ملف العدد: سميح القاسم.. شاعر صمود ومقاومة

 ملف العدد: سميح القاسم.. شاعر صمود ومقاومة
        

  • تتشكل الصورة الرائعة من زنزانة الشاعر الصغيرة التي تطل على الزنزانة الكبيرة
  • سميح القاسم شاعر غير محظوظ، لأن تسلط المحتل على حياته في صباه وشبابه امتد إلى تسلط القدر عليه في كهولته من خلال المرض العضال.

          قال لطفي السيد في تقديمه أمسية شعرية، في صوفيا، التقى فيها سميح القاسم ومحمود درويش بوفود عربية وبفلسطينيين يعيشون في الأرض المحتلة بعد 1948: «نحن الكتَّاب والشعراء في البلدان العربية، نكتب المقالات ونكتب الشعر في مكاتبنا المريحة أو في البيوت الدافئة، والكثيرون منا يهاجمون الأعداء والمعتدين متمترسين بهذه المكاتب والبيوت!.. على أن محمود درويش وسميح القاسم، وإخوانهما من الشعراء التقدميين المناضلين داخل إسرائيل، ليسوا فقط على خط النار، بل هم في داخل النار نفسها يجابهون المعتدين يوميًا، يتعرضون للمطاردة وللسجن وللموت يوميًا. إنهم بالفعل شعراء المقاومة، لأنهم بالفعل يقاومون ليس فقط بالشعر، بل بالعمل الكفاحي اليومي».

          هذا ما كتبه محمد دكروب في مقدمته لكتاب سميح القاسم عن الموقف والفن (بيروت، 1970).

          مثل هذا التقديم يصلح في اعتقادي أن يكون تقديمًا لشعراء المقاومة في كل مكان وزمان، لما فيه من خصوصية تميز الواقع المعيش لأولئك الشعراء، فحياتهم على سبيل المثال، لا الحصر، تختلف عن حياة الشعراء الرومنتيكيين أمثال وردذورث وكوليردج، حيث كانت منطقة البحيرات الجميلة في شمال بريطانيا التي طاب لهم التجوال فيها مصدر إلهام شعري حوّل جمال الطبيعة إلى جماليات فن خالد. حالة شعراء المقاومة تقف على النقيض، إذ عليهم أن يتحملوا عبئًا مضافًا إلى عبء العملية الإبداعية المطلوبة من عامة الشعراء، وهو عبء الواقع المرير الذي لا بد من تحديه وقهره تمهيدًا للتعامل مع عملية الإبداع ذاتها وحمايتها سلفًا من الانهيار. باختصار نجح شعراء المقاومة لأنهم استطاعوا الوقوف أمام أساليب القمع الوحشية، بداية، وقاوموا جبروتها. هذا سميح القاسم يزج به في السجن إثر عودته من صوفيا، لكن السلطات القمعية لم تستطع إسكاته، فعندما طلب سجين من سميح القاسم أن يقرأ بعضًا من قصائده (قصائد الشاعر)، قرأ له مقطوعة من خاتمة الحوار مع سجان:

          من كوة زنزانتي الصغرى
          أُبصر أشجارًا تبسم لي
          وسطوحًا يملأها أهلي
          ونوافذ تبكي وتصلي
          من أجلي...
          من كوة زنزانتي الصغرى
          أبصر زنزانتك الكبرى!،

          ثلاثة استذكارات متباعدة تعنّ على البال، الأول رواية فورستر (غرفة مطلة A Room with a View) التي تعرض للناظر من داخل غرفته مشهد الطبيعة الجميل في إيطاليا كناية عن الآفاق التي تتفتح أمام الناظر من خلال نافذة الغرفة، لتوحي له بتأملات تكبر من خلالها الحياة. وهذا ما يوضح ما أسلفناه من تباين في الواقع الذي يواجه شعراء المقاومة مقارنة بواقع مترف يتعامل معه فورستر فنيًا. أما الاستذكار الآخر فهو قدرة سميح القاسم على خلق تقاطع بين الخاص (حالته في السجن) والعام الحالة المعيشية لشعبه. هذا التقاطع هو الذي يثري شعر المقاومة ويجعله يتميز عن غيره، فالزنزانة الكبرى هي السجن الذي يقبع فيه شعبه، وهكذا تتشكل الصورة الرائعة من زنزانة الشاعر الصغيرة التي تطل على الزنزانة الكبيرة، حيث شعبه أسير فيها. أما الاستذكار الثالث فهو من أرشيف الشاعر الكبير باوند، عندما ألقى الحلفاء القبض عليه في أواخر الحرب العالمية الثانية بمعسكر قريب من بيزا في إيطاليا وُضع مؤقتا في قفص من حطام الطائرات، تمهيدًا لنقله كأسير إلى أمريكا بسبب موقفه المعارض لدخول بلده، أمريكا، في الحرب، وخصوصًا أنه اتهم بالخيانة العظمى، وكان عليه أن يتحمل في إقامته المؤقتة الظروف القاسية للطقس: حرارة شديدة في النهار وبرد قارص في الليل، وكان طلبه الوحيد آلة كاتبة مع ورق، حيث كتب في هذه الأثناء ما يعد أجمل شعر في الإنجليزية وهو أشعار بيزا (Pisa Cantos). في هذه الأشعار يرد بيتان من الشعر يشار إليهما على أنهما من أجمل ما قيل في الشعر الإنجليزي الحديث، ربما لما فيهما من تقشف لغوي وتكثيف للمعنى، وهما:

