سميح القاسم وجهاد فاضل (ملف العدد)

لم أبق في إسرائيل بل بقيت في وطني

          حديث في الخاص وفي العام معاً، وفي الفكر وفي الشعر على السواء، وفي الشعراء أيضًا غابرهم وحاضرهم. جولة أفق مع الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم تتناول سيرته الذاتية والشعرية، وخلالها يروي علاقته برفيق عمره محمود درويش، وأسباب بقائه في إسرائيل وعدم مغادرته إياها إلى الخارج كما فعل محمود. يقول سميح القاسم في حوار أجريته معه أخيراً في القاهرة: «أنا لم أَبْق في إسرائيل بل بقيتُ في وطني، ولو فعل غيري ما فعلت لكان وضعنا مختلفاً للأفضل. إسرائيل أصغر مني سنّا فلا يُعقل القول إنني باقٍ فيها».

          عن علاقته بمحمود درويش يقول: «نحن شهداء قضية كبيرة. اختلفنا كثيراً في السياسة وفي الشعر وفي السلوك، ولكن صداقتنا استمرت صافية إلى النهاية. مكانته الشعرية ذروة ومكانتي الشعرية ذروة. ولكن المشكلة أن العرب يلحّون على الوحدانية، فإذا كان هناك إصرار على شاعر عربي واحد من الجاهلية إلى اليوم، فأنا جاهز»!

          أما أن محمود درويش ينظر نظرة «رحمانية»، أو «راكاحية» إلى الإسرائيليين، كما تقول، فالواقع أنني أنا مؤسس هذه الروح أو هذه المدرسة.

          إسرائيل تنتصر علينا نصراً مبينًا حين تنجح في تجريدنا من إنسانيتنا..  ماذا عن المستقبل؟ أنا أقولها دائماً: اليأس رفاه باهظ التكاليف، واليأس يعني الاعتراف بأن رؤياي خاطئة، وبأن مواقفي غلط، وأنا متشبث بعدالة قضيتي وصحة موقفي وسلامة عقلي ووجداني.

          في الشعر يميز سميح بين الحداثة والاستحداث، ولا يرى مانعاً من ترجمة سان جون برس، أو سواه من الشعراء الأجانب إلى اللغة العربية، ولكن أن نترجم تجربة شعرية فهذا يخرج عن الشعر.

          ويضيف: «أنا لا أحب أن أقلّد أحداً، ولا أريد أن أكون شكسبير الثاني ولا أراغون الرابع عشر».

          وهذا هو نص الحوار الممتع والطريف والجميل، وقد بدأناه بالسؤال عن أحواله...

          الحديث عن أحوالي يبدو وكأنه حديث عن أحوال خاصة، وأنا ليست لديّ أحوال خاصة وشخصية سوى حبوب حماية الذاكرة، والطعم ضد الإنفلونزا، وما إلى ذلك من الأدوية، وهذا هو «الخاص»... الخاص الحقيقي والأكبر هو ما يحدث لشعبي ولوطني ولأمتي. هذا هو الحديث الذي قد يشغلني ولا أعلم إلا ما تعلمه من حالة كارثية يعيشها الشعب العربي. هذا التمزق، هذا التشرذم، هذه الحالة من المذلة والمهانة بحيث أصبحنا أمة بالعدد فقط... كل شعوب الأرض تتصرف بنا وكأننا غير موجودين.

          لقد وصلت إلى قناعة وهي أن إسرائيل كأنها قامت لأجل إغاظتي شخصيًا. أنا أردّ على محاولة الإغاظة بإغاظة.  العنصر الأول في الإغاظة أنني باقٍ في وطني. لم أغادر رغم إغراءات كثيرة ودعوات كثيرة وطيبات كثيرة. لم أغادر لأنني أردت أن أردّ على الإغاظة بإغاظة. بقيت في الوطن. لا أدعي بطولة. أدعي الردّ على إهانة بإهانة، والإغاظة بإغاظة.

  • بقاؤك في إسرائيل.

          - بقائي في وطني. أنا لم أَبْقَ في إسرائيل، بقيت في وطني، في الرامة، في الجليل. أنا بقيت في وطني. لو فعل غيري ما فعلت، لكان وضعنا مختلفاً طبعا، ومختلفاً للأفضل. لقد بقيت في فلسطين، في بقعة من أجمل بقاع الأرض.

