عن العربي
اتصل بنا
قصص على الهواء
جمال العربية: العقاد.. شاعرًا رومانسيًّا
|
جمال العربية: العقاد.. شاعرًا رومانسيًّا
لا يُذكر العقاد إلا وتُسرع إلى الذهن كتُبه عن العبقريات وكتاباته الأدبية ودراساته الإسلامية. أما شعره فمن النادر أن يذكره أحد، وإذا تكلّم عنه النقاد والدارسون فغالبًا ما يتّجه الكلام إلى الطابع الفكري والذهني الذي ساد هذا الشعر وتحكّم فيه، وإلى صياغاته اللغوية التي خلت من مائية الشعر وعنفوانه. حتى تلميذه المخلص سيد قطب، الذي تناول ديوان العقاد «أعاصير مغرب» في أحد فصول كتابه «كتب وشخصيات» فإنه لم يبتعد عن هذا الرأي في شعر العقاد. يقول سيد قطب في كتابه: «في وضح النهار يعيش العقاد، صاحي الحسّ، واعي الذهن، حيّ الطبع، لا يهوِّم إلا نادرًا، ولا يتوه فيما وراء الوعي أبدًا. ومعالم الإحساس والتّصوُّر عند العقاد واضحة، وعلى رحابتها وانفساحها، وعلى عمقها ودقّتها، يحدّها إطار من الوعي المتيقّظ، فلا تهيم في وديان مسحورة، ولا تنطلق في متاهات مجهولة. ومن هذه الينابيع يتفجّر شعر العقاد، فيكثر فيه تصوير الحالات النفسية، وتسجيل الخواطر الفكرية، وإثبات التأملات المنطقية - إذا صحَّ هذا التعبير - بقدر ما تقلّ فيه السبحات الهائمة والانطلاقات التائهة والظلال الشائعة، فكل شيء واضح وكلُّ شيء له حدود». ثم يقول سيد قطب: «ويعوض شعر العقاد الجيد عن الرفرفة الطليقة تلك الحيوية المتدفّقة، وعن الإيقاع المتموّج تلك الحبكة الرصينة، وعن الانطلاق الهائم ذلك العمق الدقيق، وعن سبحات الصوفية التائهة صدق الحالات النفسية الواضحة». من هنا فقد استقرّ في روع قراء العقاد، أن شعره شعر الفكرة لا شعر التجربة - بالمعنى الرومانسي - شعر الخاطرة التي تصل بالجزئي إلى الكلي، وتعبر المسافة بين المحدود واللامحدود، وتقبع في المسافة بين العرَض الظاهر والجوهر الخبيء، وتلعب على الجدل بين المتناقضات، فهو مجال الولع الشديد عند العقاد، بسطوة منطقه وقدرته على الجدل والمُحاجّة. وفي مواجهة هذا الذي استقرّ عند الناس في النظر إلى شعر العقاد، فإن إعادة قراءة كثير من نماذجه ستكشف لنا عن شاعر رومانسي، يشبه شعره شعر المهجريين، وشعر شعراء جماعة أبولّو، يُحلّق معهم في آفاقهم، لكن «الحبّ» عنده يظلّ مختلفًا في المعنى والدلالة والإحساس: غريرةٌ تسأل ما الحبُّ؟ ثم يقول: بُنيتي: هذا هو الحبُّ: ولعلّ العقاد في كتاباته النثرية - هو المسئول عن صورة «السوبرمان» أو «الرجل الخارق» التي يخرج بها القارئ من كتاباته، صورة تتشكل من عناصر العناد والإصرار والكبرياءِ والتحدي والشعور بالزهو والتفوق والاستعلاء على الآخرين. لكنه - في شعره - حين نتأمل الأمر، كائن شديد الرقة والهشاشة لفرط حساسيته واتقاد مشاعره ورهافة وجدانه، تنوشه الظنون، ويبكي بكاء الطفل الذليل، ويغصّ بالماء الذي أعدّه للريّ، ويتقلَّب في نيران الجحيم، ويتمنى لو باع حظّه كلّه بساعة واحدة ينسى بها عمره فكأنه لم يولد: يوم الظنون صدْعُت فيك تجلدي إن ثمة خزانًا من دموع الأسى والضعف الإنساني، يمتلئ به وجدان العقاد، وينهمر في غزلياته وبكائياته ووجدانياته شاعرية دامعة، ومشاركة أسيانة، وضعفًا