من المكتبة الأجنبية: صناعة الأفلام الوثائقية

من المكتبة الأجنبية: صناعة الأفلام الوثائقية
        

عرض: أحمد محمد حسن**

          بعد إخراجه لأكثر من مائتي فيلم وثائقي، يتجه الكاتب والمخرج الأمريكي باري هامب أستاذ مادة صناعة الأفلام الوثائقية، جامعة بنسلفانيا، ومدرس نظرية الفيلم الوثائقي وكتابته في جامعة نيفادا، في لاس فيجاس، إلى وضع خلاصة تجربته في كتابه «صناعة الأفلام الوثائقية: كدليل عملي لتخطيط وتصوير ومونتاج الوثائقيات». لا يضم الكتاب مجرد إرشادات للمصورين الهواة والمحترفين وحسب، ولكنه أيضًا يقدم خلاصات تجربته حين يضيف بخاتمة فصوله الثلاثة والثلاثين ملاحق الكتاب التي تتضمن بعضا من وثائق إنتاج الأفلام مثل كيفية وضع موازنة فيلم وفيلموجرافيا، سيناريوهات بعض الأفلام التي أخرجها بنفسه.

          يُكتشف سحرُ الفيلم الوثائقي عندما تمر الدقائق بسلاسة، ليصنع الفارق لدى مشاهديه، بين مرحلة ما قبل التعرف إلى عالمه، والمرحلة بعدها، حيث يضيف معرفة ومتعة عن واقع ما أو شخص بذاته لم نكن نعرفه، بهذا القدر مسبقًا.

          في الطبعة الثانية من «صناعة الأفلام الوثائقية» وجدت نفسي أنغمس في سحرية القص لدى المؤلف، إنه يذكرنا بأن مخرج الفيلم الوثائقي المميز هو أيضًا حكاء متميز. أنت كقارئ تتعرف على مصدر الإخبار والإلهام، ويأتي ذلك جنبًا إلى جنب مع دراسة الجانب التقني. سيبدأ الأمر دائمًا بالفكرة، فمع فكرة حسنة ومتماسكة في البداية، وبقدر من التقنية والدراية يمكن إنتاج فيلم وثائقي كبير.

          يخصص المؤلف المخرج الأمريكي باري هامب الكثير من المعلومات في هذا الكتاب للعلاقات: بين المخرج والموضوع، ومدير الطاقم الفني، ودور الجهات المشاركة في الصناعة، وهؤلاء جميعًا في مقابل «أناس حقيقيين»، ويتحدث مطولاً عن كيفية إجراء المقابلات، والانتهاء من الفيلم في نهاية المطاف لينتقل بعد ذلك إلى الجمهور المستهدف.

          يقول المؤلف في تقديمه لكتابه إننا في القرن الحادي والعشرين لم يعد بوسعنا أن نثق بأن «المشاهدة خير برهان» أو أن «الكاميرا لا تكذب أبدًا»، ونحن نعرف ذلك. فقد أظهرت رغبة صانعي الأفلام المنحازة أن الغاية للفيلم الوثائقي هي الواقعية، بينما نجد أن المحتوى قد لا يكون كذلك.

          تتحول الأكاذيب في الأفلام الوثائقية إلى حقائق، وكلما ترددت أصداؤها، استمر الناس في إعادة تقديمها حتى بعد ثبوت زيفها! والحقيقة أن ما يحدث من تلاعب بالناس والأحداث في المسلسلات التلفزيونية - لجعل العرض أكثر إثارة للاهتمام قد يحدث مع البشر والوقائع في فيلم وثائقي لنفس السبب.

          يقول باري هامب: «التاريخ يعلمنا أن الطريق إلى الفساد غالبًا ما يبدأ مختصرًا واضحًا، وأسهل قليلا للوصول الى هدفك. ولكنه منحدر زلق، وربما يكون ضحلاً في البداية ولكن خطورته تتزايد تدريجيا ليصبح من الصعب النزول».

زيف إنتاج برامج تلفزيون الواقع

          يتعلم جمهور المشاهدين المزيد عن طبيعة إنتاج برامج تلفزيون الواقع، وعلى الرغم من علمنا بأن ما يتم عرضه هو حقيقي، بمعنى أن ما يحدث أمامنا يحدث بالفعل، سيظل ذلك مجرد برنامج تلفزيوني. إنهم يدركون أن خداعا متفقا عليه مع «الأبطال» لتقديم أفضل قصة. شكوك معظم الناس حول تلفزيون الواقع، تجعلهم يختارون مشاهدة الأفلام الوثائقية التي تدعي أنها حالات واقعية. ولاتزال فئة تعتقد أن مصارعة المحترفين التلفزيونية هي منافسة يفوز بها الأفضل، ولكن هذه الفئة هي أقل مما سبق.

