الصويرة... تلوحُ كباقي الوَشْم

          هل لي أن أستعير من الكاتب الإنجليزي بُوفِيلْ قولته الهائلة وهو يكتب عن تجارة الذهب في تنبوكتُو: «إن من يكتبُ عن تنبُوكْتُو لابدَّ أن تأخذهُ نوبة من التنهدات». فكيف لي أن أكتب عن مدينة كلما هممتُ بها أو همّت بي وجدت نفسي في بحر لجيّ من التنهّدات. الصويرة. البلدة التي كلما دنوتُ منها نأتْ وكلما رُمتُ القبضَ عليها استعصت. بلدة حرُون. مدينة سحرُها في غموضها الشفَّاف. تُلَقِّنُكَ الدرس تلو الدرس في محبة الحياة والإقبال على سرابها الفتاك. مدينة كرنفال. يضع الداخل إليها قناعا على وجهه وينخرط في الكرنفال. تُضربُ الدفوف وتنطق الحواس ويخرج كلّ شيء من نفسه ويطوف. في الصويرة لستَ في حاجةٍ إلى إثباتِ هوية. أنت هنا حيثُ لا هوية إلا الصويرة. كأنما وزّعتْ هذه المدينة جسمها في جُسُومٍ كثيرة. فيها من كل المدن طرفٌ, لكنها الوحيدة التي جمعت محاسنَ المدنِ من تلابيبها. يدورُ في خلد الوافد إليها أنها مفرد في صيغة جمع, ثم يعجز عن معرفةِ السرّ، فينغمسُ في عوالمها الباذخة ليعرفَ السرّ؛ ثم لا يعرفُ السرّ أبدًا. هكذا هي الصويرة. هكذا ستظلُّ. مدينة وُضعت للناس لتعيدهم إلى ذواتهم ولتعلمهم أن في الذات انطوى العالمُ الأكبرُ.

          في الصويرة تَسقط الفواصِل والنقط. تتهاوَى الفروق. مدينة كأنما هي السِّوار. بُرج بَابل في أقصَى غرب إفريقيا. في الصويرة يصير الآخر، مهما يكنُ، خليلا. الأجساد في تماسّ. الروائحُ حرّيفة نفاذة تتسلل إلى المسام. الهمساتُ تكاد تُسمع. تتلاقى العيون وتكادُ تدمعُ. الأرجلُ في حوار. تغدو اللغاتُ والرّطاناتُ لسانًا واحدًا. كتاب كوني مسطور بلغة كونية هي هذه المدينة. رواية فاتنة متعددة الأصوات هي الصويرة. إنها، كما قالت الكاتبة الأمريكية من أصل إسباني أناييسْ نين، عن مدينة فاس، أُنشئت لإمتاع حواسنا الخمس. مدينة لا يمكنك أن تؤوبَ منها إلى نفسك إلا ناقصًا. ماذا لوْ رأت أناييس نين مدينة الصّويرة، وهي التي جابت المغرب من شماله حتى جنوبه، ووقعت في ما يشبهُ البهُوت. بحثا عن طمأنينة، نجيء إلى الصويرة. بحثا عن رضى. عن عالم مفترض إما أنه مضى، وإما أنه لم يوجد قط. هذه هي الصّويرة. خرافة قائمة بين وهْمين؛ وهم مضى، ووهْم مُرتَجَى. يؤمها القاصي والداني عن قصد، أو عن غير قصد، فإذا بالقاصي والداني يؤمانها عن قصد. من زار الصويرة عاد إليها، أو استوطنها، أو حلم بالعودة إلى حضنها.

          ألفيتُ نفسي في بَحرٍ لجيٍّ من التنهُّداتِ وأنا في الطريق إليها من الرباط لتَرميم هذا الشّرخ الروحي الذي ينتابني أكثر من مرة في ذات السنة، و لِلمّ شتات هذا الاستطلاع الذي أردته تحية للصويرة التي كلما يممتُ وجهي شطرها إلا واستحضرت البيتَ الجميل لأبي فراس الحمداني عن دمشق إذ يرى نفسهُ، وهو ينأى عنها،

مثل الحصاة التي يُرمى بها، أبدًا
                              إلى السماء فترقى ثم تنعكسُ.

          قطعت الصدفةُ على نفسها وعدًا: أن تجمعني بفنانين وكتَّاب وعشاق من نوع باذخ وأنا في الطريق إلى الصويرة. لا مِراء في أن الصويرة هي السبب. إنها دائرة الضوء التي تنجذبُ إليها الفراشات وتنقاد إليها الأفئدة. يلتقي كلّ هؤلاء الحجاج الأجانب الذين أقاسمهم المسافة في انبهارهم العظيم ب «موغادور»، وهذا هو اسمُ الصويرة القديم، كَسِرٍّ وكجُرح، وفي انجذابهم للطقس الثقافي المغربي، حيث يُختزلُ التعدّد الهائلُ في رنين موسيقي واحدٍ جذاب هو المغرب: إسبان وألمان وفرنسيون وعرب وأفارقة، وآسيويون وجنسيات لا تدري لها أَصْلًا ولا فصْلًا.

          قاسمتني سَابينْ سْييغَا، وهي شاعرة ألمانية مقيمة ب «لارُوشيل» الفرنسية، شمال بوردو، قاسمتني المكان في الحافلة من مراكش إلى الصويرة. فنانة تشكيلية وشاعرة باللغتين الألمانية والفرنسية، استهوتها الصويرة حتى أنها خَصصَت لسِرّها وغناها وغموضها مجموعة شعرية كاملة. كان حديثنا طوال الرحلة عن الشعر والكتابة. تعرف سييغا عن الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية الشيء الكثير، في حين تجهل نظيره المكتوب بالعربية جهلا شبه تام. كما أن لها إلماما ملحوظا بالأدب العربي المشرقي، المصري منه خاصة. أَقرأ عليها نصوصا شعرية عربية فيهزها إيقاع الأصوات وقوة الإشارات المصاحبة، فتقول لي، في انشداه، «سأكون فرحة لو أرى نصوصي منقولة إلى العربية، ومقروء ة بها»، فأقول لها إني فاعل ذلك غدًا. فمدت إلي مجموعتها الشعرية «من جوهرة إلى جوهرة» (1999). تحتفي نصوص المجموعة بالصويرة، المدينة الخفية العميقة، بروائحها وهسيس أمكنتها. نصوص سريعة تقول قلق الذات أمام شراسة الذكرى وانفلات الزمن. كتبت سابين في الصفحة الأولى «حدث أن اجتاحتني الرغبة، قبل عشرين عاما، في السفر قليلا، أن أضرب في الأرض وأنأى بعد مكوثٍ طويل. قلتُ يلزمني الرجوع إلى ذاتي بعد غياب، فوجدت نفسي في الصويرة. لم أكن أفطن يومها إلى أن هذه المدينة ستحتل كل هذا الحيز من فؤادي وتفكيري. لقد شَدَّتني إليها الصويرة بقوة». وسأعلم، لاحقا، أن سابين كانت ضمن آخرين، من وراء فكرة توأمة الصويرة ومدينة لاروشيل الفرنسية. ولعلمك فكثير من المدن العالمية «تُتَوْئمُ» الصويرة.