What thou lovest well remains
What thou lovest well is they true heritage

          وهذه هي الترجمة إن كانت قادرة على نقل المغزى:

          إن ما تحبه صادقًا هو الذي يبقى
          إن ما تحبه صادقًا هو موروثك الحقيقي

          كيف لا نستطيع أن نتذكر أن ما أَحبّه سميح القاسم بكل جوانحه هو الوطن، وأن موروثه الحقيقي هو فلسطين الوطن؟ إذ يبدو هذا واضحًا جليًا في شعره قديمه وحديثه، ومن قبيل التذكير فقط أود أن أشير إلى مقطوعة بعنوان «الرعب» كتبها عندما فرضت عليه سلطات الاحتلال الإقامة الجبرية:

          حين تغيب الشمس، قالوا، أغيبْ
          في حجرة من وطنْ!
          أُحرم، قالوا، من عناق الهمومْ
          بيني وبين القمر
          يرعبهم، أعلم، بث الضجر
          بيني وبين النجوم
          يرعبهم لمسي جذوع الشجر!

***

          وفي مغيب الشمس، قالوا: أغيبْ
          في حجرتي يا وطن،
          قالوا، أكون الغريب
          وأنت ملء البدن
          فمن ترى يحمل عبر الزمن،
          في قلبه، وجهك هذا الحبيب
          ومن مغنيك.. من؟!
          غيري أنا.. يا وطنْ؟!

          يرى النقاد أحيانًا أن شعر سميح القاسم يميل إلى الخطابة. ربما يكون هذا صحيحًا، لكن الخطابة في شعر القاسم، بل في شعر المقاومة بشكل عام (يستنثى من ذلك محمود درويش الذي طور شعره كثيرًا بعد البدايات) خصوصية أو بالمصطلح النقدي وظيفية (functional) لها دور أساسي في التعامل مع الواقع النضالي. لم يكن سميح القاسم في غفل عن هذا الشأن، إذ إنه وضّح أن الخطابة في شعر المقاومة لها ما يبررها، فشعر المقاومة كما يعتقد موجّه في الدرجة الأولى إلى الجمهور، إذ كانت طبيعة الأوضاع والمهمات، كما يلاحظ سميح القاسم، تفرض عليهم عفويًا أن يحافظوا في شعرهم الحديث «على الإيقاع والأوزان ذات التأثير الجماهيري». فشاعر المقاومة ينسحب عليه المصطلح الغربي (لماذا لا يكون العربي أيضًا؟) الذي يشير إلى الشاعر على أنه «شاعر القبيلة» (مفردة القبيلة هنا إيجابية). ولمزيد من الإيضاح يقدم سميح القاسم أنموذجًا من شعر توفيق زياد مخاطبًا أبناء الوطن المكافحين في قصيدته التي غناها مارسيل خليفة، والتي حفظها الصغار قبل الكبار وكأنها نشيد وطني:

          أناديكم
          أشد على أياديكم
          أبوس الأرض
          تحت نعالكم
          وأقول: أفديكم

          أما الأنموذج الثاني فهو قصيدة محمود درويش المعروفة «سجِّل أنا عربي»..

