اللغة حياة: ليس من الذكاء تخطئة كلمة غَباء

   اللغة حياة: ليس من الذكاء تخطئة كلمة غَباء
        

          بعض المشتغلين باللغة عبَدة للمعجم، فما وجدوه فيه فهو الصواب الملزِم، وما لم يجدوه فهو الخطأ المحرَّم، وهذا قد يهون أمام نهيهم عن استعمال ما يشير المعجم إلى كونه قليلاً أو لغة خاصّة أو صيغة تفرّد بعض اللغويّين بإقرارها، ولو كان هذا القليل أو الخاصّ أو الصادر عن تفرّد هو الاستعمال الغالب اليوم، والممتدة جذوره إلى أكثر من ألف سنة.

          سيفاجأ القارئ أنّني أتكلّم على المصدر «غَباء» الذي طفق أحد المهتمّين باللغة يخطّئ الصحافيّين والمذيعين والممثّلين الذين يستعملونه. وقد سبقه إلى ذلك أحد المصحّحين المؤلّفين في الأخطاء الشائعة، مع أنّه غير اختصاصيّ في الأدب واللغة، فزعم أنّ الغَباء هو ما خفي من الأرض وما ارتفع من الغبار، موحياً أنّنا إذا أردنا معنى القصور العقلي، نقول غباوة أو غبا. لكنّ من حسنات مؤلّف آخر في الأخطاء الشائعة أنْ ردّ هذا الزعم مشيراً إلى معان أخرى للغباء، وأورد عبارة لسان العرب: «غبيَ الرجلُ غباوةً وغَباً، وحكى غيره: غَباءً، بالمدّ». والحقيقة أنّ ابن منظور عرض لرأي أبي عليّ الفارسيّ في أن مصدر غَبِيَ هو الغباوة والغبا، وزاد أنّ غير أبي عليّ ذكر مصدراً آخر هو الغَباء. وهذا ردّ كاف، مبدئيّاً، لدحض المخطّئين، ويغنينا عن مناقشتهم، لكنّنا سنعرض، مع ذلك، للاستعمال أولاً، ثمّ للقاعدة الصرفيّة التي صيغ بمقتضاها مصدرا غَباوة وغَباء ثانياً، فالفعل ومصدره لا يخرجان من فراغ، بل هما نتاج عادات لغويّة راسخة.

          الملحوظة الأولى هي أنّ المصدرين قليلا الاستعمال قديماً، ولم نجد لهما أثراً في القرآن الكريم ولا في الحديث الشريف، ولا في ما قرأناه أو راجعنا فهارسه اللغويّة من الشعر الجاهلي والأمويّ والعباسيّ، سواء في الدواوين أو في الموسوعات الأدبيّة واللغويّة مثل حَماستَي أبي تمّام والبحتريّ، وكتابَي الأغاني والعِقد، وخزانة الأدب للبغداديّ. ولعلّ أقدم نصّ ظفرنا به هو للجاحِظ، المتوفى سنة 255 هـ، في رسائله وفي كتاب الحيوان، يليه نصّ آخر للطبريّ، المتوفى سنة 310 هـ، في تفسيره. لكنّ العرب أكثروا في المقابل من استعمال كلمة حُمق ومرادفتيها أُحموقة وحَماقة؛ وبين الغَباء والحمق فرق؛ فالحمق هو اضطراب عقليّ كالغباء، لكنه يتبدّى في ضعف الرأي، ويفضي إلى سلوك غير متّزن؛ على حين أنّ الغباء يظهر في صعوبة فهم الأشياء واستيعاب الكلام والقدرة على معالجة الأمور، وقد يكون الإنسان ذكيّاً لكنّ فيه حمقاً، أي سوء تصرف؛ حتّى إنّ الأديب المشهور مصطفى صادق الرافعيّ اعترف أنّ فيه شيئاً من الحماقة، مع أنّه من كبار المفكّرين. فالغباء ضدّ الذكاء، والحمق ضد التعقل والرشد.

          هذا يعني ببساطة أنّ مفهوم الغباء متأخّر، ولعله نشأ بسبب التيارات الجديدة التي طرأت على الفكر العربيّ في العصر العباسيّ، وكان فيها كلام على العقل وما يتّصل به من قدرات، وما يعتريه من عيوب. وفي الكلام على الغباء تقدّمٌ في الفهم النفسانيّ للتفكير؛ وهو يقع، في أرجح الظنّ، بعد زمن الاحتجاج اللغويّ، وهذا يمنح المستعمل الحديثَ بعضَ الحريّة، لأنّه يبقيه خارج حدود التقييد والمنع الصارم الذي يفرضه بعض المتشدّدين في اللغة، ويضمن له حق استخدام القواعد والأعراف اللغويّة التي تضبط أساليب الاستعمال، على طريقته، شرط أن يتّبع منهجاً علميّاً صحيحاً.

          فماذا فعل الجاحظ، وماذا فعل الطبريّ؟ لقد استعمل الجاحظ كلمة غباوة نحو عشر مرات في كتاب الحيوان، ونحو أربع مرات في رسائله، من غير أن يستعمل كلمة غَباء أبداً. أمّا الطبري فاستعمل في تفسيره كلمة غباوة مرّة واحدة، وكلمة غباء نحو خمس عشرة مرّة؛ ويدلّ ذلك على تفضيله لصيغة غباء. وغنيّ عن القول إنّ الطبري لغويّ من الطراز الأول، وتفسيره مرجع في اللغة، ويُعَدّ من أهمّ التفاسير، إن لم يكن أهمّها.

          لكن كيف اشتقاق المصدرين؟ إن القاعدة الصرفيّة تقول: إذا تطرفت الواو والياء بعد ألف زائدة تُبدَلان همزةً، ومن ذلك إبدالهما في وزن فُعال وفَعال وفِعال؛ فدُعاء، مثلاً، مبدَلة من دُعاو (لأن وزن فُعال من فعل دعا يدعو هو في الأصل دُعاو، وليس فيه همزة)؛ وشقاء مبدلة من شقاو (لأنّ وزن فَعال من فعل شقيَ يشقى، هو شقاو، فأصل الفعل شقِوَ يشقَوُ، وهو كسابقه لا همزة فيه)؛ وبِناء مبدلة من بِناي (لأنّ وزن فِعال من فعل بنى يبني هو بِناي، وهو أيضاً خلو من الهمزة). ففَعال من فعل «غَبِيَ» هو غَباء، كشَقاء من فعل شَقِي، وبقاء من فعل بَقِي، وخَفاء من فعل خَفِي؛ فاشتقاقه قياسيّ.

          إلا أنّ الإبدال في وزن فعالة (بفتح الفاء وضمّها وكسرها) يختلف، لأن التاء فيه كالأصليّة، فلامه كالمتوسطة، ولا يقع عليها ما يقع للمتطرّفة من إبدال، بمعنى أنّ حرف العلّة الأخير منها يبقى على حاله، فنقول في فَعالة وفِعالة من فعل دعا: دَعاوة ودِعاوة (ولم يشتقوا منه دُعاوة، ويجوز أن تقلب الواو ياء في دِعاوة فتصبح دِعاية للتناسب بين الياء والكسرة)؛ ونقول في فَعالة من فعل شَقِي: شَقاوة؛ ونقول في فِعالة من فعل بَنَى: بِناية. وفعل غَبِي مثل فعل شَقِيَ فمنه غَباوة، فكلا الغباء والغباوة قياسيّان.

          وهنا قد يُردّ بأنّ العرب لم تستعمل كلّ اشتقاق ممكن من أفعالها، وأنّ القياس في العربيّة ليس مطلقاً، فقد يختار العرب وزناً ويتركون آخر، إمّا استكراهاً، أو لمجرّد التفضيل، أو لعادة لا نعرف سببها، بدليل عدم قولهم دُعاوة مثلاً. فصحة اشتقاق غَباء لا تعني صحّته لغويّاً، والحكم في النهاية للاستعمال. وذلك مسلّم به، لكن يستوي فيه الغباوة والغباء المتأخّرتين تاريخيّاً، كما وضّحنا؛ ولئن سبقت الأولى الثانية، فإن تلك الثانية جاءت على لسان عالم كبير هو الطبريّ، مرّات كثيرة، وقد أُقرّت في العصور الحديثة بقوّة حتّى كادت تلغي الأولى، بما يعبّر عن خيار جمهور المستعملين الحديثين لها. وللجمهور الحديث حقّ في الاختيار كالقديم، دعْ أنّ الكلمة لا تزال مستعملة منذ أكثر من ألف ومئة سنة، وتلك مدّة كافية جداً لإقرارها. ومع أنّ مجمع اللغة قد أهمل مناقشة موضوعها، في ما نعلم، فإنّه يبدو مقرّاً لها، بدليل ذكرها في المعجم الوسيط الصادر عنه، حيث يقول: «غَبِيَ الشيءُ عن فلان وعليه ومنه غباً وغَباء وغباوة: خفي عليه وعنه: جهله ولم يفطن إليه». ولعلّه اعتبر أنّ اجتماع الاستعمال المتطاول والقياس الصحيح يجعل المجادلة في صحّة الكلمة عبثاً، لأنّها كالمجادلة في المسلّمات.
-------------------------------
* أكاديمي من لبنان.