من المكتبة العربية: بدايات الخدمة البريدية في الكويت

من المكتبة العربية: بدايات الخدمة البريدية في الكويت
        

عرض: أنور الياسين*

  • الشيخ مبارك الصباح صاحب الفضل في إقناع «كيرزون» بافتتاح مكتب بريد بالكويت
  • المكتب استمر في استخدام طوابع البريد الهندية .. وجاء تلبية لحاجة أهل الكويت الاجتماعية والاقتصادية

          صدر حديثًا بإخراج متميز كتاب بعنوان: «بدايات الخدمة البريدية في الكويت 1896-1923م مع نماذج مختارة من مراسلات عائلة الخالد المحفوظة بمركز البحوث والدراسات الكويتية»، تأليف خالد عبدالرحمن العبد المغني، والناشر: مركز البحوث والدراسات الكويتية، يقع الكتاب في حوالي 205 صفحة من القطع الكبير ويضم بين دفتيه ستة فصول.

          الفصول الستة التي يحتويها الكتاب هي: لمحة تاريخية، الخدمة البريدية قبل تنظيمها في الكويت، بريد الكويت تحت إدارة دار الاعتماد الإنجليزي، تطور العمل البريدي والدعوة إلى إشهارها رسمياُ، إنشاء مكتب رسمي للبريد، والأعمال البريدية أثناء الحرب العالمية الأولى، بالإضافة إلى مجموعة من الصور و(الملاحق) والمراجع باللغتين العربية والإنجليزية، وقد سبق المؤلف ذلك كله «بتمهيد» أوضح فيه رحلته مع هذا الكتاب والظروف التي واكبت إعداده حتى انتهائه منه.

أهمية الكتاب

          تتمثل أهمية هذا الكتاب في أمرين، أولهما استخدامه الوثائق الأهلية لإحدى الأسر الكويتية هي (أسرة آل خالد) في التاريخ لموضوع حيوي هو بدايات الخدمة البريدية في الكويت، وهو أمر يحدث لأول مرة بالنسبة لتراث أسرة من الأسر الكويتية التي حرصت على الاحتفاظ بوثائق وأوراق لها أهميتها التاريخية طول فترة زمنية طويلة تربو على مائة عام، وهذا الأمر يؤكد أهمية مثل هذه الوثائق والأوراق التي تحتفظ بها بعض الأسر.

          وثانيهما: أن صاحب هذا العمل الجاد اهتم بالتأريخ للخدمات البريدية في فترة تعود إلى ما قبل افتتاح مكتب بريد الكويت في عام 1915م، بنحو عشرين عامًا- وهي الفترة التي لم تحظ من قبل الباحثين والمهتمين بدراسة (وتوثيق) هذا المجال من قبل، وقد حاول الباحث ربط وتتبع كل المحاولات التي نادت بافتتاح مكتب البريد في الكويت، مع إلقاء الضوء على معوقات تأسيس مكتب البريد قبل التاريخ المذكور.

لمحة تاريخية

          في الفصل الأول من الكتاب يشير المؤلف إلى أن الكويت لم تكن بها دائرة رسمية (للبريد) قبل عام 1901م، فأغلب التجار كانوا يرسلون رسائلهم وطرودهم وحتى أموالهم إما عبر طريق السفن الشراعية، وكانت الرسائل تسلم بيد النواخذة (الربان) كأمانة، وكذلك مع المسافرين والبحارة، والذين كانوا يتعهدون بدورهم بتوصيلها أثناء رحلتهم لأصحابها عبر محطات خط سيرهم في الخليج، مثل البصرة والبحرين ومسقط وبوشهر أو موانئ الهند وعدن وشرق أفريقيا، وإما عن طريق اتصال التجار في الكويت بأقرانهم في نجد والحجاز والإحساء، فكانت الرسائل تبعث مع قوافل الإبل التى تأتي وتعود عن طريق الصحراء، حيث كانت الكويت بمنزلة «رئة» النشاط التجاري في الجزيرة العربية.