          أعتقد أن تصديق الناس لما يحدث قد تأثر بدخولنا عصر الصور الرقمية حيث يمكن تغيير صورة لأخرى بتقنية «مورف» وبسهولة. بالطبع كان من الممكن دائما تغيير الصور من خلال المؤثرات البصرية الخاصة، ولكن حتى وقت قريب كانت النتائج مكلفة وغالبا غير مقنعة تماما. لكن زواج صناعة الأفلام بالتكنولوجيا الرقمية جعل ذلك ممكنا ويسيرًا، وربما ينتج صورًا من أشياء لم تحدث بعد، ويأتي ذلك بضغطة زر واحدة فقط.

          الناس يرون ذلك كل يوم، في الإعلانات التجارية التلفزيونية، وفي مباريات كرة القدم، بل يرونها حين يقدم أحد الراحلين من نجوم السينما منتجات لم تكن موجودة عندما كانوا على قيد الحياة! الجماهير تعرف اليوم أن كل شيء ممكن، ونحن لا يمكن معرفة حقيقة ما نراه من خلال النظر في ذلك. الصورة لم تعد تتحدث بصدق تلقائي.

المظاهرات الرقمية

          في تاريخ الثورة الفرنسية حاولت الشركات المنتجة صناعة غوغاء سينمائية لمئات من الفلاحين، يقتحمون سجن الباستيل. مخرج الفيلم عبر عن سعادته بأنه استطاع تكرار صور 100 شخص ليصبحوا جمهورًا حاشدًا، الآن، تتكرر المجاميع رقميا حتى تملأ الفضاء كله. وتوفر التكنولوجيا التقنيات التي يمكن أن تتحول حفنة من أنصار فعالية أو مظاهرة إلى مجموعات حاشدة (مليونيات) لصالح أو ضد بعض القضايا في فيلم وثائقي سياسي أو اجتماعي.

          يتحدث باري هامب عن المصادر المتحيزة، وخاصة حين يتصفح أربع جرائد كل صباح: ليبرالية، محافظة، يسارية الوسط، يمينية الوسط، ويقول إنه على يقين بوجود التحزب في كل مجال تقريبًا من الخطاب العام، وأن الجميع بمن فيهم الخبراء غالبا ما يكونون على استعداد لقول أو فعل أي شيء تقريبا لتعزيز قضيتهم. دائمًا ما تتم مقابلة (وثائقية) بصفة خاصة للناس الذين هم على استعداد للكذب أو على الأقل تجميل الحقيقة. هذا يعني أن البحث عن الحقيقة لا يمكن ببساطة أن يعتمد على مقابلة الخبراء في الموضوع.

ظاهرة الاحتباس الحراري في الأعمال الوثائقية

          ويأخذ المخرج الكبير ظاهرة الاحتباس الحراري كحالة ممتازة لدعم وجهة نظره حول هذه النقطة، وهو يستخدمها كمثال عدة مرات في هذا الكتاب. أولا، لأنه موضوع معقد يجمع علماء من تخصصات عديدة وينطوي على الأبحاث التي أجريت منذ أكثر من قرن ونصف. ولذلك، فإن اتخاذ إجراء تحقيق شامل وثائقي للموضوع يكاد يتجاوز حدود معرفة المخرج نفسه، مما يتطلب المزيد من البحث، وعلى الأرجح من خلال مقابلات مع عدد من العلماء الموثوق بهم حول هذا الموضوع.

          كما أن ارتفاع درجة حرارة الأرض بشكل واضح مسألة مثيرة للجدل، ومعرفة ذلك يعتمد على من تسأل. على جانب أن هناك مجموعة من العلماء والسياسيين والصحفيين والملتزمين بموضوع الاحترار العالمي الذي يلوح في الأفق كأزمة ناجمة عن النشاط البشري، وأنه يتعين اتخاذ تدابير جذرية على الفور لمنع حدوث كارثة عالمية. شعارهم يبدو «يتفق العلماء على!» على جانب آخر هناك مجموعة مختلفة من العلماء والسياسيين وعدد قليل من الصحفيين الذين يوافقون على احترار كوكب الأرض أخيرًا، ولكنهم غير مقتنعين أن ذلك يشكل أزمة، أو أن العلاجات التي تم اقتراحها ستكون ذات فائدة كبيرة. قد يكون شعارهم «ليس بهذه السرعة». ويستحضر المؤلف كتابين لعالمين يدعم أحدهما فكرة مضادة للأخرى! ويستحضر ذلك الجدل المصاحب لإنتاج فيلم للمخرج ديفيس جوجنهايم، الذي قدمه نائب الرئيس الأمريكي الأسبق آل غور في محاولة لرفع وعي العالم حول ظاهرة الاحتباس الحراري،

          وما يقال عن فيلم وثائقي مخصص لظاهرة الاحتباس الحراري، يمكن أن ينطبق على أفلام أخرى تفتقر إلى الوثائق العلمية. وفي كثير من الأحيان يقال إن ما يضر بالمصداقية المبالغة. تماما كما يبين فيلم وثائقي عن الأضرار البيئية للاحترار، يقول لنا إذا ذاب النهر الجليدي في غرينلاند أو الجرف الجليدي في القارة القطبية الجنوبية الغربية فإن مستوى المحيطات سيرتفع بواقع عشرين قدما! ثم يظهر لنا ما ستفعله الفيضانات الناجمة بساحل فلوريدا وجزيرة مانهاتن.