          والنموذج الآخر يقدمه من شعره من قصيدة «هذا الطريق»:

          «أبدا على هذا الطريق
          راياتنا بصر الضرير، وصوتنا أمل الغريق
          أبدا جحيم عدونا، أبدا، نعيم للصديق
          بضلوع موتانا نثير الخصب في الأرض اليباب
          بدمائنا نسقي جنينا في التراب
          ونرد حقلًا شاخ فيه الجذع، في شرخ الشباب
          أبدا على هذا الطريق
          نذوي فدى أشواق سنبلة
          على وعد العطاء
          ونصيح في عرس الفداء
          أبدا على هذا الطريق
          شرف السواقي أنها تفنى، فدى النهر العميق».

          لا بد أن سميح القاسم اعتقد أن شاعر المقاومة هو خطيب المقاومة بامتياز، وربما كان السلف من شعراء فلسطين حاضرين في ذاكرته وهو ينهج هذا النهج الخطابي في الشعر، هذه مطالع بعض القصائد لأولئك الشعراء:

          عبس الخطب فابتسم
          وطغى الهول فاقتحم
                              (إبراهيم طوقان)

          سأحمل روحي على راحتي
                              (عبدالرحيم محمود)

          انشر على لهب القصيد
          شكوى العبيد إلى العبيد

                              (أبوسلمى)

          ولو أردنا عبارة تلخص شعر سميح القاسم لقلنا إنه شعر «على لهب القصيد».

          غير أن شعر سميح القاسم لا يخلو من خطابة فجة لا ترقى إلى مستوى شعره ولا تمثِّل صوته الشعري في صورته الشمولية. هذه قصيدة «التعاويذ المضادة للطائرات!» من ديوان دخان البراكين (1967)، تجسم رؤية خطابية متدنية، إذ يقول فيها:

          يا أبي المهزوم... يا أمي الذليلة!
          إنني أقذف للشيطان، ما أورثتماني،
          من تعاليم القبيلة!
          إنني أرفضها تلك الطقوس الهمجية
          إنني أجتثها من جذرها،
          تلك المراسيم الغبية
          إنني أبصق أحقادي وعاري
          في وجوه الأولياء الصالحين
          إنني أوكل قاذورات ذلي وانكساري
          للتكايا والدراويش،
          وأقزام الكراسي النابحين!
          إنني أصرخ من قعر جحيمي:
          يا وحولًا لصقت في نعل تاريخي العظيم
          إنني أحكم بالموت عليك
          فأعدي كفنًا من جلد أنصاف الرجال!
          وإذا شئت نقوشًا، وصليبًا، ونجومًا، وهلال.
          ووصايا وابتهال.
          طرّزيها بيديك!

          لا يشفع لمثل هذه الممارسة سوى ردة فعل عنيفة وخيبة أمل قوية تكونت عند سميح القاسم إثر أحداث 1948، وحرب حزيران (يونيو) 1967؛ إذ يروي لنا في سيرته الذاتية أنه ولد مرتين (مجازًا طبعًا)، عام 1948 وهو ميلاده الحقيقي وعام 1967 وهو الميلاد الآخر (ميلاده الرسمي، كما هو معروف 1939).

          كم تمنيت أن تحذف القصيدة المذكورة أعلاه من الطبعات اللاحقة، لكي لا تشكل انفعالًا معاكسًا عند القارئ ومن ثم تثنيه عن قراءة شعر سميح القاسم. وكم من قارئ توقف عند هذه القصيدة ورأى فيها تناقضًا لموقف سميح القاسم من الجمهور الذي يجله ويضع مشاعره نصب عينيه، كما ورد أعلاه. وكم من قارئ عبَّر عن غضبه وهو يرى الشاعر يبصق أحقاده وعاره «في وجوه الأولياء الصالحين». إنه من غير الإنصاف أن يحمِّل الشاعر عسكر الإنقاذ والفولكلور الشعبي مسئولية المهازل التي حصلت في حرب فلسطين بالعام 1948. وإنه من الظلم بمكان أن يرى في «والده المهزوم» وأمه الذليلة سببًا ولو كان غير مباشر، في ما حصل.

          ولو نظرنا إلى الطريقة التي تناول بها محمود درويش الموضوع نفسه (مع أنني لا أميل أبدًا إلى مقارنة سميح القاسم بمحمود درويش، اعتقادًا أن المقارنة لن تنقص من قيمة سميح القاسم ولن تزيد من قدر محمود درويش) في قصيدتين من شعره: «كم مرة ينتهي أمرنا...» و«إلى آخري وإلى آخره» لرأينا الفرق.