          لك أن تتصور زهو سابين وغبطتها وأنا أقرأ لها وعليها مقطعا مترجمًا من مجموعتها يحمل عنوان «الصويرة» اخترته عن عمدٍ والمناسبة شرط. أقرأ لها ونحن نذرع شارع الكورنيش، في اليوم الموالي للرحلة. نوارسُ تملأ السماء من حولنا والشمس تجنح للأفول:

          «القلب الخافقُ الأسيرُ.
          القلبُ الخافقُ ذو الخطو الواثق من نفسه،
          بين أسوارك
          يسألني.
          القلبُ الخافق ذو الظهر المسنود
          إلى الزرابي المزركشة.
          القلب ذاك
          يبحث عن أفُقٍ 
          أقل انغلاقا.
          الوعيُ،
          أخيرًا،
          طيّعا،
          يتقدم.
          القلب الخافقُ الأسير ذو الخطو الواثق ِ والظهر المسنود،
          أكان قايَضَ
          بالرّيح
          أبْهاءَك؟
          في رائحة شجر السنديان
          يَهَجَعُ
          زهْوُ
          أيّامِه».

الصويرة مدينة مرآة

          الصويرة جرح في خاصرة الخارطة. شبه جزيرة لائذة بالماء والشمس والغبار. كأنها خنصر ناتئٌ في جسم الزمان. يحارُ المرءُ في معرفة كيف حُشيت هذه البلدة الصغيرة بأكوام التاريخ، حتى إن التاريخ لينزُّ منها نزًا. الصويرة من الغنى والغموض حتى أن الكتابات التاريخية عاجزة عن فضح سرها. وحدها الكتابة الأدبية والتلوينات الفنية والتعابير الإيحائية تستطيع ملامسة هذا السّطح الفيروزي العميق. إن شئت الدنوّ من الصويرة فاقرأ ما كتبه الكتَّاب الأفاقون عنها. ما لا يعدّ من الروايات واليوميات والأشعار واللوحات التشكيلية والسينما.. وهلمَّ جرّا. في رواية الروائي المغربي الكبير الراحل محمد زفزاف «الثعلب الذي يظهر ويختفي»، وفي كتابات ابن الصويرة البار ّ إدمون عمران المليح، وهو الذي وضع عنها كتابًا ذا عنوان دالّ «الصويرة، المدينة السعيدة»، تجد الصويرة نائمة على سريرٍ من حنين وتاريخ. كما في الأكوام المكدسة من اللوحات الفنية التي وضعها رسامون وفنانون من كل المراتب ومن كل الأقاصي. في السينما العالمية، في الأغنية الثائرة ذات الجذور الإفريقية المتوحشة، حيث أوت الصويرة فنانين ملاعين أتوها من كل فجّ عميقٍ وعلى كلّ ضامر. في المنفلت من الأدب والفنّ تجد الصّويرة. مدينة مَنذورَة لسِرّ كتومٍ بَهيجٍ.

          ما تنجزه القنوات والمجلات المتخصصة وما يُعقد من ندوات، وما يقدم من رسائل جامعية حول الصويرة لا يخلو - إن خلا - من نظرة عجائبية إلى المدينة. نظرة غرائبية ساهم في تأبيدها أبناء البلد أنفسهم. ما تخلت عنه الحضارة الغربية، قسرًا، في طريقها نحو راهنها، يوجد في الشرق. يُوجَدُ في الصويرة. إنه استشعار الفقدان. فقدان عالم حميم عَطِرٍ أليف. حال الغرب إزاء الشرق يقول: الشرق هو العالم المثالي الذي نأمل حدوثه، لكن ليس، هنا، في الغرب، أبداً. قال الرسام بول كلي يوم زار تونس عام 1917 «هذا بلد يشبهني». الصويرة تشبه زوَّارها الغربيين. وهذا جزء كبير من سرها الآسر. حاولت جمعيات محلية استغلال هذا البعد الحضاري - الثقافي للمدينة لتحسين أحوالها. وأنا أنجز هذا الاستطلاع تحتفي الصويرة برئيس تحرير المجلة الفرنسية الأشهر النوفيل أوبسرفاتور، سِيرجْ رَافِي، وهو معلق وروائي. وكانت المدينة استضافت في يناير الماضي الصحافي والكاتب الفرنسي كلود سيريون. ضيف هذا النشاط الثقافي - السياحي مُطالب بكتابة قصة مستلهمة من إيحاء إقامته بالصويرة. إنها الدورة الثانية للإقامات الأدبية، التي تنظمها جمعية موكادور والتي يرأسها المستشار الملكي ابن الصويرة أندريه أزولاي الذي يتحدر من عائلة يهودية عريقة.

عُطيل الصَّويري

          الصويرة مدينة شكسبيرية. قال جليسي ونحن في بهو فُندق الجزر، أحدِ الأمكنة الأثيرة لدى أورسون ويلز: أتى على الصويرة حين من الدهر كانت فيه مسرحا لانتصارات الجنرال عطيل المورو. والمورو هم العرب الذين فتحوا إسبانيا في القرون الوسطى، وهم، إن شئت، العرب الذين وفدوا على الجزائر وتونس ومراكش بعد سقوط الأندلس. وحكى كيف تمَّ زواجه من فتاة جميلة وسليلة أمجاد، ما جلبَ عليه غيرة وحسد الآخرين. وسيتسرب الشك إلى نفس عطيل من علاقة سرية بين لاَغُو، وهو ملازم أول أو قائم مقام، وبين ديزدمونة. يسترسل جليسي في سرد أطوار الفيلم. مشكلات مالية أعثرت تصوير الفيلم. أكثر من مرة اضطر ويلسون ويلز إلى الاشتغال على أفلام أخرى لاستثمار عائداتها لإتمام عطيل.

          قال جليسي: ثم إن أورسون ويلز هذا شخصية فريدة. تيتّم صغيرا. ماتت الأم. مات الأب بعد خمس سنوات. صديق العائلة برنشتاين يتكفل بالطفل أورسون. في العام 1930 يفوز بجائزة عن إخراجه فيلم يوليوس قيصر لشكسبير. غادر أمريكا إلى إيرلندا لتطوير ولعه بالفن التشكيلي. جال البلد في سيارة مهترئة قبل دخول دبلن. يومها كان عمره ست عشرة سنة. بعد ذلك ذهب إلى إشبيلية، حيث قدم نفسه كاتبَ روايات بوليسية، ويحكي كيف درت عليه تلك الكتابة أموالا طائلة، حتى صار واحدًا من أغنياء إشبيلية. ثم مارس مصارعة الثيران. وفكر في احتراف المصارعة، لكنه، فضل، أخيرًا، العودة إلى الكتابة.