          إسرائيل أصغر مني  سنّاً. فلا يعقل القول إنني باقٍ في إسرائيل. إسرائيل باقية عليّ لأنها أصغر مني سنا. أنا باقٍ بقناعتي البسيطة لأن الوطن ليس جغرافيا فقط، وليس تاريخاً فقط. الوطن إحساس بالكرامة الشخصية الإنسانية، وأنا أدافع عن كرامتي هذه ولذلك بقيت في وطني.

          وأنا باقٍ لأن لديّ سلاحاً هو أفضل من أسلحة التدمير الشامل التي تحدثوا عنها في العراق، ويتحدثون عنها في سورية، وأخطر من السلاح النووي الإيراني المتوقع. لديّ قصيدتي، وهي سلاح فتَّاك كما تعلم. فتَّاك باليأس، فتَّاك بالمذلة، فتَّاك بالهوان، فتَّاك بالتشرذم، بالإقليمية، بالطائفية، بالقبلية، بالجاهلية الجديدة، وهي نظام الحياة العربية الراهن من المحيط إلى الخليج. أنا أحارب هذه الجاهلية الجديدة ولديّ هذه القدرة بقصيدتي. أنا محدود الإقامة، محدود الحركة، ولكن قصيدتي تفعل ما تستطيع.

  • وهل أنت متأكد من أن قصيدتك تُزعج إسرائيل؟

          - قبل سنوات، في السبعينيات، صودرت مجموعة شعرية لي واعتقلت. تجمع بعض الفنانين والكتّاب، من يهود وعرب، للمطالبة بإطلاق سراحي. وُجهت برقيات من أنحاء العالم، من سارتر وجان باييه، من شخصيات ثقافية عالمية، وأطلق سراحي. ناقد إسرائيلي يميني معروف قال: من الصعب أن ندافع عن قصيدتك، لأنها قصيدة جيدة. هم يعرفون أن هذه القصيدة تنطلق من الشخصي والذاتي الفردي لتكوّن وعيًا ووجدانًا وطنيًا وقوميًا. هم يعرفون أن قصيدتي تشجع طفلاً في النقب، وامرأة في المثلث وشيخًا في الجليل على التشبث بما تبقى من تراب. قصيدتي إذن تُزعج إسرائيل!

  • الجواهري يقول: ألج البيوت عليهم، أُغري الوليد بقتلهم والحاجبا..

          - نعم. هم يعرفون قصيدتي وأثرها جيداً. وبالمناسبة، فإن أول من ترجمني إلى العبرية كانوا رجال المخابرات ليبرّروا اعتقالي لجمهورهم. وأنا أشكرهم...

          ما يزعج الإسرائيليين في شعري هو أن الإصرار على أن هذا الوطن هو وطنك، وأنك تنتمي إلى هذا التراب، إذن أنا تنازلت وأقررت بيهودية الدولة.

          أمر آخر،إسرائيل لا تحسب حساب الجيوش العربية، ولا تحسب حساب السلاح النووي الإيراني. إسرائيل تحسب حساب المقاومة، وتحسب حساب القصيدة، وتحسب حساب المليون وربع المليون عربي (المواطنين) في الدولة العبرية. وهم يعرّفوننا كالتالي: طابور خامس، قنبلة بيولوجية، قنبلة موقوتة، خطر ديموجرافي، خلية سرطانية في جسم الدولة... هذه تعريفاتنا الرائجة في الإعلام الإسرائيلي وفي الوعي الرسمي والشعبي. هم لديهم شعار «يهودية الدولة»، ونحن الذين نعرقل تطبيق هذا الشعار. نحن عشرون في المائة من مجموع السكان. عشرون في المائة في أي بلد، لا يستطيع أحد تجاهلهم. لذلك كنت أحس بغضب غير معقول حين أسمع بعضهم في البلاد العربية يقول: هؤلاء تهودوا، هؤلاء «تأسرلوا» ... ويرفضون الاتصال بنا. يعتبرون زيارتي لبلد عربي تطبيعاً مع إسرائيل. يعتبرون حملي جواز سفر إسرائيليًا انحرافًا قوميًا مع الأسف الشديد، الإيرانيون اكتشفوا حينما دعيت لزيارة إيران، زمن محمد خاتمي، أن جواز سفري إسرائيلي. كان جوابهم أن جواز سفرك هو قصيدتك.