          وبذكر المؤلف أن السفن التجارية تعد أفضل وسيلة لنقل رسائل البريد على الإطلاق قبل مائة عام ويزيد فقد ساهمت في تنشيط الحركة التجارية عبر التراسل المأمون والمنتظم بين البلدان وعبر المحيطات المتباعدة، فمنذ عام 1862 انضمت منطقة الخليج العربية إلى نطاق المواصلات الحديثة، وذلك بالتزامن مع خدمة التلغراف (البرق) بإنشاء خط أرضي من كراتشي إلى جوادر، ومد خط إلى الفاو، ومع تسيير خط بحري لشركة الهند البريطانية للملاحة من بومباي إلى البصرة التي بدأت بتسيير سفينة كل شهر تقوم على نقل البريد، ومن ثم تزايد عدد رحلات السفن لتصبح مرة كل أسبوعين في 1868م.

الخدمة البريدية

          ينتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن «طبيعة» الخدمة البريدية قبل تنظيمها في الكويت، فيوضح أنه في اليوم الثالث من شهر سبتمبر 1901م وصلت أول باخرة بريطانية هندية واسمها «سيملا S.S.Simla»، حاملة البريد من إنجلترا ومن بوشهر، وغادرت إلى البصرة في صباح اليوم التالي.

          وفي نهاية أكتوبر عام 1900 تعرض ساع معه رسائل من البصرة مرسلة للشيخ مبارك الصباح بعد مروره على الزبير قاصدًا الكويت، تعرض للاختطاف من قبل خمسة من رجال ابن عون (من أهل الزبير) وقبضوا عليه مع الرسائل، وأرسل إلى ابن رشيد في منطقة الحضر، ولما سمع سيد طالب النقيب بهذا التصرف من «ابن عون» أرسل على الفور مأموره ورجاله إلى الزبير وطلب إليه ان يعيد الساعي وإلا فسوف يقتل مكانه، وقد عاد الساعي سالما مع الرسائل وغادر الزبير إلى الكويت في الحال.

          ويرى المؤلف أن ثمة حادثة سياسية كانت وراء إنشاء مكتب للبريد في الكويت، حيث أصبحت الحاجة إليه ملحة ولا مناص من طلبه والإصرار عليه والتسريع به من قبل الشيخ مبارك الصباح (تولى الحكم في عام 1896م).. وهذه الحادثة وقعت في 19 من يناير 1900م عندما زارت الكويت البعثة الألمانية لإجراء أول مسح لخط السكك الحديدية، والبحث من أجل مد المشروع المرشح من البصرة للكويت، حيث كان الحل الأمثل الذي توصل إليه «لايل» في تقديره لتجنب إعطاء الأتراك مبرر إقامة حجر صحي، وإزالة مخاوف الشيخ مبارك الصباح هو إجراء ترتيب جديد لسفن البريد عن طريق تشغيل سفينة إضافية للبريد، ومع مضي الوقت وجدت (حتى فترة البحث) 6 سفن تعمل في البحر باستمرار، وبذلك (كانت) تأخذ البريد من الفاو دون أن تتصل بميناء المحمرة.

          ويرى المؤلف أن طلب الشيخ مبارك الصباح إلى الوزير البريطاني لشئون الهند، بواسطة المقيم السياسي في الخليج الكولونيل «كيمبول»، يعد أولى المحاولات الرسمية لفتح مكتب بريد في الكويت.. ولكن هذا المطلب الصريح بفتح مكتب رسمي للبريد في الكويت لم يلق القبول من حكومة الهند البريطانية في بادئ الأمر، وفي ظل التطورات التي استجدت على الساحة السياسية منذ منتصف شهر ديسمبر 1901م، حدثت تداعيات إيجابية كان لها فيما بعد- أثر في سير الرحلات البحرية للكويت، حيث اشتد الصراع السياسي بين الشيخ مبارك وابن رشيد أمير حائل.