          في الواقع، بيان آل غور عن ارتفاع مستوى سطح البحر هو على الارجح صحيح. حجم ذوبان الأنهار الجليدية يؤكد ذلك.ولكنها ليست كل الحقيقة، لأن ذلك لن يحدث بعد غد (كما في الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه)، ولكن في لحظة بين 1000و5000 سنة. هذا إذا حدث ذلك على الإطلاق.

الاستقطاب والجهل

          من نصائح باري هامب أن يتجنب المخرجون وصناع الأفلام الوثائقية الاستقطاب. خاصة في جلب المصادر الخاصة بالفيلم. يذكر المخرج مثالاً من أعماله عن فيلم يتناول قضية لم شمل جمهورية قبرص، وكيف قدم المسئول في سفارة جمهورية قبرص بالولايات المتحدة قائمة من الشخصيات السياسية للقاء معها، وكان معظمهم من الديمقراطيين، حيث كانت هذه هي السنة الأخيرة من إدارة كلينتون. وشملت الدراسة السناتور إدوارد كينيدي والسيناتور باربرا بوكسر، وكلاهما لديه الكثير من الأمور الإيجابية ليقولها عن جمهورية قبرص. ولكن الفيلم لم يكن ليفرج عنه حتى بعد وصول إدارة جديدة مقاليد الحكم، حيث كان يصنع في عام الانتخابات، وبالتالي هناك فرصة إحصائيًا أن الإدارة الجديدة ستكون جمهورية، ولذلك وجدنا أنه لا معنى لاستخدام اثنين من الشخصيات الحزبية الرفيعة التي سوف تنفر المشاهدين الجمهوريين تلقائيًا.

          غير الاستقطاب هناك الجهل بالموضوع، ولذلك يحث المؤلف صناع الفيلم الوثائقي على طرح الأسئلة بشكل دائم، والقراءة والدراسة، والتفكير في طلب معرفة متخصصة، وتفسير مواقف الفصائل المختلفة المشاركة.

          أسئلة القرن الحادي والعشرين الوثائقية ليست مثل (ذا ديلي شو)، أو (ليلة السبت على الهواء) حيث يمكن للمذيع أن يعلق من دون التثبت من الحقيقة. (برنامجان يماثلان برنامج باسم يوسف (البرنامج) الذي يعلق بسخرية على الأحداث الجارية). فالفيلم الوثائقي لا يمكن أن يكون فقط حول ما يعلمه الجميع. الجميع يعرف أن ظاهرة الاحتباس الحراري مشكلة، وليست هناك حاجة لتقديم فيلم يقول بذلك. ولكن فيلما وثائقيا حول هذا الموضوع يجب أن يكون دقيقا وصادقا، وكاملا. لأن ذلك الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله. وأيا كان الموضوع الخاص بك، فإنك إذا كنت تتلاعب بالحقائق، وتستخدم مصادر متحيزة، وتستخلص استنتاجات خاطئة، أو كاذبة، فسيكون هناك الطرف الآخر الذي يعود ليقول ما هو صواب ويهاجم مصداقيتك. يجب البحث عن الحقيقة الوثائقية.

          وهكذا بين الفصل الأول (يبدو سهلا جدا) عن كيف يبدو الفيلم الوثائقي مجرد تصوير يعاد عرضه على الجمهور، إلى الفصل 33: (الوصول إلى هناك) لكيفية البدء في تصوير الفيلم الوثائقي، رحلة ممتعة تعرف بماهية الفيلم الوثائقي، وتفصله عما سواه ( تلفزيون الواقع والوثائقيات الروائية والإعلانية)، وتاريخه وتطوره وخطوات إنتاج الأفلام الوثائقية (فيلم وثائقي للأحداث وقت حدوثها يتطلب التصوير، والصبر، والمثابرة)، فكل ما لم تسجله الكاميرا لم يحدث أبدًا.
------------------------------------
* كاتب ومخرج أمريكي.
** كاتب من مصر.

-----------------------------------------------

ماذا عَلى الحُبِّ إِذا لَم يُفق
                              هَل وَعَتِ الخَمرَةُ حَتّى نَعي؟
رَأَيتُني شَيخاً مَديد الرُؤى
                              مُتَّصِلَ السالِفِ بِالمزمِعِ
عَلى فَمي أُنشودَةٌ لا تَني
                              وَنَغوَةٌ خَضراءُ في مَسمَعي
أَعيشُ في الذِكرى بِغَيبوبَةٍ
                              كَما يَعيشُ الطِفلُ في المرضعِ
طيورُ أَحلامِيَ وَحيُ الهَوى
                              مِن حُوَّمٍ حَولي وَمن وُقَّعِ

إلياس أبوشبكة

 

باري هامب* 
  








آل غور في فيلمه الوثائقي عن ظاهرة الاحتباس الحراري