من المكتبة الأجنبية: افتراق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية

عرض: د. جعفر هادي حسن

جودث بتلر استاذة يهودية في الجامعات الأمريكية، وكتابها هذا الذي نتحدث عنه والمعنون «افتراق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية» ليس كتابها الأول، بل لها أكثر من كتاب لوحدها، وبالاشتراك مع آخرين. ويقودها النقاش في الكتاب من العلاقة بين اليهودية والصهيونية إلى الحديث عن إسرائيل وسياستها نحو الفلسطينيين. ثم بعد ذلك تقترح حلاً للصراع الإسرائيلي الفلسطيني كما سنرى فيما بعد.

 

والمؤلفة معروفة في نقدها الشديد للصهيونية، ورافضة لها وللعلاقة بينها وبين اليهودية, وترى أن اليهودية كدين أو اثنية لاتقود بالضرورة إلى الصهيونية. وتؤكد أن اليهودية يجب أن تكون منفصلة عن الصهيونية، كما تؤكد أيضا على وجود عداء للصهيونية بين اليهود، وأن هذا العداء ليس جديدا، وإنما ظهر منذ بداية ظهور الصهيونية، بل كان بعد مؤتمرها الأول مباشرة في نهاية القرن التاسع عشر، وهذا العداء لم يتوقف إلى اليوم، وإن كان يأخذ صورا مختلفة. وتذكر المؤلفة أن الكثير من اليهود يعتقد بأن إسرائيل هي ضرورة تاريخية لجعل اليهود يعيشون حياة آمنة، واي نقد لها كما يقولون يجعلها دولة غير شرعية، وهذا يعني إرجاع اليهود إلى الوضع الذي كانوا عليه قبل إنشاء الدولة، وتعريضهم للمذابح والتدمير، كما حدث لهم من قبل النازيين. ولكن المؤلفة تقول إن هذه الفكرة في الواقع مرفوضة، لأنها تبرر ماتقوم به إسرائيل من عنف نحو الفلسطينيين واستلاب أرضهم، وتبرر الاعتداءات العسكرية وتعتبرها دفاعا عن النفس. وهي ترى بأن التهمة التي توجه لليهودي، الذي ينتقد الصهيونية وسياسات إسرائيل نحو الفلسطينيين، بأنه كاره لنفسه هي تهمة باطلة وغير صحيحة. وهي تنظر إلى المجمعات الزراعية (المستوطنات) التي أنشأتها إسرائيل، على أنها جزء من مشروع صهيوني، وما تتبجح به عن اشتراكيتها، إنما هي في نظر المؤلفة مظهر من مظاهر الاستعمار، وهي تعطي فكرة بأن الاشتراكية الاسرائيلية، إنما هي استعمارية وتوسعية، وهي تختلف عن الاشتراكية التي يعرفها الناس.

وترفض المؤلفة، أن تكون السيادة في إسرائيل للأغلبية اليهودية، أي أن تكون الدولة يهودية, وترى بأن ذلك يؤدي بالضرورة إلى حكم عنصري وغير ديمقراطي، كما أنه ينتج عنه صراعات مع الأقليات الأخرى، من أجل الحفاظ على حكم الأغلبية, ولهذا السبب تقول المؤلفة، إن إسرائيل مصممة، بأن يكون الفلسطينيون أقلية، وإنها إذا ماشعرت بتهديدهم لأغلبيتها، فإنها تقوم بعمل يمنع ذلك. بل إننا نسمع اليوم أن بعض سياسييها يريدون الطرد الجماعي للفلسطينيين. وفي رأيها أن ذلك إذا ما حصل فإن إسرائيل سوف لا تبقى في مأمن، بل ستبقى في حرب دائمة مع أولئك الذين طردتهم، والذين عليها أن تبقيهم خارج حدودها. كما أن دولة الأغلبية اليهودية كما تقول, لابد وأن تقوم بتجريد الأقلية الذين هم فلسطينيون في هذه الحالة من أراضيهم، والسيطرة عليها. ولكنها أيضا ترى بأن تدمير حياة الفلسطينيين ووسائل عيشهم، إنما سيزيد بالتأكيد من الخطر على من يدمرونها، لأنه يخلق حركة للمقاومة المستمرة, من أولئك الذين يُدمَرون سواء أكانت المقاومة عنفية أم سلمية. وترفض المؤلفة فكرة الشعب المختار، وكذلك ترفض تبرير أن إسرائيل إنما نشأت طبقا للتوراة. وتقول إننا يجب أن نعارض استخدام الدين لتبرير جريمة ترتكب، طبقا للقانون الدولي بطرد الفلسطينيين من أرضهم والاستيلاء على ممتلكاتهم.كما أنها اعتبرت الحرب الأخيرة على غزة جريمة حرب.

