جاكوب فان رويسدايل.. «بحر عاصف»

جاكوب فان رويسدايل.. «بحر عاصف»
        

          لو طُلب إلى أي مؤرخ فن أن يعدد أعظم أربعة رسامين هولنديين خلال القرن السابع عشر لذكرَ حكمًا اسم رويسدايل (1628-1682) إلى جانب رامبراندت وفيرمير وفرانز هالز. وتعود مكانة رويسدايل هذه إلى المناظر الطبيعية التي رسمها، وريادته في التعامل مع الطبيعة كموضوع رئيسي ووحيد في اللوحة، وليس كمجرد خلفية لحدثٍ ما كما كان رائجًا قبل عصره وخلاله أيضًا.

          رسم رويسدايل في حياته نحو 700 لوحة، تشمل الحدائق المنزلية والغابات والشلالات والأنهار وشواطئ البحر في كل حالاتها، ومن هذه «بحر عاصف» التي رسمها عام 1650 تقريبًا. ولكي ندرك مكانة هذه اللوحة علينا أن نتذكر ما كانت عليه الحياة في هولندا آنذاك.

          فمن جهة كانت التجارة البحرية النشاط الاقتصادي الأكثر ازدهارًا في هولندا خلال تلك الفترة. وقد وفّر ذلك طبقة جديدة من الأثرياء الذين حلّوا محل الكنيسة في شراء الأعمال الفنية ورعاية الفنانين. ومن جهة أخرى، ازداد شأن البحر وأحواله وأخباره في الحياة اليومية التي ازدادت ارتباطًا به، إضافة إلى الصراع التاريخي ما بين الهولنديين في أرضهم الواطئة والبحر الذي سعوا دومًا إلى دفعه بعيدًا عن اليابسة. ولوحة «بحر عاصف» هي واحدة من صور صراع الإنسان مع عظمة الطبيعة وسطوتها عليه.

          نرى في هذه اللوحة رجلين صغيرين على مرسى خشبي ينتظران اقتراب مركب شراعي للمساعدة على ربطه إلى الرصيف. وبعيدًا، نرى بعض المراكب تصارع الرياح والأمواج ويبدو أن بعضها فقد أشرعته.

          الزبد الأبيض وتقارب الأمواج من بعضها يؤكدان شدة الرياح (حال البحر هذه تسمى في بلادنا «ريح»). ويعزز الرسام هذا المناخ الدراماتيكي بتخصيص ثلثي اللوحة للسماء الملبّدة بغيوم ممطرة سوداء، ولولا تلك الفسحات الزرقاء الصغيرة والقليلة، لبدت اللوحة وكأنها مشهد ليلي. ولكننا هنا أمام نهار تحوّل إلى ما يشبه الليل بفعل رداءة الأحوال الجوية.

          وبسبب وجود هذه اللوحة اليوم في أحد المتاحف الأمريكية، يمكن لمن يستكشف ما يقوله النقّاد بشأنها أن يصطدم بمحاولات البعض «فلسفتها»، فيذهب إلى حد القول إن الفسحات الزرقاء وسط السماء الملبّدة هي رمز للأمل، أو لصراع الخير والشر وما إلى ذلك.. ومثل هؤلاء المحللين هم أحرار في رؤية كل ذلك في هذه اللوحة. ولكن ذلك لا يمكنه أن يحظى بالإجماع الذي تحظى به «أستاذية» رويسدايل التقنية والبصرية والجمالية، ولا أيضًا في تعبير هذه اللوحة بشكل غير مباشر عن شأن يومي من شئون الحياة الهولندية وتاريخها آنذاك.
-------------------------------
* ناقد تشكيلي من لبنان.





جاكوب فان رويسدايل: «بحر عاصف»، زيت على قماش، ( 58 × 38 إنشًا)، 1650، متحف كمبل في تكساس، الولايات المتحدة