          هذا مقطع من القصيدة الأولى:

          - هل تكلمني يا أبي؟
          - عقدوا هدنة في جزيرة رودوس،
          يا ابني!
          وما شأننا نحن، ما شأننا يا أبي؟
          وانتهى الأمر...
          كم مرة ينتهي أمرنا يا أبي؟
          انتهى الأمر. قاموا بواجبهم:
          حاربوا ببنادق مكسورة طائرات العدو.
          وقمنا بواجبنا، وابتعدنا عن الزنزلخت
          لئلا نحرك قبعة القائد العسكري.
          وبعنا خواتم زوجاتنا ليصيدوا العصافير
          يا ولدي!

          وهذا مقطع آخر من القصيدة الأخرى:

          يا أبي، هل تعبت
          أرى عرقًا في عيونك؟
          يا ابني تعبتُ... أتحملني؟
          مثلما كنتَ تحملني يا أبي،
          وسأحمل هذا الحنين
          إلى
          أوّلي وإلى أوله
          وسأقطع هذا الطريق إلى
          آخري... وإلى آخره!
          ومن منا لا يتذكر «خبز أمي» و«قهوة أمي» الدرويشيتين؟!

          وعودة إلى الإشارة للشاعر  باوند. لخص الشاعر مسيرة بطله أوديسيوس في ملحمة الأوديسا التي استقى منها مرجعيته لأشعاره المعنونة أناشيد Cantos، قائلًا «رجل غاب عنه الحظ» (A man of no fortune). وقد تنبه أنصار باوند من قراء ونقاد كيف أن ما قاله في بداية مسيرته الشعرية وفي التشبيه الأول من الأناشيد التي استمر في كتابتها عقودًا من الزمن، عن أوديسيوس انسحب على حياة باوند نفسه بعد اعتقاله في بيزا ووضعه في مستشفى سينت إليزابيث في واشنطن لمدة ثلاثة عشرة عامًا فيما يشبه الإقامة الجبرية.

          بالمثل، يمكننا القول أن سميح القاسم شاعر غير محظوظ، ليس فقط لأنه تعرض في حياته للسجن والملاحقة وفرض الإقامة الجبرية فقط، بل لأن تسلط المحتل على حياته في صباه وشبابه امتد إلى تسلط القدر عليه في كهولته من خلال المرض العضال. فكما تنبأ باوند بمصيره دون أن يدري أن ما خبأه القدر لبطل الملحمة انسحب عليه في النهاية.

          هذه قصيدة «أعرف من أين» من ديوان في «انتظار طائر الرعد» وهو نفس عنوان «ويكون أن يأتي طائر الرعد» (1969) الذي صادرته السلطات الإسرائيلية بعد أن اعتقلته بتهمة أن له علاقة بالفدائيين الذين نسفوا خطوط البترول في حيفا.

          أود أن أقدم هذه القصيدة «أعرف من أين» التي كتبها في أواخر الستينيات من القرن الماضي لتكون شاهدًا على حدس الشاعر ونبوءة الشعر التي تتخطى حدود الزمن. فكم من شاعر كتب مرثيته قبل الأوان.

          وجع المزمار البلدي
          قولوا... من أين؟
          ليلي يا ليلي يا عين
          آه يا ولدي!
          وجع المزمار البلدي
          من حلوة
          فارسها غاب
          ومن يومين
          عاد جواده
          والدم يسح على الصهوة
          فلمن ستزغرد مزهوة
          وتصب القهوة؟
          يا بيتا مال عماده
          يا قمرا ينشج في شرفه
          ويضيء وجوه الأطفال
          جثث الأطفال المرمية في أرض الغرفة
          ويعيد الموال
          عن نسر فقأت عينيه
          قبّرة مسمومة.
          أعرف من أين
          وجع المزمار البلدي
          يا قصرًا مهجورًا
          ترقص في ردهته البومة
          يا شاعر شعب، في شفتيه
          مرثاة ملغومة
          يا سرطانًا ينهش في كبد
          أعرف من أين
          وجع المزمار البلدي!

          لا يخفى علينا كيف أن الشاعر جعل المزمار البلدي المعروف شعبيًا «الناية» المصنوعة من الخيزران يغني  وجعه، ويستنطق ألمًا دفينًا ومرضًا عضالًا مختبئًا آنذاك في لغم موقوت.

          كلمات باوند في أناشيد بيزا تلح على الاستشهاد بها، إذ قال: «فقط العواطف هي التي تبقى على مر الزمن محفورة في الذاكرة».

          وبعد، فمهما نال المرض منك يا سميح فلن ينال شيئًا من عواطفك الباقية شعرًا على مرّ الزمن!.
------------------------------------
* أكاديمي من الأردن.

 

محمد شاهين*