          يعود إلى أمريكا ليدشن تجربة ثرية في المسرح والراديو بالعام 1934. سنة 1937 يذهب إلى إلينوا للاستفادة من خبرة ووكْ ستوكْ. وهناك يلتقي ممثلة شابة هي فيرجينيا نيكولسون. يتزوجان وينجبان بنتًا. قال مُحدثي: إن سرًّا من أسرار قوة ويلز يكمن في صوته القوي الرخيم. هو صاحب كاريزما. كأنني أسمعُ جنبات هذا الفندق الفخم الوديع تُردد أصداء صوته.

          استبدلنا مكانًا بمكان، إذ هبت ريح باردة فَجْأة، وللريح في الصويرة صولة وصولجان.

          قال جليسي: حتى قبل مجده السينمائي مَثَّل ويلز على ركح المسرح مسرحية «شارل الثالث». كما أخرج «الملك لير» في العام 1955 بنجاح كبير. إعجاب ويلز بشاعرية مسرح شكسبير جعله يُقبل على أعماله المسرحية. لقد اعتبر شكسبير، دوما، شاعر كل الأزمنة. ما يثيرني في ويلز مناطحته لكبار الأسماء العالمية، فهو من قراء نيتشه الكبار، تمثيلا لا حصرًا. دام تصوير عطيل أربع سنوات. صُور بين إيطاليا والمغرب. وفي مهرجان كان 1952 نال الفيلم جائزة كبرى.

          يقترح جليسي أن نخطو قليلا في ليل الصّويرة البهي. نغادر البهو الفسيح لفندق الجزر، وسُمي كذلك لأنهُ يَقع قبالة جزر الصّويرة الثلاث الكبرى، إلى الساحة الأمامية للفندق قبالة الكورنيش، حيث تمثال ولسون ويلز. قال مُحَدِّثي: هذا التمثال مُهين لويلز وللصويرة معًا. فهو كما ترى وُضع على عجل ومن غير براعة في الوضع. يد عجول لامبالية استجابت لرغبة غامضة فكان الذي كان. ويلز أجدر بما هو أسمى. ثم إنك ترى أن هذا التمثال لا يسمو إلى هدوء وجمال هذه السّاحة الحديقة ذات الملامح المتوسطية. إنها المكان الأكثر متوسطية في الصويرة، وهي مدينة أطلسية. والفكرة - يستدرك - ليست لي، بل هي لجورج لاّاصَادْ. يأخذنا صمت ضاجّ ونحن أمام قطيع نوارس على البحر جنب الميناء. ننعطف يمينا ثم تسلمنا ساحة مولاي الحسن إلى متاهٍ رائقٍ. ليل الصويرة النزق الحرون.

في البدءِ كانت مُوكادُورْ

          الصويرة ذات الأسوار. هكذا فاسمُها الأصل السويرَة. سطت الصّادُ على السين فكان ما كان. ورغم أن الصاد والسين حرفان مهموسان رَخْوَيانِ فمويان، فإنَّ الأولى احتكاكية فخمة، والثانية احتكاكية مُرققة. مع السين لا تهتزّ الأوتار الصوتية، في حين ترتفعُ مؤخرةُ اللسان عند نطق الصّاد، لكونها أحد حروف الإطباق. يتقعر اللسانُ عند نطق الصاد فينطبق على الحنَك الأعلى. فخامة تليق باسم فخم: الصّويرَة. سطو الصّاد على السين في أسماء المدن المغربية أمر مألوف. وقد توقف دانيال أُوسْطاش عند هذا السطو في كتابه عن تاريخ النقود في المغرب.

          يرى بعضهم أن السلطان محمد بن عبدالله يوم أمر بإنشائها سماها الصويرة، لأنه أرادها على أحسن تصوير. بعض المؤرخين يرون الأمر كذلك لكونها البلدة المغربية الوحيدة التي بنيت وفق هندسة مضبوطة.

          في القرن السادس عشر، وتحديدا في 1506، وضع البحارة البرتغال الحجر الأساس لبلدة على الساحل الأطلسي، في موقع وسط بين سواحل المغرب الشمالية حيث جبل طارق، وسواحل المغرب الجنوبية حيث سواحل إفريقيا الغربية الموصلة إلى رأس الرجاء الصالح. سميت البلدة مُوكدُورَا، ومرّ الاسم بمراحل قبل أن يستقر على مُوكادُورْ.

          أغلبُ الظن أن الاسم تحريف، كما يذهب إلى ذلك كثير من المؤرخين والرحالة، وعلى رأسهم جيمس كري جاكسون صاحب أطول رحلة إلى الصويرة وأكادير وبلاد البربر، تحريف لسيدي مكدول، وهو وليّ صالح يرقد على مرمى حجر من مدينة الصويرة. وسيدي مكدول، تقول الحكاية، تحريف بدوره، لمكدونالدْ، وهو طبيب قبرصي جنحت به سفينته ثم غرقت في عرض الأطلسي قبالة الصّويرة ونجا من موت مُحقق، آواهُ أهْلُ المكان وعمل طبيبًا. بعد موته تحول قبره إلى مزار، ووضعت عليه قبة، نظير أعماله الخيرية. يستطيع الداخل إلى الصويرة أن يَرمُق ضريح سيدي مكدول عند المدخل الرئيسي للمدينة. ضريح عظيم البناية يعلوُه غبار وتحفه نباتات وشجيرات صارت تختفي شيئا فشيئا بفعل تطاول العمران وجشع الإنسان.

          قال محدثي: إن كانت مصر هبة النيل، فإن الصويرة هبة الغابة. فهذه الشجيرات شاهدة على أوقيانوس غابوي مدهش نعمت به الصويرة لقرون. لقد ذكر حسن الوزان، المعروف بليون الإفريقي صاحب الكتاب المعلمة «وصف إفريقيا»، أن هذه الغابة كانت تعج بالأسود والفهود والغزلان وما لا يعد من أنواع الطير. كما خصص الطبيب ابن البيطار فصلا مدققا للحديث عن شجرة الأركان وهي من مكونات غابة الصويرة. وشجرة الأركان شجرة ينفرد بها الجنوب المغربي عالميا. تتراءى للقادم نحوها شجرة زيتون، فإذا بلغها ألفاها غير ذلك.

          ترك سحر شخصية سيدي مكدول أثرًا في  المعتقد الشعبي في الصّويرة، حتى أن المرضى من أبناء المدينة والعوانس والمعوزين يتبركون حتى اليوم بكرامات هذا الشخص غريب المَحْتِد.

          عموما، ففي مثل هذه المسائل الإيثيمولوجية الباحثة لأسماء الأمكنة عن أصل أصيل، تتضارب التأويلات وتكثر الاجتهادات. الأمثلة أكثر من أن تعد، وفي كثير من الحالات يصل التأويل والاجتهاد إلى حد التعسف والاختلاق الفاضح.