إنسانيًّا مرتطمًا بالقدر، ومُتصلِّبًا في مواجهته وتحدِّيه. وهي الثنائية التي مثلها العقاد دومًا، باعتباره تجسيدًا لحوار الصخر والنهر في مهاد نشأته الأولى: أسوان، حيث يشمخ الجرانيت والصوّان في عناق النهر المتدفق، الممتلئ بالجنادل والصخور. كما أنها الثنائية التي نُطالعها في تجليات شعره انسياب رقةٍ ووعورة خشونة، نزَق طفولةٍ وحكمةَ كهولة، اندفاع عاطفةٍ ورويَّةَ عقلٍ وفكر، رضا يتسع فيحتوي العالم، وغضبًا يشتعل معلنًا عن رغبة في تدمير الكون، وهي الثنائية التي أودعت شعره هذا الفصول المختلفة من الطقس النفسي والفني، وأغنت رحلته مع الشعر بحصادٍ من التجارب المتميزة، والأصداء النادرة، والمعالم الفريدة. يقول في مقطوعة نادرة، لأنها مغموسة في ماء الشعر الرومانسي: هنا مكان صِداركْ... هنا، هنا في جوارِكْ *** هنا، هنا عند قلبي ... يكاد يلمِسُ حبي *** أَلمْ أنلْ منكِ فكرة ... في كلِّ شكّة إبرة *** هنا مكان صدارك ... هنا، هنا في جوارِكْ *** *** نسجْتهِ بيديْكِ ... على هدى ناظريْكِ وفي مقطوعة ثانية لا تقلُّ عن السابقة رهافة ورقّة ورومانسية، وهي بعنوان: «قولى مع السلامة»، يقول العقاد: نعم مع السلامة ... والحبّ والكرامة *** حديثُكِ الممتعُ لي *** أما إذا مِسرَّتي والعقاد هو الذي يصور القبلة بين المحبين قائلاً: هي كأسٌ من كؤوس الخالدين وإذا تأملنا عناصر الرومانسية في شعر العقاد - من خلال هذه النماذج التي عرضْنا لها - وجدنا العاطفة الصارخة المشبوبة، والخيال المحلِّق في فضاء عريض، والوجدان النابض بكل ما يمثله الشعور والفكر معًا، في نسيج شعري مرهف، ولغة طيِّعة محكمة، وتعبير عن الذات المتحكمة في الموقف الشعري رؤية ومعايشةً وتأملاً. وهي عناصر تُمثلها أروع تمثيل قصيدته «نفثة» التي يقول فيها: ظمآنُ ظمآنُ، لا صوْبُ الغمامِ ولا ويتأمل العقاد واقع «الطير المهاجر» وأحواله في السفر والتنقل، ويجعله عنوانًا لهذه اللوحة الشعرية: علّمتْني مواسم الروض أنَّ الطـ وفي كلّ هذه النماذج - الرومانسية الطابع - من شعر العقاد، تتجلى اللغة الجميلة التي تملّكها وكتب بها في إبداعيْه النثري والشعري معًا، فهو صاحب أسلوب، وأصحاب الأساليب هم وحدهم الذين يفرضون بصْمتهم وكأنهم يُوقعّون بها على كل ما يكتبونه، فيكتشف القارئ المتابع أنه قد تعرّف على صاحب الكلام من قبل أن يقال: هذا فلان أو فلان. ولئن فرض العقاد بصْمته الجمالية في كتاباته النثرية من خلال كتبه عن العبقريات والدراسات الإسلامية والأدبية، فإنه قد فرض أيضًا بصْمته الجمالية في إبداعاته الشعرية، وبخاصة في هذا الفيض من شعره الرومانسي. يقول العقاد مصوِّرًا «طلعة الحلم»: يا طلْعةً الحُلْمِ متى ألقاكِ؟ *** يبقى أن يقال: إن للعقاد أحد عشر ديوانًا هي : يقظة الصباح، ووهج الظهيرة، وأشباح الأصيل، وأشجان الليل، ووحي الأربعين، وهدية الكروان، وعابر سبيل، وأعاصير مَغْرب، وبعد الأعاصير، وديوان من دواوين، وما بعد البَعْد (الذي صدر بعد رحيله). وقد ولد العقاد عام 1889 وكان رحيله في الثالث عشر من شهر مارس عام 1964. -------------------------------------- ثَملتُ بشدوِكَ يا بُلبُلُ إلياس أبوشبكة |