          أقيم في الجليل، في الرامة، عاصمة الزيتون، العريق والعتيق، من عهد الرومان، قرية جميلة جدًا، على سفح جبل حيدر الجنوبي، ثاني أعلى جبال فلسطين، قرية معروفة بتعدديتها، ولدينا سنّة ودروز وأرثوذكس وكاثوليك ولاتين وبرتستانت ولدينا أرمن.. منذ فترة زرت كنيسة مار مارون في بلدة الجشّ القريبة من قريتي ونقّطتها (من نقوط) لترميمها بمبلغ متواضع طبعا حسب إمكاناتي، واحتفلنا بوضع تمثال مار مارون في الكنيسة، واحتفلنا بأن الكنيسة كلّفت نحّاتًا درزيًا بنحت تمثال مار مارون.

  • وماذا عن المستقبل بعد أن قدّمنا تقريرًا عن الماضي والحاضر؟

          - أقولها دائما: اليأس رفاه باهظ التكاليف، لا أستطيع تسديد فاتورة اليأس. اليأس يعني الاعتراف بأن رؤيايّ خاطئة، وبأن مواقفي غلط. وأنا متشبث بعدالة قضيتي وصحة موقفي وسلامة عقلي ووجداني وفكري. لذلك أنا لا أيأس، أتعذب أحيانًا، أتألم بشراسة، لكن ليست هناك قوة في العالم تستطيع تجريدي من طاقة الحرية، من طاقة التصدي لليأس بالحرية، بوعي الحرية والحق والعدالة الإلهية والأرضية. لديّ قناعة بأن العرب سيشفون من عللهم الكثيرة، لديّ قناعة بأن الوطن العربي هو واحد، والشعب العربي هو واحد، وتعبير «شعوب عربية» تعبير سخيف وخطير ومفتعل، هو من إفرازات سايكس بيكو. أقاربي في سورية. أنا من عائلة تُدعى عائلة حسين، قاسم جدي، وعائلة حسين في سورية وفي لبنان وفي الأردن أكثر منها في فلسطين. لذلك أرفض التجزئة: أنت لبناني، أنا فلسطيني. أرفض هذا الكلام رفضًا تامًا. نحن أبناء وطن واحد، وشعب واحد. لا أدعو إلى وحدة الدبابات والطيارات، بل إلى وحدة العقل والمصالح المشتركة. لنتعلم من أوربا. الأوربيون خاضوا حروبًا دينية سياسية وطبقية أغرقت أوربا في الدم. لغات شتى، ثقافات شتى، عداوات مستحكمة تاريخيًا، ولكنهم اتحدوا وأقاموا دولة. الاتحاد الأوربي الآن هو دولة. لقد ضُربنا بالعمى. كيف نؤوب إلى رشدنا؟ من أجل كرامتنا الشخصية، على مستوى الفرد، على الأقل، ومتى نستطيع أن ننظر إلى الأوربي بعينيه؟ متى نستطيع أن ننظر للأمريكي، للزنجي، إننا بخير، نستطيع أن نكون بخير. نستطيع أن نكون أمة واحدة ديمقراطية تعددية، وأن نكفّ عن بذاءة الحروب الطائفية والمذهبية، وفي القرن الواحد والعشرين: سنّة وشيعة ودروز... أنا أكتشف الآن مذاهب لم أكن أعرفها من قبل: الزيدية والحوثية وأزيدية وما إلى ذلك. عندما ندخل هذا المستنقع لا نعود شعبًا. وعلينا أن نختار. والخيار الصحيح هو أن نكون شعبًا.. ليعبد المرء ما شاء ومن شاء. أي شيء لك عندي؟ حسابي عند الله وليس عندك. (لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)، (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، (وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء).

  • كثيرًا ما قيل إن القرن العشرين كان قرنًا شعريًا بامتياز: شوقي، حافظ، مطران، حركة أبولو، الشعر المهجري، حركة الشعر الحديث في الخمسينيات ومنها فرعها الفلسطيني، وصولًا إلى الشعر المنثور.. هل هذا القول في محله؟

          - كل إنسان يرى الزمن من منظوره الخاص. جورج أورويل قال إن القرن العشرين هو قرن سياسي بامتياز. أنا لا أحب أدب جورج أورويل ولكنه قال هذا الكلام وكان ذكيًا. إن القرن العشرين هو قرن سياسي بامتياز. لكن إذا عدت لتاريخ الشعر العربي تجد أن كل قرن، ومنذ الجاهلية، هو قرن شعري بامتياز. ليس صحيحاً أن القرن العشرين يمتاز بهذه الصفة، لكن لأننا أبناء هذا القرن، قدرتنا الرؤيوية أشدّ وأوضح. على مدار التاريخ، كل القرون هي قرون شعرية بامتياز لأنه ما من قرن لا في تاريخ العرب ولا في تاريخ أي شعب من الشعوب، إلا وشهد إما ثورات وإما طفرات شعرية مهمة.