          ويعقب المؤلف على تلك الحادثة المشار إليها بأنها - بكل تفاصيلها وأبعادها السياسية - تؤكد حاجة الشيخ مبارك الصباح، بل عامة الناس إلى إنشاء مكتب للبريد في الكويت.. وان الحصار الذي فرضته القوات التركية أو القوات المعادية للشيخ مبارك خلال عام 1902م، جاء بثماره لصالح الكويت، وبخلاف ما تمناه لها أعداؤها، وذلك برد فعل بريطانيا السريع والمتمثل في دفع بواخر شركة الهند البريطانية للملاحة لتزويد الكويت بكميات من الأرز والمواد الغذائية الأخرى من الهند... وهذه العلاقة التجارية بين الكويت والهند بعد سنوات - ساعدت على توطيد علاقة التجار الكويتيين والتجار الهنود، حيث دعمت (كراتشي) عام 1948م موقف كل من الكويت ودبي في المطالبة بفتح مكتب للبريد، أسوة بمكاتب بريد الخليج، مثل بريد مسقط (مايو 1864م) والبحرين (أغسطس 1884م).

بريد الكويت بإدارة الإنجليز

          في الفصل الثالث من الكتاب يشير المؤلف إلى أن الشيخ مبارك الصباح طلب من «كيرزون Curcon» نائب الملك في الهند، في منتصف شهر نوفمبر 1903م أثناء زيارته الكويت، فتح مكتب للبريد بها، نظرًا للحاجة الملحة لرعاية المصالح التجارية للتجار، وفي 19 فبراير عام 1904م وافق وزير الدولة لشئون الهند على اقتراح اللورد «كيرزون» بالاستجابة لطلب الشيخ مبارك بفتح مكتب للبريد، ولكنه شرط ذلك بوجود تعهد مسبق على فتح مكتب للبريد طبقاُ لمعاهدة عام 1899م، وذلك لضمان المحافظة على سرية بنود المعاهدة، وأيضًا لقطع الطريق على أي محاولة تركية لفتح مكتب بريد لها في الكويت مستقبلًا. وقد أبدى الشيخ مبارك الصباح تجاوبا كبيرًاُ مع الكولونيل «كيمبول» وأعلن أنه سيضع بيتا تحت تصرف مسئول البريد، واقترح الكولونيل «كيمبول» في برقيته لوزارة الخارجية الهندية في كالكوتا بعد عودته من الكويت، أن يكون الشخص الذي سيتم اختياره مسئولًا للبريد رجلًا مسلمًا ولديه معرفة باللغة العربية.

          وقد تم بالفعل اختيار طبيب يشرف على البريد آنذاك، ويرجع المؤلف السبب في أختيار طبيب ليقوم بالإشراف على الخدمة البريدية إلى الرغبة في تقليص المصاريف الإدارية للوكالة الجديدة. وبالفعل كلف الطبيب المساعد الهندي داود الرحمن خان Doudur Rahman khan الذي جاء من بومباي، للإشراف على الخدمة البريدية، إلى جانب عمله الأساسي في الحجر الصحي التابع لدار الاعتماد البريطاني، وقد قرر له منحة مالية قدرها مائة روبية أجرة مضافة لراتبه الشهري نظير إشرافه على الخدمة البريدية، أما عامل البريد الهندي المرافق فكان يتقاضى راتبًا شهريًا قدره عشرون روبية، وأما المعتمد البريطاني «نوكس» فيعد المسئول المباشر عن الشئون البريدية.

          وتشير د. كالفير لي Dr.Eleanor Calverer كشاهدة على تلك الأحداث، قبل فتح مكتب البريد بعد قدومها للكويت من البحرين في يناير 1912م، إلى أن البريد كان يصل مرة في الأسبوع، وعندما يشاهدون العلم الأبيض يتوسطه صليب أحمر مرفوعًا على مقر شركة الهند البريطانية للملاحة الكائن في مبني مكون من طابقين مقابل الشاطئ في المنطقة الوسطى من المدينة، فإن ذلك الإجراء كان ينبئ عن وصول السفن الحاملة للبريد إلى الميناء، فيبعثون بساعٍ ومعه حقيبة بعد مضي بعض الوقت إلى مكتب البريد الكائن بمقر المعتمد البريطاني لجلب الرسائل والصحف والمجلات.