 

المذبحة النازية كتبرير للعنف في إسرائيل

وهي كذلك ترفض بالمطلق استعمال المذبحة النازية كتبرير لجعل الحكم غير الشرعي شرعيا،وهو ماتقوم به إسرائيل اليوم، للتغطية على كل الأعمال الوحشية ضد الفلسطينيين كما تقول. وقد انتقدت شخصيات يهودية غيرها استغلال المذبحة النازية لهذا الغرض. ومن هؤلاء أبراهام بورغ الرئيس الأسبق للكنيست الذي قال في كتابه، «المذبحة انتهت ويجب أن نخرج من رمادها» «إن كل شيء (في إسرائيل) يقارن بها (المذبحة) وكل شيء يقزم بالنسبة إليها، والنتيجة أن الجدار العازل ومنع التجول والحصار، ومنع الطعام والماء (عن الفلسطينيين) والقتل بدون سبب تصبح أشياء مسموحا بها». ومنهم بريمو ليفي الروائي والشاعر اليهودي المعروف، الذي يرى أن المذبحة قد أصبحت وسيلة لإسكات الناقدين وتبريرا لعنف الدولة (إسرائيل) وتعطي شرعية لممارساتها التي يجب أن ترفض بكل طريقة.

 

دولة واحدة للشعبين (الفلسطيني واليهودي)

وبسبب مساوئ دولة الأغلبية اليهودية، فإن الحل الأمثل اليوم، كما تراه المؤلفة، هو أن تكون دولة واحدة للقوميتين اليهودية والفلسطينية، ولكنها تقول إن هذا لايتحقق إلا بشرطين، أحدهما التخلي عن الصهيونية التي نشأت عليها إسرائيل بأن جعلت السيادة للأغلبية اليهودية، والثاني التخلي عن إنشاء المستوطنات لأنه مشروع استعماري.

وهي بهذا تتفق مع عدد من المفكرين والكتاب اليهود المعاصرين، الذين يرون هذا الرأي، والذين أخذ عددهم يزداد في الفترة الأخيرة, ومنهم توني جولت وهو يهودي (توفي قبل بضع سنوات) وكان أستاذًا للتاريخ في إحدى الجامعات الأمريكية. وقد عرف بنشره في عام 2003 مقالة مهمة عنوانها «البديل» في مجلة (The New York Review of Books).

وهي مقالة طويلة, أحدثت ردود فعل واسعة بين اليهود وغيرهم لأهميتها واهمية كاتبها. وقد ناقش كاتبها نقاطًا رئيسة كان أهمها أن خيار الدولتين لم يعد خياراً لانه قد فات وقته، وان هناك الكثير من المستوطنات والمستوطنين، والكثير من الفلسطينيين يعيشون في مكان واحد وأن الوقت قد حان للتفكير فيما لم يكن يخطر على بال أحد، وهو حل الدولة الواحدة الذي هو حل مرغوب فيه. وهذه الفكرة ليست فكرة شاذة، إذ أن الدول اليوم فيها ثقافات متعددة واجناس متعددة, وإسرائيل نفسها هي ذات ثقافات متعددة, ولكنها ميزت نفسها عن الدول الديمقراطية، في ان المواطن فيها يعتبر مواطناً طبقاً لمقياس اثني ديني, وهي في هذا الامر تعتبر شاذة بين الشعوب المعاصرة, لأنها دولة يهودية، حيث يكون لليهود الموقع الاول فيها في زمن ليس فيه مكان لمثل هذه الدولة.

 

دولة القوميتين ليست سهلة

إن الشعوب اليوم في العالم يزداد اندماجها، ويزداد التزاوج بينها حيث أزيلت الحواجز الثقافية والإثنية، وفي مثل هذا العالم، فإن إسرائيل تعتبر خارج السياق الطبيعي للتاريخ وذات وظائف شاذة.

إن تحول إسرائيل من دولة يهودية إلى دولة واحدة ذات قوميتين ليس سهلاً، ولكنه ليس مستحيلاً كما يبدو للبعض، وفي الواقع فإن هناك تقدماً نحو الدولة الواحدة.