          يبدو أن المكان الحالي للصويرة أُخلي عند نهاية القرن السادس قبل الميلاد ثم أُعيد إعماره عند نهاية القرن الخامس قبل أن يعرف استقرارًا بشريا موصولا منذ الملك جوبا الثاني في العقود الأخيرة من القرن الأول قبل الميلاد. وفي العام 42 بعد الميلاد، ضمت روما بلاد البربر إلى مملكة موريتانيا، فتم هجر الصّويرة مرحليا، قبل أن تدب الحياة فيها، من جديد، عند بداية القرن الخامس للميلاد. لن تستعيد الصويرة إشراقتها إلا عند مطالع القرن العشرين، وسيكون يهودها من وراء الإشراقة. بلغ عدد يهود الصويرة يومئذ، رغم صغر المدينة، سبعة عشر ألف يهودي.

عود الصندل، شمعدانات، بخور

          أسير من غير هدى، كل صباح، أطرق، لا ألوي على شيء، كدأبي كلما جئت الصويرة، ألج المدينة من أقصى شمالها، من باب دكالة، أذرع الأسواق الشعبية التي تستيقظ على مهل، أشْتَمّ روائح المدينة، وأتملى وجوه الصبايا الصويريات، فتيات بيضاوات منمنمات ذوات خصور نحيفة وعيون سود مرشوشة بزرقَةٍ، أخرجُ من باب السبع وألتقي المفكر المغربي بوعزة بنعاشر. بنعاشر أستاذ الأنثروبولوجيا، متخصص في الحضارة الإفريقية جنوب الصحراء وفي أدب الزنوجة، ومن مريدي الصّويرة الكبار. له كتاب عن المدينة بالاشتراك مع المفكر الفرنسي الراحل جورج لاّاصَادْ. يأخذنا الحديث بعيدًا إلى دور بعض الأقلام الغربية في التعريف بتراث الصّويرة الثقافي. جورج لاّاصَادْ فيلسوف وإثنولوجي وسوسيولوجي من المتخصصين الكبار في الفنّ الكناوي، وأحد أبرز هؤلاء. يقترح عليّ بنعاشر زيارة غرفة لاّاصَادْ في فندق شكيب، حيث كان يقيم كلما نزل الصّويرة. فندق صغير، غير مُصَنَّفٍ في زقاق ضيق شبه مظلم. نسأل موظفة الاستقبال فتصحبنا إلى الطابق الأول، حيث غرفة جورج. تقول لنا إن الراحل ما كان يَقبلُ، أبدا، النزول بفندق آخر غير شكيب. وحتى هنا في هذا الفندق، فإنه لم يغير غرفته يوما، بل أكثر من ذلك، تُضيفُ، فقد كان لاّاصَادْ يُهيئُ طعامَه داخل الغرفة. طريقة أخرى في تأكيد الذات انتماءها إلى المكان، أن تمارس أشغالك بيدك، إقحام الحواس في كشف أسْرار المكان.

          أودّع بنعاشر وأشرد قليلا، وقد ركد الهواجِرُ. أحاذي الكورنيش مسترقا النظر إلى أجساد مستلقية مستسلمة لخيوط شمس حنُون. أنعطف يسارًا جهة بنايات فرنسية صارت، الآن، مكاتب وفروعا لوزارات، ثم ها أنا في باب مراكش. في الساحة الفسيحة التي عندها تنتهي الصّويرة الحق لتبدأ الصّويرة التي فُرضت فرضا على الصّويرة. هذه الساحة مترامية الأطراف، التي تقام بها اليوم الاحتفالات الكبرى، كانت إلى عهد قريب مقابر إسلامية. على يميني ثانوية أكنسوس ذات البناية الملغزة وقد علتها كآبة وتظللها أشجار مُسِنّة ضخمة. أكنسوس هذا كان وزيرًا وعالمًا وشاعرًا عاصر سلاطين كبارًا كالمولى سليمان والمولى عبدالرحمن وابنه سيدي محمد، وأدرك شطرًا من زمن السلطان الأكبر المولى الحسن الأول. عارض في شعره الرائق شعراء من طينة مالك بن الريب التميمي وطرفة بن العبد، وله يد طولى في الكتابة النثرية. دفعته دسائس القصور إلى اعتزال الناس ومات في مراكش ودفن بجوار ضريح الإمام السهيلي؛ واحد من رجالات مراكش السبعة. ثانوية أكنسوس التي احتضنت حجراتها كثيرًا من النخبة الصويرية. ألتقي، فجأة، الفنان الفوتوغرافي العربي أمسكين ابن المدينة والعارف الهائل بتفاصيلها وثناياها وهو رجلٌ مِفْكَاهٌ مِفْرَاحٌ، ما تركَ مكانًا ذا بال، في الصّويرة، إلا أزارنا إياه. نمرّ من زنقة تطوان، ونحن في الطريق إلى المقبرة اليهودية، فنسخر من الجهل والبلادة اللذين جعلا مسئولين في زمن مَّا من تاريخ المدينة يغيرون اسم الزقاق من كورنوط إلى تطوان، وسوف ترى أن كورنوط هو مصمم المدينة. نعبر ساحة مولاي الحسن، الساحة الأكثر شعبية في الصويرة والميدان الأقدم فيها. نمرّ من أمام مقهى فرنسا الشهير الذي صار له وضع اعتباري في الكتابات حول الصويرة. نعبر دروبا ضيقة مظلمة ذات أسقف خشبية وطيئة لنجد أنفسنا أمام واحد من أفخم وأروع الإقامات في الصويرة. قال رفيقي: ها أنت ذا أمام سحر مغربي أثيل. دلفنا إلى داخل فندق الأسوار فاستقبلتنا مسئولة الفندق بابتسامة طافحة وطافت بنا أرجاء فردوس صغير. قالت مسئولة الفندق الباهر: مباشرة بعد الانتهاء من الأشغال الكبرى لبناء الصويرة، أمر السلطان محمد بن عبدالله ببناء منزل فخم لإقامة التاجر اليهودي ميمون بن إسحاق، مساعده التجاري المكلف المفاوضات مع القوى الداهمة. هذا الأخير، أي ميمون بن إسحاق، آثر أن يكون هذا البيت ذا أعلى سطح في المدينة لتتم فيه مراقبة الخطر الأجنبي المحمول على أمواج عاتية قد يبلغك رذاذها وأنت تسرح بنظرك من أعلى سطح هذه البناية الآسرة. كان البيت منذ ذلك الوقت إقامة فاخرة للشخصيات الاستثنائية عبر تاريخ المدينة. اشترى القنصل العام للمملكة المتحدة البيت عام 1913 وحوَّله إلى فندق عُرف لفترة طويلة بـ «فندق جونسون»، أقام به كثير من المشاهير عند مرورهم من الصويرة كأورسون ويلز وجيمي هندريكس. وفي عام 2006، آلت ملكية الفندق إلى رجل أعمال صويري أعاد إليه معماره الأندلسي المغربي الأصيل. غادرنا المكان وانطلقنا رأسا إلى المقبرة اليهودية، للوقوف على قبر إدمون عمران المليح. مررنا، عمدا، من حيّ الملاح. والملاح في المغرب هو الحي اليهودي، ونادرًا ما تخلو مدينة مغربية منه. هالني ما آلت إليه بنايات ودورُ هذا الحيّ، حيث استحالت ركاما وتحول المكانُ كله إلى خلاء ٍ بلقع بعد عمران وحياة. ولم يعد هناك ما يشير إلى وجودٍ آدمي نشط ٍ سابق بعد هجرات الساكنة اليهودية المتتالية منذ حرب 1948، وصولا إلى حرب أكتوبر، مرورًا بالعدوان الثلاثي على مصر ونكسة 1967.