          بالنسبة للشعر العربي من دون شك، القرن العشرون على المستوى السياسي قرن تحولات كبرى، بداية بسقوط الإمبراطورية العثمانية، سايكس بيكو، دخول الاستعمار الأوربي إلى بلادنا، دخول ما يواكب الاستعمار، من أدوات، الهدف منها خدمة الاستعمار، لكنها تخدم السكان المحليين أيضًا. قطارات خدمت الجيش البريطاني، لكنها خدمت أيضًا الشعب الهندي، هكذا في بلاد العرب. دخول الاستعمار إلى بلادنا جاء بأدواته، أدوات الاستعمار كانت أكثر حداثة من أدواتنا العثمانية، وأدخل حداثته. نحن لم نشارك فيها. نحن استحدثنا حداثة الغرب. دخلت السيارة إلى بلاد العرب. هي حداثة أوربية لأن الذين صنعوها هم الأوربيون. إنها استحداث عربي. الاستحداث يساعد أيضًا في تشكيل حداثة محلية لاحقا: في الصناعة، في المواصلات في الطباعة، وفي الحياة السياسية أيضًا. نشأت الأحزاب، الحركات الفكرية، ما سُمي بالتنوير العربي مترجماً عن الرينسانس.

          من الطبيعي أن ينعكس كل ذلك في الشعر. خرجنا من الشعر التقليدي بأبوابه وأغراضه المعروفة: الهجاء والرثاء والوصف والغزل والفخر والمدائح والإنشاد الديني والموعظة الحسنة. خرجنا من ذلك إلى قصيدة تتناول الحلم القومي المعيشي للشاعر وللبيئة التي يعيشها الشاعر . مواضيع جديدة في الأشكال القديمة، وهذا دفاع عن الأحزان العربية التي يزعم البعض أنها قيود، أقفاص، لكنها في الحقيقة أجنحة حرية، والوزن كما اللون في الفن التشكيلي. أنت محكوم بالألوان ومزج الألوان. من لا يتقن مزج الألوان لا يستطيع أن ينتج من الأحمر والأسود والأصفر لونًا جديدًا. مزج الألوان ضروري للرسم. تعلّم النوتة ضروري للموسيقار، واللغة ضرورية للشعر. ليست قيدًا ولا عيبًا. هي أدوات حرية. لكن إضافة إلى إغناء الأوزان القديمة بمضامين جديدة، عند شوقي والجواهري ومطران وحافظ وبدوي الجبل والأخطل الصغير وأمين نخلة وأبي القاسم الشابي. دخلت أيضًا أشكال جديدة: قصيدة التفعيلة. أعتقد أنني أضفت شيئًا آخر: تعدد الصدر، تعدّد العجز، في القصيدة العمودية. نشرت مجموعة من القصائد في البيت أكثر من صدر أحيانًا، وأكثر من عجز أحيانًا، وهذا اجتهاد جديد وجميل ومريح.

          ووصلنا إلى ما يسمونه قصيدة النثر. لماذا قصيدة النثر؟ لا أعلم، لأن النثر غير الشعر. لماذا لا تُسمى قصيدة؟ إذا أضفت النثر، أنت تخلق إشكالية. شعر غير موزون، شعر خارج الأوزان التقليدية. لكن لماذا قصيدة النثر؟

  • عند العرب هناك شعر وهناك نثر، فكيف نسمّي قطعة مكتوبة بأسلوب النثر قصيدة أو شعرًا، وهي نثر؟

          - لدينا تعبير النثر الفني أيضًا عند جبران والرافعي وغيرهما. لدينا من قديم الزمان النثر الفني، ولدينا الخواطر والوجدانيات، وكلها تقترب من الشعر. لذلك أحتج على التسمية: قصيدة النثر. من دون إضافة النثر أفضل. ولكن النثر نثر، كما تقول، والشعر شعر. شعر أو لا شعر. قد تكون قصيدة مكتوبة على وزن الطويل أو سواه وليس فيها شعر. قد تكون رسالة مكتوبة إلى صديق فيها شاعرية أكثر مما في قصيدة موزونة ومقفاة. هناك شعر أو لا شعر. الشكل يساعد، الشكل أداة، الوزن أو اللاوزن، القواعد، البلاغة، هذه أشياء مساندة وليست من الصميم.