إن الحقيقة المحزنة هي أن سلوك إسرائيل اليوم ليس سيئاً لأمريكا فقط، بل هو سيئ لإسرائيل نفسها كما يعترف الكثير من الإسرائيليين بهمس. إن سلوكها في الواقع سيئ لليهود ايضاً، وما يحصل من هجوم على يهود الشتات، سببه ما ترتكبه إسرائيل وما تقوم به من أعمال.

 

التغلب على الصهيونية

وإن م ن يعتقد بأن الجدار الإلكتروني العازل، سيكون الحل فإنه يجهل خمسين سنة من التاريخ بل إن هذا الجدار، هو مثل جدار برلين يعبر عن الإفلاس الأخلاقي والقانوني.

ومن هؤلاء يوئيل كوفل,وهو أيضا يهودي من الولايات المتحدة الأمريكية,وكان قد رشح نفسه لرئاسة الولايات المتحدة عن حزب الخضر، وهو من الناقدين لسياسة إسرائيل نحو الفلسطينيين, وكان قد أصدر كتابا كاملا حول موضوع الدولة الواحدة عنوانه «التغلب على الصهيونية وإنشاء دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين/ إسرائيل». ويرى المؤلف ضرورة تفكيك الصهيونية, حيث تنشأ على أنقاضها دولة واحدة ديمقراطية علمانية للشعبين -وهو يؤكد على صفة العلمانية - ويقول بأن مشروع إقامة دولة واحدة ليست فكرة طوباوية جاءت من عالم آخر «بل هي أمر ضروري من أجل برنامج عملي». ويقول إذا كان الغرض من فكرة الدولتين، ان تكون هناك دولتان حقيقيتان على الأرض، فهذا الحل قد قضي عليه.

فلفترة ثمان وخمسين سنة وقضم الأراضي من قبل الصهيونية مستمر، وأصبحت فكرة الدولتين ببساطة غير ممكنة، وهو أمل كاذب، إذ أنه يبقي على إسرائيل كدولة معترف بها, وعضو معترف به في المجتمع الدولي. ويقترح كوفل اسمًا لهذه الدولة التي يتخيلها وهو «فلسرائيل»، ويقول إن الاسم مكون من أربعة حروف من كل من الاسم فلسطين وإسرائيل، وهو لا يصر على هذا الاسم بل يترك الأمر للشعبين. ويؤكد أيضا على ضرورة عودة اللاجئين الفلسطينيين «لأن ذلك ضروري لإنهاء الدولة اليهودية, وكونه حقا أساسيا من حقوق الإنسان في تقرير المصير»، وعندها يجب أن يكون اعتراف متبادل، حيث يتحمل الجانبان المسئولية سوية، وأن يتخلى اليهود عن ادعاء التميز، (الاختيار) لان ادعاء اي جماعة بانهم شعب مختار من قبل الرب، وأنه وعدهم بارض، يعني أنهم ليسوا جديرين بالإنسانية، بل ليسوا جديرين بأن يسموا عقلاء.

 

الخشية من الاعلام

ومن هؤلاء الذين يدعون إلى إقامة دولة واحدة إيلان بابيه الأستاذ الجامعي الإسرائيلي الذي كان قد أعلن تخليه عن الصهيونية بسبب ما تقوم به إسرائيل نحو الفلسطينيين، ونشر كتابا عن التطهير العرقي للفلسطينيين الذي تقوم به إسرائيل. وتقول المؤلفة إن هناك الكثير من اليهود ممن يرفضون سياسة إسرائيل نحو الفلسطينيين,ويتمنون أن تكون دولة واحدة للشعبين، بل هي تقول إن هذا الموقف هو السائد اليوم بين اليهود خارج إسرائيل، ولكن هؤلاء يخشون الإعلان عن رأيهم خوفا من اتهامهم من إسرائيل والمؤيدين لها، بأنهم يشجعون العنف والعداء للسامية.

وفي الأشهر القليلة الماضية ظهر تطور مهم حيث أضيف إلى هؤلاء مجموعة مهمة في إسرائيل، هي اللجنة ضد تهديم البيوت,حيث وصلت إلى قناعة بأنه ليس هناك أمل في تحقيق حل الدولتين، ولذلك يجب أن تكون دولة واحدة للشعبين، وتقول اللجنة «يجب أن يتحقق شرطان في ذلك، وهما عودة اللاجئين الفلسطينيين طبقا لقرار الجمعية العامة 194، واعتراف إسرائيل بما اقترفته في حق الفلسطينيين عامي 1948 و1967».
---------------------
* باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن.