلتقي بالأرض ولا تلتقي، وحيث المكان يصبح زمانا غير قابل للقبض عليه. هنا في هذا الكتاب تتحول اللوحات التشكيلية إلى منمنمات غاية في الدقة، لا تنتمي إلا لعوالمها التعبيرية الخاصة.

          - «كتاب المنمنمات».. هو كتاب تشكيلي سحري بالمعنى الفني للكلمة، وهو كأي كتاب بورخيسي قابل للسباحة في كل المجالات الورقية منها والإلكترونية وما بينهما طبعا، لكنه يفضل أن يظل مجتمعا بين دفتي كتاب ورقي يُقرأ ليلا على ضوء القمر، ويشاهد نهارا على أشعة الشمس الساطعة.

          - «كتاب المنمنمات»: هو رحلة محبة بين الحرف والحرف والكلمة والكلمة والصورة والصورة وبين الكلمة والصورة في عملية تلاق جميل، وبين اللون والظلال المنبثقة عنه.

          - «كتاب المنمنمات».. هو كتاب التآخي بين كل الإشارات، بين الروح والروح والجسد والجسد وبين الروح والجسد معا. وهو إلى هذا وذاك كتاب الرمل المنساب في ثنايا بحر الفن الهائج.

لوحة «المنى إيزة».. شعرية النهار والليل

          لوحة «المنى إيزة».. لوحة تشكلت معالمها دفعة واحدة، اسمها يشكل هويتها الفنية المبدعة المضاعفة، هي المنى والعزة معا، هي المرأة الشامخة في كل كبريائها ونظرتها الرائعة إلى الوجود، هي الجمال وسر الفتنة في أبهى وأحلى تجلياتهما، هي الطيبوبة والسمو والتعالي الأنثوي الإنساني الرفيع. «المنى ايزة»، هي لوحة فنية تشكلت بكل عفوية الإبداع المندفعة من الذات، بكل تدفقات الشعور المتوثبة للتعبير عما يختلج في نفس الرسام، قبل أن ينتقل الفعل، فعل الإنجاز، إلى اليد، ثم بعد ذلك إلى العين، العين المبصرة، العين التي تحكم على الأشياء بعد اكتمالها أو حتى قبل أن يتحقق هذا الاكتمال نفسه، من خلال اللونين الكبيرين، لون النهار ولون الليل، لون البياض ولون السواد، لون الحياة ولون الموت أيضا. «المنى إيزة»، هي لوحة الابتسامة المنطلقة بكل هدوء من الفم، لتصل إلى العين الأخرى الناظرة لها، قبل أن تتشكل همزة الوصل الأخرى، أي تلك الغمزة التي لا تريد العين اليمنى أن تكشف عنها بسهولة، أقصد هنا عين المرأة طبعا، أما الشعر الأسود المنسدل على الكتفين فهو تعبير عن الامتداد، الامتداد نحو الحياة، تلك الحياة المنعكسة على وجه الرائي. هل هناك راء بالفعل، حقيقي أو متخيل لهذه المرأة، أم أن هذه المرأة لا تنظر إلا لذاتها وقد تشكلت صورتها على سطح المرآة؟ المرآة التي أبت يد الرسام أن تقدمها على فضاء اللوحة، وتركت للتأويل الشاعري أن يكشف عن كل معالمها وهو يتأمل سحر هذه اللوحة، أو سحر المرأة المتجلية فيها؟. وهل هناك بالفعل سحر ما يوجد في اللوحة؟ أم أن اللوحة لا تقدم لنا سوى وجه امرأة جميلة تريد أن تبتسم أو هي على وشك الابتسام، من يد الرسام التي تسعى للقبض عليها ولا تستطيع أن تحقق ذلك؟ ربما. «المنى إيزة»، هي لوحة تتناص من بعيد مع لوحة الموناليزا، طبعا للفنان العظيم ليوناردو دافنشي، سواء على مستوى الاسم المنحوت، أو على مستوى الابتسامة، فعملية التناص لا تحيل في عمقها على عملية الإبداع كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، وإنما على عملية التأثير، على ذلك القلق الذي يسكن نفس المبدع، وهو يرى صورة أخرى تأتي من بعيد، وتلج إلى عالمه الشخصي، فيسعى جاهدا للانفلات منها، وهل يستطيع ذلك؟ «المنى إيزة»، هي لوحة حظيت بكل معاني الحب المنبعث من قلب الرسام قبل يده، كما حظيت بهذه التأملات حولها من لدني، من لدن نفس الرسام أحد متلقي الفنون الجميلة، الذي ابتدعها وجعلها تعيش في ثنايا الفن الجميل، لكنها لوحة ضاعت مني على مستوى التوهم وليس على مستوى الواقع، بمعنى لم تعد تحت سيطرة خالقها من جديد، وهذا ما يجعل منها لوحة مفقودة بشكل إيهامي طبعا، نسيتها قرب البحر، بحر الناظرين إليها الآن، وحين عدت لم أجدها، في مكانها، فهل انسلت مني وغاصت في أعماق البحر، أم أنها سافرت إلى هناك بعيدا، إلى حيث لا بيت، إلى حيث لا مكان. «المنى إيزة» هي لوحة أحب أن أضعها ذات يوم على غلاف لأحد كتبي القادمة، خصوصا ما تعلق منها بالكتابة حول المرأة. «منى إيزة»، هي اللوحة المستحيلة التي أريد بكل قوة أن أعيد رسمها من جديد، لكن هذه المرة على قماش، بدل الورق، فهل أستطيع؟ تلك هي أمنية كل فنان حقيقي يريد القبض على الجمال في كليته المطلقة، وهو ما لا يستطيع أحد تحقيقه.