          ويكاد الكتبيّ اليهودي جوزيف الصباغ الذي يملك مكتبة صغيرة في زقاق متفرع من ساحة مولاي الحسن يكون آخر يهودي في الصّويرة.

          دلفنا إلى المقبرة اليهودية، وهي تجاورُ في سكينة، المقبرتين الإسلامية والمسيحية. جلسنا إلى قبر إدمون هنيهة. قبر موضوع بعناية على بعد خطوة واحدة من سور عتيق يفصله عن بحر هائج على الدوام. أطرقتُ لحظة واستحضرتُ ما قاله لي إدمون عمران ذات لقاءٍ سريعٍ في الرباط عن معنى كلمة «الميعارة». إن المعنى العميق الحق للكلمة، يقول إدمون هُو: المكان حيث يستريح الأحياء. تركنا إدمون يستريح وغادرنا المكان فيما كانت شمس الصويرة تجاهد عياءً بينًا وهي على وشك غياب. صباح اليوم الموالي كان عليّ، حتى لا تظل زيارتي مبتورة، أن أزورَ الصقالة. والصقالة برج كبيرٌ ممتدٌّ، به منافذ وكوى تطلّ منها مدافع مصوبة فوهاتها جهة أمواج الأطلسي العاتية التي ترتطم بصخورٍ ناتئة تحيط بالصّويرة من جهتها البحرية في ما يشبه الواقي الطبيعي من خطر محدق. ارتبط اسم الصقالة، في تاريخ المغرب، بردّ العدوان والغزو الأوربيين خاصة من طرفْ البرتغال. فأنت لن تجد أثرًا لهذا البرج الدفاعي في المدن الداخلية المغربية، في حين يوجد برج بقصبة الأوداية في الرباط. برجٌ كبير بالاسم ذاته، وهو البرج الذي بناه السلطان سيدي محمد بن عبدالله، كما أن في سلا برجا مماثلا بالاسم ذاته بناه المولى عبدالرحمن بن هشام عام 1846م. كل ذات الشيء عن أسفي والجديدة وأزمور.

          لن تكتمل زيارة زائر الصقالة ولا غبطته إن هو لم يزر «بيت اللطيف». و«بيت اللطيف» هو البيت الحجري العتيق الملغز مربّع الشكل الذي يتوسطُُ هذا البرج الممتد، الذي صار منذ عقود ثلاثة المحترف الفني الرسمي للفنان التشكيلي المغربي الكبير ابن الصويرة حسين ميلودي. طرقت بابا خشبيا شبه متآكل، فانفتح على وجه بشوش. إنه الفنان عزيز بيدار صديق ميلودي وساعده الأيمن. طفق مضيفي يشرح لي كيفية تحول هذه البناية التاريخية الحميمة إلى محترف فني لميلودي، وما سر تسميتها. قال مضيفي: كان هذا البيت أيام السلطان محمد بن عبدالله مخصصا لقراءة اللطيف ليلة كل جمعة من الأسبوع، دفعًا لكل سوءٍ قد يصيبُ الصّويرة التي كانت، يومها، مهددة بفيضان لا يبقي ولا يذر. ثم إن شعار المدينة «بركة محمد» الذي نحته ميلودي نحتًا رائعًا عند مدخل الصّويرة الرئيسي هو من بنات أفكار السلطان ذاته الذي أوصى أهل الصّويرة بكتابته على أبواب بيوتهم. وتستطيع أن تقرأ العبارة، اليوم، على أبواب كثير من دور المدينة العتيقة. غادرنا المحترف للسلام على حسين ميلودي في مجلسه المسائي الأثير. بقي أن أخبرك أن أطوار فيلم «عطيل» دارت هنا في الصقالة، وأن السلطان محمد بن عبدالله احتفظ هنا بكسوة مقام إبراهيم.

ظِلاَل وَسَبْعَة أبْواب

          كاذب هو ذلك المنظر الذي تتراءى من خلاله الصويرة، وأنت آتٍ إليها من مراكش، ممتدة وشبه مستطيلة. الصويرة الحق لن تلجها إلا من أبوابها السبعة، باب السبع، باب مراكش، باب دكالة، باب العشور، باب الجهاد، باب البحر، وباب المنزه، ولستُ في حاجة إلى أن أوقفك عند الدلالة الرمزية للرقم سبعة.

          بلدة صغيرة في حجم الكف تلطم خدها الأمواج من جهات ثلاث وتحرسها الأسوار من كل الجهات. هي لا شيء من غير أسوارها، من غير أبوابها، ما يمنحه إياك الدخول من باب ذي رونق وأبهةٍ وسِرّ وغموض. إنك تلج مكانا لا كالأمكنة، عليك أن تتأهب وأنت تضع رجلك هنا وأن تقطع مع الذي سبق، رتاجٌ، وجنب الرتاج رتاج، سحر أبوابها الخشبية التي من رعشة يدٍ حنون، أبواب ترك عليها الزمن أثرًا، بصمات الدهور هنا، إنها الدّمنُ، إن شئت، لكن من دون ظَعْن، يد الإنسان وقد عطّرت المكان برائحة الزمن. أبواب عظيمة مقفلة بإحكام ووسطها بويبات صغيرة، هذه الأخيرة للاستعمال اليومي. أما الباب الكبيرة فَلِتشييعِ النعُوش. يفكر الناس لحياتهم ومماتهم في آن.

          أهل الصويرة، سعي دءوب وراء الرزق من غير جشع ولا تدافع أبدًا. كرم بادٍ لا تخطئه العين، سكينة رُوحٍ فَواحة، وما في دروب الصّويرة مَنْ أو مَا ينغّص لحظة الزائر والمقيم ويعكر صفو أيامهما. مَا مِن شحاذة في المدينة، ومَا من دليلٍ سياحي يعيدُ كتابة تاريخ المغرب على هواه. يتناثر الناس هنا وهناك كأنما وزعوا المدينة بالتساوي. التواءات مفاجئة مبهجة، الصويرة لعبة ضوء وظلال. هنا كثير من الهوس الياباني بثنائية النور والعتمة. ستكتمل متعتك، وأنت هنا، في الصويرة، إن كنتَ قرأتَ المعلم الياباني الكبير جونيشيرو تانيزاكي. قال محدثي: إن التشابه واضح بين هندسة الصويرة وهندسة باقي المدن الغربية التي كان كورنوط من وراء تصميمها. هندسة الصويرة ذات طابع غربي مسيحي. أقواس وأعمدة كأنها روما، أو كأنها كنيسة ممتدة. ستظل بكل هذه البساطة المدهشة مدينة بارعة في تلقين فن العيش.

          كورنوط مهندس فرنسي كان في خدمة بريطانيي جبل طارق. شيد الصويرة من بقايا الرمل والريح في قفر خلاء، كما كان يحلو له أن يقول. كورنوط هذا استعان به كثيرًا لويس الخامس عشر. ولقد أمضى ثلاث سنوات في بناء ميناء الصّويرة كما القصبة، حيث التصميم الأصل محفوظ في المكتبة الوطنية الفرنسية. ويرى كثيرون، ومنهم جورج لاَّاصَادْ، أن السلسلة الثانية من الأسوار لم تشيَّد إلا بعد ذهاب كورنوط، وقد يبدو ذلك جليا للعابر العجول، حيث يُلاحظ الفرق بين سور متقن متين وسور أقل متانة وإتقانًا. تَناسلتِ الأحْياءُ وَتجاورت بعد ذلك وفق ما فرضه التكاثر البشري، فصِرْتَ تلحظ تفريطا في الرونق الأصل للمدينة كلما خطوت من نواتها الأصل نحو أطرافها. وإن شئت تدقيقا، فالصويرة مدن ثلاث: مدينة يهودية؛ الملاح بؤرتها، ومدينة إسلامية تتشكل أساسا من القصبة وما جاورها، ومدينة أوربية أُنشئت زمن الحماية الفرنسية وبُعَيدَهُ. لكنك، وأنت هنا، تكاُد لا تأبه لمثل هذه التفاصيل. فالصويرة من السرِّ حتى أنها أذابت كل الفروق وصهرت كل التباينات. عمارتها ذاتُ خصوصية لا تخطئها العين. مع سيادة للونين الأزرق والأبيض وهما لونان يهوديان بربريان بحريان.

مَدينة كأنما هي قَصيدَة

          أهيم في الصويرة، أتذكر سطرا شعريا للشاعر جان كوبير: «آه يا طرقاتي وإيقاعها»، كأنني، وأنا أذرع هذه المدينة، أقرأ قصيدة. في الصويرة يتساوق إيقاع الجسد وإيقاع الحياة، هسيسُ الزمن وَزْنٌ، الغبطة قافية. التفات العين رويٌّ، الدروب الأسيانة أشطرٌ، الممرات الضيقة تفاعيل، روائحها زحاف، الذكرى فيها عِلّةٌ، تشابك الخطى توازٍ دلالي، تصادي النظرات توازٍ صوتي، ولك في الصويرة أكثر من بيت للتخلص. يتكاثف الوقت هنا ويتكاتف، كما في كل مكان شاقولي يُعَتِّقُ الذكرى، فتتداعى الأزمنة والأمكنة السحيقة، وتنقذف كنوز الحنين في جوفك. تُذكِّركَ الصّويرة لأنك نسيت. جلّ المدن المغربية ذات الأسوار والتي مرت من على سطحها عربات التاريخ تقاسم الصويرة هذا الميسم. الذين كتبوا عن هذه المدن، من الغربيين خاصة، رأوا فيها متاهة ولا ألذ، غموضًا ولا أروع، دروبًا تفضي إلى حيرة، أسوارًا تذكر ببيت الطفولة الخبيء. في هذه المدن بذخ رمزي يفيض عن جوانبها. تكتب عن مدينة كالصّويرة فتنكتب الجملة وفق تحركات الذات، التواءات، انعراجات، الحنين فواصل، الفرح نقط.

شبه جزيرةٍ يَحرسُها أرخبِيل

          تتناثر على مقربة من ميناء الصويرة جزر كثيرة تتفاوت أحجامها على شكل أرخبيل عرف بجزر الصويرة أشهرها جزر ثلاث. أنت، إذن، في شبه جزيرة يحرسها أرخبيل. يرى بعض المؤرخين والباحثين أن جزيرة سِيرْنيهْ المذكورة في رحلة حانون القرطاجني في القرن الخامس قبل الميلاد هي جزيرة الصويرة الكبرى التي تفصلها عن الميناء مسافة كيلومترين اثنين جنوبا. آوت هذه الجزيرة حانونًا وصحبه فترة من الزمن لوجود ماء صالح للشرب بها، ولنأيها، قليلا، عن رياح الألزيهْ الشرسة. ورياح الألزيه رياح تهبُّ بين دائرتي الانقلاب من الشرق إلى الغرب، وهي تهب، بانتظام، في الربيع والصيف. وهذه الرياح، إضافة إلى التيار الكناري البارد هما سبب اعتدال الجوّ صيفا في الصويرة. يفرّ إليها أهل مراكش، خصوصا، هربا من لهيب مدينة البهجة صيفًا. لهذا تعرف الصويرة، اليوم، في الأدبيات السياحية بمدينة الألزيهْ.

          أثبتت التحريات الأركيولوجية وجود ما يدل على حُضورٍ لحضارات قديمة في هذه الجزيرة، فينيقية ووندالية وخاصة رومانية. لقد تمّ العثور على ما يفيد استقرار الرومان بالجزيرة ردحا من الزمن. على هذه الجزيرة أرسى الملك الرومَاني جوبا الثاني معملا لاستخراج الأرجوان من المحار. وكان الأرجوان، عند الرومان، عنوان وجاهة اجتماعية. الفينيقيون مرّوا من هنا حيث اكتشف الأركيولوجي  الفرنسي أندريه جودان بقايا معبد فينيقي، كما تمّ اكتشاف بقايا فخار فينيقي وهو موجود حاليا بمعهد الآثار بالرباط.

          اتُّخِذَتْ هذه الجزيرة سجنا في فترات كثيرة من تاريخ المغرب، فقد كانت سجنا للسكارى حيث وجد الأسطول الفرنسي، الذي قصف الصويرة يوم 15 غشت (أغسطس) من عام 1844، بها سكارى أطلق سراحهم للتوّ، كما كانت معزلا للمصابين بالجذام والطاعون. ولمن شاء التوسع في معرفة ما فعله هذان المرضان الفتاكان، وغيرهما، بأهل الصويرة، يومئذ، مراجعة رحلة جونسون سالفة الذكر. وكانت هذه الجزيرة، كذلك، مكانا لتأديب الخارجين عن طاعة السلطان في فترات متباعدة من تاريخ المغرب الأقصى، إذ وجه إليها السلطان العلوي مولاي سليمان عام 1216 للهجرة الفَتَّان زيطان مُكبَّلا، كما بادر السلطان المولى الحسن الأول، بعيد توليته العرش، بالقضاء على فتنة قبائل فطواكة التي ثارت على القائد المخزني علي أُوحْدّو، وقبض على شيخ بلدة واوْدانُوستْ الذي حاصر دمنات، وعلى أولاده وأرسلهم إلى سجن جزيرة الصويرة مكبلين، وانتقلت أملاك الشيخ إلى المخزن. وحدث أن نقل السلطان محمد بن عبدالله (1757-1790)، وهو المعروف بمعاملة الأسرى المسيحيين معاملة حسنة، أسْرى هُولنديين من مراكش إلى جزيرة الصويرة لعدم تحملهم حرارة مراكش وخاطبهم: «إننا نعلم أن سكان المناطق الشمالية لا يتحملون مناخًا حارًا كمناخ مراكش، ولهذا أصدرنا أوامرنا حتى يتم نقلكم إلى ميناء مدينة الصويرة الساحلية».

          أقلَّنا إلى هذه الجزيرة مركب سياحي من الميناء وبعد هنيهة ألفينا أنفسنا فيها. جزيرة جرداء إلا من نباتات شوكية ولا أثر للشجر فيها. في الجزيرة مسجد صغير تداعت أركانه ورجل وحيد أعزل من كل سلاح أو ما شابه يذرع المكان جيئة وذهابا. تعشعش، بانتظام في هذه الجزيرة أنواع نادرة من الطيور، منها زُمَجُّ الماء وهو طائر بحري أبيض اللون، والغاقّ الأكبر آكل السمك، وأنواع ثلاثة من النسور التي تُقيم بالجزيرة فترةً من الزمن قبل استئناف رحلتها الطويلة بين الشمال الأوربي ومدغشقر، ذاهبة وآيبة. كما وضعت بالجزيرة فصيلة أرانب نادرة عام 1941.

وَحْدة في تَنوُّع ٍ

          في شرفة مقهى الطحلب الصغير، رفقة الأديب القاص أحمد بومعيز، ابن المدينة، وواحد من العارفين بتفاصيلها الملغزة، وأول من أصدر مجلة دورية عن الصويرة (سلام)، أمامنا على مرمى العين جزر الصويرة والشمس تنحدر في هاوية، شمس متثاقلة على وجهها غبش وفي خطاها فتور، شمس «لو كانت تدري ما المحاورة اشتكت إليك بعبرة وتحمحم». نتصفح، نحن الاثنين، العدد الأول من جريدة «سلام» وأبدي رأيي في إخراجها وموادها، فإذا بخبر رحيل الكاتب الصويري حمزة بن إدريس العثماني ينزل علينا. حمزة بن إدريس من أبناء الصويرة ومن القلائل الذين خصصوا إبداعاتهم لهذه المدينة. كتب ممتعة من قبيل «ابن الشمس» و«مدينة تحت رحمة الرياح: الصويرة منذ التأسيس حتى 1930» و«الفارس القادم من موكادور» و«موكادور لو تُحكى»، وهو، كما ترى، من المتمسكين بالاسم القديم للمكان.

          حمزة بن إدريس واحد من قلة صويرية أثرت الصويرة بكتاباتها. عبدالقادر مَانَا الذي أنجز أطروحة حول ركراكة، وحاييم زعفراني الذي أرّخ ليهود المغرب، وادمون عمران المليح سالف الذكر وأضمومة أخرى من الكتاب أدوا ما عليهم من دَيْنٍ تجاه هذا الفردوس البهيج. يحدثني بومعيز طويلا عن مسار الكتاب الصويريين، عن الراحلين منهم وعمن ينتظر، ويأخذنا الحديث إلى حضور الصويرة في الأدب الرحلي.

          والحق أن كون الصّويرة مدينة أطلسية جعل علاقاتها، عبر تاريخها المضطرب، علاقات عمودية لا أفقية، بُعدها عن البحر الأبيض المتوسط حيث دارت جل المعارك والاحتكاكات مع الحضارات الوافدة؛ العثمانية منها خاصة، جعلها مدينة إفريقية. وأنت تجول الصويرة لابد أن تتفطن إلى كونك تجول طقسًا إفريقيًا، فمآذن الصويرة إلى مآذن مساجد إفريقيا جنوب الصحراء أقرب. قل ذات الأمر عن أسواقها الصغيرة المبعثرة التي تؤثثها مواد توقظ في النفس حنينا جارفًا إلى وقع أخْفَافِ الإبل وهي آتية من تنبوكتو مثقلة بالذهب وريش النعام والعاج والعبيد والصمغ العربي، وهي المواد التي يتم تبادلها بمواد أوربية، إذ كان ميناء الصويرة، لفترة طويلة، يعرف بميناء تنبوكتو، منه تُصَدَّرُ خيرات السودان الغربي إلى أرويا، ومنهُ يُسَلمُ الوارد من كُبريات الموانئ العالمية كلندن وهامبورج وأمستردام. لقد منحت الصويرة عن نفسها انطباع المدينة المفتوحَة، تاريخًا، في بلد منغلق على نفسه، أدار على الدوام ظهرهُ للبحر. هكذا اعتبرها المفكر المغربي عبدالله العروي، وهو ذو النظر الثاقب، بوابة للحداثة المغربية لحظة تأسيسها. وجهُ الصويرة الأطلسي جعلها تنأى بنفسها عن كتب الرحالة والمؤرخين إلا في مَا نَدر. فأنتَ لن تجد لها ذِكْرًا عند ياقوت الحموي ولا عند القزويني وَلاَ اليعقوبي. في حين أشار إليها، باقتضاب، أبو عبدالله البكري صَاحِب «المُغرب في ذكر بلاد إفريقيا والمغرب».

          الرحالة الغربيون الكبار الذين زاروا الصويرة قلة قليلة. نأيها عن الطرق الكبرى والمسالك المعتادة لهؤلاء جعل اسمها نادرا الورود في الأدب الجغرافي الغربي كما العربي. الرحالة الفرنسي الشهير شارل دو فوكو صاحب الرحلة المسماة «التعرف على المغرب» أقام بها شهرين ولم يكتب عنها سوى فقرة جافة قبل أن يواصل مسيره نحو صحراء الجزائر ليغتال هناك يوم 11 مايو 1844. فهل ألهى سحر المدينة شارل دو فوكو؟

          وظلت الصويرة، طوال تاريخها، المنفتح على الغرب، محتفظة بميزة المدينة المغربية التقليدية بوجود ثقافة دينية تقليدية بها. كما أنها كانت، في فترات متباعدة، قبلة لطلاب علم القراءات القرآنية تضرب إليها أكباد الإبل من كل فج عميق. بعض من هذا التاريخ الحافل تجده عند الفقيه الصديقي في «إيقاظ السريرة في تاريخ الصويرة»، وعند الفقيه أحمد الركراكي في «الشمس المنيرة في أخبار الصويرة».

الصويرة مدينة التساكن والتعايُش

          الصويرة مدينة التساكن والتعايُش.. تتجاور الأجناس وتتشابك اللغات وتتداخل الألحان في تضامٍّ فريد، عرب وأمازيغ وأجانب من كُلِّ جنس، يهود ومسلمون ونصارى. بيضٌ وسود. وتعكسُ الأغنيةُ الصويرية هذا الخليط المتناغم والمنسجم من العقائد والألسن ِ ببراعةٍ. وأنت تجوسُ بين أزقتها ودروبها تلحظُ هذا التجانُس، في المأكل والملبس وفي كل طقس ثقافي. يلهو بك مقطع من الملحون، وَهوَ فَنّ أرباب المهَن التقليدية، قليلا، ليُسلمك إلى رنين أمازيغي حنون. ثُم يأخذكَ من رسغك إيقاع مغربي- يهودي مَدمُوغ بلثغة عبرانية، قبل أن تُجلسَك إليها نسمة من العيطة فواحةٍ ذات أريجٍٍ. وهكذا منحت الصويرة وأحوازها أسماء فنية لامعةً. ففي الملحون يكفي أن نذكر ابن الصغير الصويري وعبدالرحمن الصّويري.  وفي الأغنية الأمازيغية يقفزُ إلى البال اِسمان كبيران هما المرحوم محمد الدمسيري والرايس أحمد بزماوْن. وفي الأغنية اليهودية لمعت أسماء كثيرة ذات صيت كبير أنْهَتْ مِشوارها خارج المغرب جَرّاء الهجرات المتتالية لليهود. تعضّ الصويرةُ على اختلافها الباهر بالنَّواجِذ. ولتأبيد وتقوية هذا الاختلاف ليَصير أدَاة وَاحْدةٍ جعلت لكل مكوّنٍ مِن مُكوّناتها الإثنية والثقافية والبيئية موسما سنويا. موسم ركراكة، وهم طائفةٌ دينية نُسجت حَولها الأساطِير. موسم شجرة الأركان في بلدة تمنارْ. مَوسِم القديس اليهودي نَسيم بن نَسيم في أيت بيوض. مَوسم الزنوج في بلدةِ سْمِيمُو.. وَهلم جَرًّا.

          تبقى الموسيقى الكناوية وما أوجدته من تقاليد وما رسخته من قيم أهمّ ميسم فني صويري جعل الصويرة، منذ عقود، وجهة ثقافية سياحية عالمية. تراكمت طبقات زنجية على أديم هذه المدينة منذ زمن بعيد. فقد استقدم المرابطون يوم فتحوا السودان الغربي، وهو المُشَكلُ، يومئذ، من موريتانيا والسنغال ومالي وغينيا والنيجر الحالية، أفواجا من السودِ إلى المغرب كان لأحواز الصويرة حظها منها. كما جلب السعديون أعدادًا كبيرةً من سودِ جنوب الصحراء إلى منطقة حاحة المجاورة للصويرة للاشتغال في معامل السكر، ولا تزال مقبرة هناك تسمى «روضة العبيد». كما أن مؤسس المدينة محمد بن عبدالله استعان بسودِ مراكش فاستقدمهم إلى الصويرة للمساهمة في تشييد أسوارها الضخمة. قال مُحدِّثي: يكفي أن تعلم أن رحبة الحبوب الحالية، والرحبة في القاموس المغربي ساحة واسعة لبيع المواد الزراعية وغيرها، كانت سوقا لبيع العبيد إلى عهدٍ قريبٍ، وأن جزءًا كبيرًا من هؤلاء ظلَّ يتواصلُ بلهجات إفريقيا جنوب الصحراء حتى مطالع القرن العشرين، لتدرك مدى حضور المكون الإثني الإفريقي الأسود في النسيج البشري للصويرة. موسيقى كناوة مزيج من حنين وشوق وألم وغربة وانفصام. يصيحُ الكناوي مهتزًا نحو الأعلى، كما لهيب نارٍ، في ضوء ضَربات الطبل وإيقاع السنتير، وهي آلة محض إفريقية، وآلات يدوية حديدية ذات إيقاع حادّ، يبدأ بطيئا ليتسارع كلما اقتربت الذات الكناوية من لحظة الجذبة وهي لحظة تعادل لحظة الحلول عند الصوفي أو لحظة الإشراق؛ النيرفانا، عند فلسفات وعبادات جنوب شرق آسيا. تتحول حركات الجسد، عند الكناوي، إلى كلمات تتضامّ لتُشكل جملًا دالة، وَحْدَه الجَسدُ صار دليلًا وموئلًا. كان من وراء ازدهار الفن الكناوي، في الصّويرة، نشوء بورجوازية يهودية أبقت عليه وأقامت له سهرات وحفلات وأحدثت له مناسبات، فالشطحة الكناوية موسيقى علاجية. ثم ما لبثَ المدّ الشبابي العالمي الذي انطلق مع أحداث ماي (مايو) 1968 بفرنسا، أن نفخ أكثر في روح هذه الموسيقى لتصير على ما هي عليه الآن من سمُوقٍٍ وانتشار. وأنا أهم بوضع خاتمة لهذا الاستطلاع يرحل عن دنيانا المعلم الكناوي الكبير عبدالرحمن قيروش المعروف، فنيا، بباكو. واحِد من القلائل الذين أخرجوا الفن الكناوي من محليته ليصير فنًا عالميًا. جمعت باكو رفقة فنية مع جيمي هندريكس مطلع سبعينيات القرن الماضي وهو من لقبه بـ «طبيب الأرواح». انضمام باكو، لاحقًا، إلى المجموعتين الغنائيتين الشهيرتين، جيل جيلالة وناس الغيوان, أضفى على إيقاعهما صبغة كناوية زادت من انتشارهما. ومن المنارات الكناوية في الصويرة، اليوم، الفنانان محمود كينيا والشريف الركراكي.

          صبيحة يوم الأوبة إلى الرباط دلفت إلى ميناء الصويرة. قلت أشتم رائحة اليود قليلا. بحنوّ باد ٍ تلامس مياه البحر صخور الميناء في ما يشبه الارتطام. تحوم نوارس أربع ثم تحط على الجدار الإسمنتي السميك المتآكل. وعلى مقربة شمس طالعة أسيانة تشير بيد متعبة .. آن وقت الإياب.

          عدت وفي القلب غصة وجيوبي ملأى بالحنين.
          تُذَكِّرُكَ الصَّويرةُ لأنك نسيت.
-----------------------------------
* شاعر من المغرب.





صورة الغلاف





 





 





المجسم الفني الصخري الذي يميز مدينة الصويرة





برج الصقالة، حيث دارت أطوار فيلم عطيل





برج صقالة حيث تم تصوير «عطيل»





محمود كينيا الفنان الصويري الكناوي الكبير





بهو فندق الأسوار التاريخي





قبر الكاتب المغربي اليهودي الراحل إدمون عمران المليح





تمثال المخرج السينمائي العالمي أورسون ويلز





الكاتب المغربي الراحل إدمون عمران المليح





المفكر الفرنسي جورج لابا صار عاشق الصويرة





حضور الفن التشكيلي العالمي في الصويرة





بيت اللطيف، المحترف الفني للفنان المغربي حسين ميلودي





أرخبيل مدينة الصويرة





الميناء التاريخي الشهير لمدينة الصويرة





حكاية الصويرة .. حكاية الإنسان مع البحر





كم من أجانب مروا بجوار أهل المدينة وجميعاً رددوا «آه من طرقاتي وإيقاعها» مع الشاعر جان كوبير





أسوار الصويرة تحيط بها فكأنها قوقعة





شبه جزيرة الصويرة .. كأنما أنت في حلم