  • منذ سنوات بعيدة وعبارة «الحداثة» متداولة في أدبنا وشعرنا المعاصر والحديث، ومنذ سنوات بعيدة، وبعض الحداثيين يعتبرون أن لا حداثة مع الأوزان الشعرية العربية التقلدية. فهل هذا صحيح بنظرك؟

          - الحداثة العربية تجسّدها قصيدتي وقصائد زملائي الذين يكتبون في مناخي. هذه هي الحداثة العربية. وما يُسمّى في النقد العربي الحداثة هو عملية استحداث، مرة أخرى. الاستحداث شيء والحداثة شيء آخر. أن تترجم قصائد سان جون برس وت. س. إليوت، جميل وضروري. لكن أن تترجم التجربة فهذا يخرج من الشعر.

  • يعني أن هناك شعراء عربا كبارًا وقعوا في الالتباس الذي تقوله؟

          - طبعا. طبعا. أنت تقول إنهم شعراء عرب كبار، وأنا أقول إنهم شعراء افتراضيون، غير حقيقيين. حقيقيون بالذائقة ما أسمّيه العالم ثالثية. ما هي الذائقة العالم ثالثية؟ ناس صدّقوا أنهم عالم ثالث وأن نموذجهم الأرقى هو في أمريكا أو في أوربا. لذلك يعتمرون الكاسكيت وربطة العنق، والبايب، ويعتقدون أنهم بهذا أصبحوا أوربيين. أنا لا أريد عربيًا يصبح أوربيًا. أريد عربيًا يبقى عربيًا حتى وهو يعتمر الكاسكيت وربطة العنق والبايب. قد أكون أنا، بالمناسبة، أول شاعر عربي اعتمر الكاسكيت، منذ طفولتي. لكن هذا يدخل في باب الشكل، تماما كما تزيّا الأوربيون بأزيائنا في مراحل سابقة، فلا مانع من أن نتزيّا بأزيائهم. هذا شيء جميل، ولكنه نوع من الاستحداث. أيضًا يجب أن نقرأ شعرهم، ولكن أن نقلّد شعرهم، فأمر غير مطلوب وغير مبرر.

  • يعني أنك تُخرج شاعرًا مثل أدونيس من فئة شعراء الحداثة وتدخله فئة شعراء الاستحداث لمجرد أنه قرأ شعر الفرنجة ونقل تجارب أصحابه.. هذا الشعر؟

          - أنا لا أريد أن أدخل في لعبة الأسماء والأمثلة. كل الشعراء أصدقائي وأحبهم ويحبونني. ولكن المحبة شيء، والشعر شيء آخر.. عندما نُخرج أربعين أو خمسين شاعرًا تعتبرونهم كبارًا في العالم العربي، فأنا أشك في أنهم شعراء أصلا. أنت تصف فلانًا أو فلانًا بأنه شاعر كبير، أنا أشكّ في أنه شاعر. لم يقنعني هذا الشاعر الكبير. لم يقنعني شخصيًا بذائقتي وبحداثتي العربية المستمدة من التراث العربي. لا توجد حداثة عربية من دون الشنفرى وامرئ القيس والمتنبي والقرآن الكريم والإنجيل العربي. لا توجد حداثة عربية من دون التراث. حداثة بالنسبة لماذا؟ بالنسبة للتراث. حداثة الأوربي؟ بالنسبة لتراثه. الحداثة بماذا تُقاس؟

ولكن بين بعض هؤلاء الشعراء الذين تغمز  حداثتهم وكفاءتهم الشعرية هم شعراء طالما رُشّحوا، أو رُشّح بعضهم لجوائز عالمية مثل جائزة نوبل.

          - أنا لا أقيم وزنًا لجائزة نوبل. وكما تعلمون، عُرضت عليّ جائزة نوبل. تعرفون من وراء هذه الجائزة: إسرائيل. عرضها الإسرائيليون عليّ، قبل إميل حبيبي. وبعد نجيب محفوظ مباشرة عرضوها عليّ ورفضتها.

          لا قيمة لجائزة نوبل إلا من الناحية المالية لا أكثر ولا أقل... عند مساومتي، لا مانع من أن آخذ الفلوس، وأن أترك الجائزة لسواي!

  • وتُدخل شاعرًا مثل محمد مهدي الجواهري في فئة شعراء الحداثة؟

          - طبعا. طبعا. ولا نقاش.

  • وإلامَ تستند؟

          - أنا لا أناقش في حداثة أخي وصديقي ومعلّمي - بمعنى ما - محمد مهدي الجواهري.  الحداثة ليست شكلًا فقط. الحداثة شكل ومضمون. هي حالة، هي روح. روح الجواهري روح حداثية. هو ابن هذا العصر، ابن هذا الزمن ابن انتفاضات العراق، ابن هبة الجسر، ابن المنافي والسجون، وابن التجربة العربية، وعبّر عنها  بأشكال قديمة تعلّمها في النجف. أنا لم أستعمل أدواته، استعملت أدواتي الخاصة. لكني لا أستطيع إخراج الجواهري من الحداثة العربية وإقحام شاعر افتراضي لا يعيش الحياة العربية، لا الماضي ولا الحديث ولا المستقبل، ويعيش على أوهام وكوابيس أنجلو فرانكونية لا تعنيني حقيقة.

          أنا أحب فرنسا والشعر الفرنسي والشعب الفرنسي والشعب الإنجليزي. جون بايرون أستاذ اللغة الإنجليزي في الثانوية كان يقول لي «أنت بايرون العرب».. أحبّ شعراء أوربا وأمريكا وروسيا واليابان، لكني لا أقلّدهم. أنا لا أحب أن أكون شكسبير الثاني ولا أراغون الرابع عشر..

          أراغون - بالمناسبة - كان صديقًا لي وقد تحدث عني مرارًا في الأوساط الثقافية الفرنسية. رافائيل ألبرتي، رينسوس، كانوا يحضرون أمسياتي ويعبّرون عن اشمئزازهم من الشاعر العربي الذي يريد أن يشبههم. والتعبير لأراغون في احتفال «الإيمانيتيه» في باريس قبل ثلث قرن، قال لي: «لماذا تريدون أن تشبهوني؟ أنتم أيضًا «حلوين»، فلماذا تصرّون على استعارة ملامحي؟ أنا أبحث عن شاعرية في شعر الأندلس العربي، وأنتم تريدون أن تشبهوني». قال لي أراغون ذلك بمرارة.

  • بموضوعية، أو بصورة باردة وللتاريخ، كيف تروي علاقتك بمحمود درويش؟

          - الحديث عن الصديق، أو عن الخصم، لا يمكن أن يكون بموضوعية أو ببرودة. أنت تطالبني بما هو غير وارد في الحسبان. محمود درويش هو أخي الأصغر. هو أصغر مني بسنتين، لكنه عاش كفرد من أفراد أسرتي، معي ومع أشقائي. ومع والديّ، كما عشتُ مع أمه وأبيه وأشقائه كأسرة. عشنا كذلك نصف قرن. أيضًا الحديث عن الصداقات الشخصية برومانسية مفرطة. اختلفنا كثيرًا لكني أتحدّى شخصًا من المحيط إلى الخليج يدعي أن محمود درويش أساء لي أمامه. وأتحدّى شخصًا من المحيط إلى الخليج يزعم أنني أسأت لمحمود درويش أمامه. اختلفنا، كأصدقاء، في السياسة، في الشعر، في السلوك.. أريد بداية أن أنفي أي لغط حول علاقتنا. يبدو أن من الصعب، عند كثيرين، توافر صداقة صافية بين شخصين. توافرت هذه الصداقة بالفعل بيني وبين محمود درويش. كنا أنا ومحمود صديقين وشقيقين. كنا نختلف تمامًا كما كنت أختلف مع أفراد أسرتي، وكما كان هو يختلف مع أفراد أسرته. هذا أمر طبيعي. وفي إحدى قصائدي التي أهديتها إليه، أيام الحصار في بيروت، وهي «تغريبة»، أقول: «وفكرت فيك وفكرّت فيّ لأن الشهيد صديق وفيّ»..

          نحن شهداء قضية كبيرة... والصداقة فيها وفاء وفيها محبة. وليس فيها أحقاد بالطبع ولا حسد

          ولا غيرة ولا صدام. مكانتي الشعرية، والحمد لله، ذروة لا أحد يقترب منها، ومكانته الشعرية ذروة لا أحد يقترب منها. فلماذا يجب أن تكون ذروة واحدة؟ لدينا ذرى، ومن قال إن بشارة الخوري الأخطل الصغير ليس ذروة لا يصل إليها أحد؟ وأمين نخلة ذروة لا يصل إليها أحد؟ وقبل الجميع شوقي أمير الشعراء؟ وبدوي الجبل، وأبوالقاسم الشابي، ونزار قباني؟

          لماذا هذا الإلحاح على الوحدانية؟ إذا كان هناك إصرار على شاعر عربي واحد من الجاهلية إلى اليوم، فأنا جاهز!