لوحة «الأحمر والأسود».. حياة تعاش على فضاء أزرق سماوي

          لوحة «الأحمر والأسود».. هي لوحة الاحتفاء بالألوان، فاللونان معا لهما مرجعية مغرقة في العواطف، وفي الأدب أيضا. من لا يتذكر منا رواية «الأحمر والأسود» للروائي الفرنسي الشهير ستاندال؟ لوحة «الأحمر والأسود» هي حياة تعاش على فضاء أزرق سماوي أو ربما أزرق بحري، فلا شيء يشكل يقين الحقيقة سوى العطش. العطش إلى الفن والجمال في كل تموجاته الزرقاء. هل مرحلة تشكيلية زرقاء متدثرة بفنية سوريالية غير معلن عنها؟ ربما يكون الأمر كذلك وربما لا يكون. فهنا في هذه اللوحة التشكيلية تعلن الألوان عن نفسها في رقصة جنونية باذخة. ما أجمل البذخ الفني وهو يتربع على قمم الفتنة المتماوجة على صهيل أحصنة الدهشة. حينما نتأمل الفن، وخصوصا حين يكون هذا الفن متجليا في فضاءات اللوحات التشكيلية نشعر بأننا شعراء بالفعل، فالشاعر الرائي شارل بودلير، صديقي القديم، كانت كتبه مرافقة لي دائما، كان متأمل فنّ تشكيلي بامتياز حتى لا أقول ناقدا للفن التشكيلي، وكتاباته في هذا الصدد غنية عن التعريف. لوحة «الأحمر والأسود» هنا هي لون الحب والرغبة والموت أيضا، فلا رغبة في العشق إلا وتكون ممتزجة في الاندماج في الآخر، العشق يتوهج من خلال الذوبان، والذوبان لا يتحقق إلا في العشق. لنستحضر أورفيوس الشاعر الموسيقي حين أراد بكل عنفوانه الموسيقي أن يعيد حبيبته أوريديس من هناك، من عالم الموتى فاستعصى عليه ذلك، لأنه التفت من شوقه إليها وهي تأتي وراءه، فكان أن اختفت نهائيا. هنا اللون الأحمر هو دم أورفيوسي متوهج بالمحبة، وهنا اللون الأسود هو فناء أوريديس في غياهب الظلام. أما اللون الأزرق فهو الأمل، هو الصفاء الرابط بينهما إلى الأبد رغم الفراق، رغم الغوص بعيدا في الذي يتشكل حينا ولا يتشكل حينا آخر. لوحة «الأحمر والأسود» هي لوحة تمنح للمتلقي المفترض الناظر إليها بمحبة لذة الإنصات إلى الماوراء، إلى هناك حيث النفس تبحث عن نفسها، وحيث الروح تحلق في سماوات البهاء وفي كنه الخفاء. لوحة «الأحمر والأسود» هي امتداد روحي نحو الأعالي، هي الصعود إلى الجبل، جبل قاف، الصعود على أجنحة طيور يبلغ عددها الثلاثين طيرا، وتحدق في المرآة كي ترى صورتها مجتمعة في صورة كبرى. لوحة «الأحمر والأسود» هي لوحة تقول البياض، وتنطق بالصمت، ذلك الصمت الجميل الذي لا يعلن عن نفسه سوى مرة في ألف عام وعام. كم هي جميلة هذه الكلمات وهي تنسل من فضاء اللوحة لتستقل بذاتها شعرا بهيا. كم هي جميلة هذه اللوحة وهي تعلن انتماءها إلى ذاتها، بعيدة كل البعد عن اليد التي قامت بتشكيلها ذات لحظة زمنية هاربة.

لوحة «طائر السيمورغ».. المرآة الكبرى التي تنعكس فيها كل الصور

          لوحة «طائر السيمورغ» هي لوحة أولى من اللوحات القديمة التي قامت يد الرسام بعملية تخطيطها مباشرة على الورق، ورق الرسم طبعا، هي لوحة فنية تسعى للاحتفاء بهذا الطائر الأسطوري النبيل، الذي يرمز إلى المرآة الكبرى التي تنعكس فيها كل الصور، صور الطيور المحدقة تجاهه، هو سيد الطيور كلها، الأمل المبحو تظل حاضرة في الوجدان ولا تكتفي بأن تكون معلقة على الجدران فحسب. لوحة «طائر السيمورغ» هي لوحة أحبها كثيرا كما أحب البساطة وهي تعلو وجه الإنسان، الإنسان البسيط في لباسه لكن العميق في حبه للأشياء المحيطة به، الإنسان الباحث عن الجمال في كل تجليات الكون.

لوحة «الانتظار الطويل».. انتظار الذي يأتي أو لا يأتي

          لوحة «الانتظار الطويل».. هي لوحة تحكي تعب الانتظار، انتظار الذي يأتي أو لا يأتي، الحبيب الغائب هناك بعيدا في الأفق. الحمامة هنا، هل هي حمامة بالفعل؟ يبدو أن يد الرسام، قد شكَّلتها كذلك وفق رؤية العين لها لحظة التشكيل، المهم هي طائر، قد يكون له صورة حمامة، وقد لا يكون، لكنه يحمل قلبها في الداخل، باعتبار الحمامة هي رمز السلام، رمز للألفة أيضا. لكن الألوان تأخذ أبعادا أخرى، فلا حمامة حقيقية الا في الواقع، أما في الفن فثمة أشياء أخرى، أشياء يشكلها الخيال الخلاق، بتعبير ابن عربي، ويصورها تبعا لمنظوره الخاص. الرسام استحضر هنا لحظة الرسم، كتاب «طوق الحمامة» لفيلسوف قرطبة ابن حزم، ورسم من خلال هذا الاستحضار، هذه الحمامة الهادئة التي تنتظر مجيء الحبيب. الحمامة طائر مخلص، وقد كنت في طفولتي مربي حمام بامتياز. من هنا فقد كان الرسام - الذي كان لحظة رسم اللوحة شبيها بي تماما بتعبير الشاعر الفرنسي شارل بودلير - في كل انفعالاته، وهو يعانق الألوان ويمزجها بعضا ببعض، بغية القبض على اللحظة المنفلتة منه، لحظة حضور الحمامة إليه وبقائها فيه إلى أن تسكن فضاء اللوحة، على الشكل المطلوب منها أو الشكل الذي يريده لها هو بالتحديد. وهكذا كان الأمر. الحمامة هنا بهذا اللون المازج بين الصفرة والحمرة الذائبة، والمكان الذي تجلس فيه والمشكل من خلال امتزاج اللونين الأزرق والأخضر والفضاء السابح في الأعالي القريب من اللون البني، أو هو اللون البني تحديدا، ثم الشمس الصفراء وهي تريد الرحيل إلى مكان آخر، في غياب نتظر أحدا سوى مجيء الليل لينام. تلك هي تداعيات أو على الأصح بعض تداعيات الناظر إلى هذه اللوحة التي رسمها الرسام في غفلة من الزمن، قبل أن ينادي عليه النوم هو الآخر ليمتطي صهوته محلقا في أحلامه كما هو طفل الحياة. لوحة «الانتظار الطويل» هي لوحة تدعو للتأمل في الكون، بكل محبة وتسامح ونبل.
-------------------------------------
* أديب من المغرب.

 

نور الدين محقق*   
 




لوحة «المنى إيزة».. شعرية النهار والليل









لوحة «الأحمر والأسود».. حياة تعاش على فضاء أزرق سماوي





لوحة «طائر السيمورغ».. المرآة الكبرى التي تنعكس فيها كل الصور





لوحة «الانتظار الطويل».. انتظار الذي يأتي أو لا يأتي