تطوير العمل البريدي

          في الفصل الرابع للكتاب يستعرض المؤلف تطور العمل البريدي والدعوة إلى إنشائه رسميًا، ولاشك في أن الاستقرار السياسي الداخلي والازدهار الاقتصادي الذي عاشته الكويت قيل الحرب العالمية الأولى انعكس على طبيعة الحياة الاجتماعية فدفع الرخاء الذي تمتع به الكويتيون إلى ازدياد حركة تجارتهم في الشحن والنقل والغوص والسفر، وبالتالي أصبحت الحاجة إلى الخدمة البريدية المنتظمة اكثر إلحاحًا من ذي قبل للتسريع في عملية الاتصال، واتمام الصفقات التجارية، وبيع اللؤلؤ، وتحويل الأموال للمستفيدين بها، وتلبية الطلبات، وقبل ذلك كله الاطمئنان على سلامة الوصول، مما شكل عبئا فيما بعد- على طبيعة العمل السياسي لدى المعتمد الإنجليزي هناك.

          ولعل رسالة المعتمد السياسي الكابتن «شكسبير» التي أرسلها إلى المقيم السياسي في الخليج بتاريخ 30 مايو 1910م بعد عام كامل من تقلده منصبه الجديد ليطلعه على حجم المراسلات في الكويت، تقدم لنا دلالة قاطعة على الحاجة الملحة إلى افتتاح مكتب للبريد بشكل رسمي مستقل عن مهام المعتمد حيث تشير إلى أن الأعمال البريدية التي بدأت في دار المعتمد، منذ افتتاحه قد توسع العمل فيها سنة بعد أخري إلى أن أصبحت دار المعتمد كأنها مكتب للبريد بالنسبة لعامة الناس في الكويت، بجانب طبيعة عمله الأساسي.

          ويرى المؤلف من قراءته للمذكرة المرفقة أن ناظر البريد العام سوف يمكنه تقدير التكلفة والدخل المتوقع بالأرقام، بالرغم من أن أهم مصادر الدخل تأتي من خدمات البريد المسجل للرسائل والطرود وبيع المغلفات البريدية وخدمة الحوالات المالية غير المعمول بها والتي لم تعط أي دخل.. ويشير إلى أن أهمية هذه الخدمات تأتي من واقع حاجة الناس إليها، ويبلغ عدد سكان الكويت ما بين 30000 و50000 نسمة (آنذاك)، وكانت توجد علاقات تجارية كبيرة مع الهند والبحرين وباقي مدن الخليج وأن العائد من الخدمة البريدية لن يكون أقل من العائد من مكاتب بريد بندر عباس والبحرين.

حلم أصبح حقيقة

          وفي الساعات الأولى من صباح يوم الخميس 21 يناير 1915م كان الكويتيون على موعد مهم في تاريخهم ومع حدث طال انتظاره لسنوات، وحلم أصبح حقيقة عندما تحققت رغبة ملحة كان ينشدها بإصرار الشيخ مبارك الصباح، ودافع عنها الكابتن «شكسبير» باقتناع وإصرار ووسيلة ماسة لاغنى عنها تربط التجار في الكويت بأقرائهم في بلدان الخليج والهند واليمن وغيرها من البلدان، وأمنية غالية تلبي الحاجات الاجتماعية والاقتصادية للسكان، وذلك عندما أخرجت الأختام البريدية التي ظلت حبيسة الأدراج لمدة أحد عشر عاماُ، منذ أن جلبها معه مساعد الطبيب «داود الرحمن» بمعية عام البريد بعد افتتاح مقر المعتمد البريطاني في عهد «نوكس» في نهاية عان 1904م ليعلن أن مكتب بريد الكويت أصبح مكتبا بريديا رسميا.
------------------------------
* كاتب صحفي من الكويت.

---------------------------------------------

ماذا بِوِسعِ الزَمَن المُدَّعي
                              مادمتِ في شِعري وَفي أَضلعي؟
لَن يُقطَعَ الدَهرَ لَنا أُلفَةٌ
                              مَهما يُفَرِّقنا الوَرى نُجمَعِ
نَقول لِلنّاسِ إِذا صَيَّحوا
                              ما قالَهُ البُلبُلُ لِلضِفدَعِ
شَبابُنا إِن يَفنَ يَبقَ الهَوى
                              نَفنى بِهِ كَالخَلقِ في المبدِعِ

إلياس أبوشبكة

 

خالد عبدالرحمن العبدالمغني