  • في «حالة حصار»، تشيع روح «رحمانية» - إن جاز التعبير -  في نظرة محمود درويش إلى اليهود، أو إلى الإسرائيليين.. يعاتبهم، يوبخهم، يدين سلوكياتهم إزاء شعبه، ولكنه لا يرفض وجودهم فوق تراب فلسطين. إنهم جزء من المشهد الفلسطيني عنده، وليسوا «عدوّا»، فما رأيك بهذه الروح «الرحمانية»، أو «الراكاحية» نسبة إلى حزبك وحزب محمود: «راكاح»؟

          - أنا مؤسس هذه الروح أو هذه المدرسة، أنا مؤسس نظرية أنسنة العدو في الشعر وفي الأدب. من أربعين سنة كتبت عن جندي عربي يقول عن عدوّه: «بادلتُه تبغًا بماء». أعطيته تبغًا وأعطاني ماء. أنا مع أنسنة العدو لأن تجريد العدو من الإنسانية يجرّدني أنا، عمليًا، من الإنسانية. أنا أقولها دائمًا إن إسرائيل تنتصر علينا نصرًا مبينًا حين تنجح في تجريدنا من إنسانيتنا. إذا نجحت في تجريدنا من إنسانيتنا تكون قد انتصرت علينا. وأنا لا أسمح بهذا. أنا رائد أنسنة العدو في الشعر العربي. عودوا إلى المصادر. محمود درويش كان أكثر من صديق وشقيق. لم يكن هناك من هو قريب منه مثل سميح القاسم. بعد وفاته ظهرت ظاهرة عجائز زوربا. كنّ ينتظرن وفاة المريض حتى يتم الانقضاض عليه ونهبه. هذه تسرق صحنًا، الأخرى تسرق منديلا، طاولة. يسرقن الميت. في العالم العربي تكررت ظاهرة عجائز زوربا عند موت محمود، وعند موت الجواهري، وموت كل شاعر أو فنان. فجأة ظهر أشخاص قالوا إنهم كانوا أصدقاء محمود درويش ولم يكونوا أصدقاء له. كان يحكي لي عن مدى ازدرائه لهم... أحدهم لم يتورع عن القول: «محمود درويش قرأ لي قصيدته على التلفون، وقد اقترحت عليه تعديلات وأدخلها».. قلة حياء، وتشويه، وإساءة لمحمود. لم يكن محمود مستعدًا لأن يسمع والدته أكثر من نصف دقيقة... أنتم تعرفونه وتعرفون طبعه ونزقه. هل كان يقرأ قصيدته لأحد على التلفون؟ وهل كان يمكن أن يأخذ بتعديلات عليها ويُدخل هذه التعديلات فيها؟ إنه انحطاط أخلاقي. عجائز زوربا.

          بعضهم طلع بنظرية. قالوا إن خروج محمود من الوطن ساعده في تحديث قصيدته، في تحديث صوته. اكتشف الحداثة. أولا، خلاصة الكلام: يا سميح القاسم، ويا سواه من شعراء وأدباء الداخل، ويا مليون وربع مليون فلسطيني في الداخل، اخرجوا كي «تحدثوا» أنفسكم. حتى تصبحوا حديثين، هذه أول «شغلة» مرفوضة. ثانيًا، عودوا إلى النقاد المحترمين، تجدون أنه ما من شاعر عربي من الجاهلية إلى اليوم، غامر بتجربته وجنّ وعمل ما عمل مثلي. وذلك بشهادة النقاد العرب الكبار.

          ثم من قال إن القاهرة وبيروت ودمشق أكثر حداثة من حيفا؟ لماذا؟ بيروت حبيبتي، وكذلك القاهرة، ودمشق. هذه بلادي. بيروت مدينتي، ملك شخصي لي. ولكن الحداثة موجودة في بيروت وحدها وغير موجودة في حيفا؟ حيفا أم الحداثة في الشرق الأوسط كله، فيها كل ثقافات العالم، وفيها الحرية والإبداع. كل شعر العالم فيها. أنا قرأت ماركيز بالعبرية قبل أن يُنقل إلى العربية. قرأت لوركا بالعبرية، نيرودا. ما المشكلة؟ لغة أخرى.

  • عندما تقرأ شعر محمود درويش ألا تجد أثراً للوركا فيه؟

          - لا غرابة في ذلك. لوركا واحد منا. كلنا أحببنا لوركا وتأثرنا به. لا يوجد شاعر عربي إلا وقرأ لوركا. لوركا كان يقول:  إنني أعتزّ بالدم العربي الذي يسري في عروقي. لا خطأ ولا خطيئة أن يحبّ شاعر شاعرًا آخر ويتأثر به. لا أحد منا منزّه.

          في مجموعة محمود درويش الأولى «عصافير  بلا أجنحة» تجد حضورًا قويًا لنزار قباني، ونزار شاعر عظيم، فإذا تأثر به شاعر في مرحلة الصبا، لا يجوز أن نعتبر ذلك خطيئة. التأثر والتأثير قانون معروف، وإيجابي في الوقت نفسه. لكن محمود درويش، وبسرعة، كوّن شخصيته الشعرية. بنى عمارته الشعرية، وشخصيته صارت شخصية محمود درويش، لا شخصية لوركا ولا شخصية نزار قباني.

          أنا أحب عمر أبوريشة من بين شعراء العرب المعاصرين. الجواهري لم يكن يحبّه، كنت أقول له: أنت تغار منه. فينفي بالطبع. ولكن عمر شاعر حقيقي.

          بدوي الجبل شاعر كبير ولكنه شاعر مُقلّ، شعره قليل، ولديه حشو أحيانًا. مثل سعيد عقل. سعيد عقل عنده بعض القصائد الجيدة جدا المشغولات بعناية، وما عدا ذلك لا تجد سوى التبن. تعرف أن هناك حَبّا (بفتح الحاء) وأن هناك تبنًا. السنبلة فيها حَبّ وفيها تبن. تبن سعيد عقل أكثر من حبه. وأعتقد أن بدوي الجبل مثله..

          تسألني، إذا كانت فلسطين على مدار القرن العشرين شاعرة أم ناثرة أم مناضلة؟.. هنا ندخل في حالة استثنائية فرعية. النضال والشعر حدثان عفويان وليس توأمة حتى. توأمة سياحية على الأرجح.

          لا يمكن أن تكون شاعرًا حقيقيًا إن لم تكن مناضًلا. كأنما حكمت هذه المعادلة حياتنا. ليس في جيلنا فقط، بل في الجيل السابق أيضًا. من مناضل اسمه عوض حسين (هو من منطقة نابلس) كتب على جدران السجن بفحمة هذه الأبيات:

يا ليل خلّي الأسير
                                        ليكمّل نواحو
رايح يفيق الفجر
                                        ويرفرف جناحو
ويمرجح المشنوق
                                        في هبّة رياحو

          وكتب قصيدة أخرى جميلة جدًا بفحمة أيضًا في السجن، يلتقي فيها الحوار بين الفصحى والعامية:

          ضنيت إلنا ملوك
          تمشي وراها رجال
          «تخسى» هيك الملوك
          إن كانوا هيك أنذال
          تيجانهم ما تصلحلنا نعال
          واحنا اللي نحمي الوطن
          ونضمد جراحو

          وفي الفترة نفسها كان هناك شعراء آخرون: جيل أبوسلمى وعبدالرحيم محمود، وإبراهيم طوقان. ارتبط عندنا الشعر بالنضال، أو الشاعر المناضل كأنما لا يوجد شعر محض. والحقيقة أن قصيدة الغزل إن لم تتضمن إشارة إلى الوطن والاحتلال والاستعمار لا تكون قصيدة غزل حقيقية.

          الشاعر يوسف الخطيب في بعض ما كتب ذكر أن توفيق زياد يركز على الطبقة، على الصراع الطبقي، على الشعر الطبقي. محمود درويش ركز على البعد الوطني. فلسطين. وسميح القاسم ركز على البعد القومي. وقد اكتشفت أنا في ما بعد أن يوسف الخطيب كان على حق. فعلا كان على حق. أنا ليس عندي فلسطين من دون موريتانيا ولبنان وسورية وكل بلاد العرب.

          عند محمود درويش تجد الجانب الوطني الفلسطيني برز عنده بقوة. توفيق زياد كان مناضلا طبقيا شيوعيا. كلنا كنا في الحزب الشيوعي طبعا ولكن لنحارب الصهيونية. توفيق كان بالحزب لأنه كان يؤمن بالشيوعية. كان شيوعيا. أنا كنت أختلف مع الحزب كل يوم. طبعا جمعنا في الحزب النضال الوطني والطبقي. العربي في إسرائيل كان - ولايزال - مضطهداً طبقيا أيضًا. مشاعرنا القومية والطبقية التقت. لكن عندي كان الحسّ القومي أقوى، عند محمود الحسّ الوطني، عند توفيق الحسّ الطبقي. والكل متداخل كما ترى، ولا تناقض.