المفكرة الثقافية: ترجمة.. القصة الكويتية المعاصرة في رحاب الصين

المفكرة الثقافية: ترجمة.. القصة الكويتية المعاصرة في رحاب الصين
        

          استكمالاً لمسيرة مجلة العربي في نشر الثقافة العربية، وحرصًا منها على تعريف الآخر بوفرة الإنتاج الأدبي في العالم العربي عمومًا، وفي الكويت تحديدًا، صدرت ترجمة إلى اللغة الصينية لكتاب «البحث عن آفاق أرحب.. مختارات من القصة الكويتية المعاصرة» الذي أعده وقدمه الدكتور مرسل فالح العجمي، وصدر باللغة العربية عام 2008، ضمن احتفالات مجلة العربي بعيدها الخمسين، وهو الكتاب رقم 71 من ضمن سلسلة «كتاب العربي» التي تصدر فصليا عن المجلة.

          ترجم الكتاب إلى اللغة الصينية رئيس تحرير «مجلة دراسات في العالم العربي» البرفيسور والمترجم جو ويه ليه Zhu Weilie (عبدالجبار) وهو من أشهر المهتمين بقضايا وشئون الشرق الأوسط في الصين، وله العديد من الإسهامات البحثية التي قدمها للقارئ العربي خلال استضافته في ندوات مجلة العربي.

          رئيس تحرير مجلة العربي د. سليمان العسكري أكد «أن هذه الترجمة تحقق هدفًا من أهم أهداف ندوة العربي التي عقدت في العام 2011 والتي كانت تبحث عن أهمية الاتجاه شرقا وأنه من المفيد لثقافتنا العربية أن يتعرف مثقفو وأدباء وقراء شعب كبير مثل الشعب الصيني الذي له حضارته العريقة وحضوره على الساحة العالمية على بعض إنجازات الكتاب والأدباء والمبدعين في مجال القصة القصيرة بالكويت».

          تكمن أهمية ترجمة كتاب «البحث عن آفاق أرحب» في أنه يكشف جانبا من جوانب الإبداع الأدبي في الكويت وهو فن القصة القصيرة، ويقدم مراحل تطورها، بدءا من جيل الرواد الذين وضعوا البذور الأولى للقصة القصيرة حتى إبداعات الأجيال التي تلتهم. والقارئ لهذا الكتاب يستطيع أن يتعرف على ثقافة المجتمع الكويتي عبر عقود من الزمن، كما له أن يتعرف على السمات الأصيلة والدخيلة التي لعبت دورًا في تطوير وتغيير وعي الإنسان الكويتي آنذاك، وذلك بما رصده قلم وخيال القاص الكويتي منذ عام 1929 وحتى العقد الأول من الألفية الثالثة، ومن خلال 47 قصة اشتمل عليها الكتاب.

          محررالكتاب د.مرسل العجمي قدم القصة الكويتية القصيرة وفقا للمنهج التاريخي لتطور القصة، فبدأ بجيل الرواد ممن ساهموا في توفير الشروط الموضوعية لظهور القصة القصيرة وتنوير المجتمع، والتي تمثلت في نشر التعليم، وتأسيس المكتبة الأهلية، وإنشاء النادي الأدبي، والاشتراك في المجلات العربية. كانت قصة الشاعر والكاتب خالد الفرج «منيرة» هي أول قصة تنشر لكاتب كويتي، ويستهل بها الكتاب. القصة تمحورت حول محاربة الجهل والشعوذة بالتعلم والتنوير.

          ثم جاء الجيل الثاني للقصة القصيرة وهو جيل البعثة، والذي تزامن مع تزايد أعداد المدارس في الكويت وبدء إرسال البعثات الطلابية إلى خارجها. وإصدار مجلة البعثة التي أصبحت رمزًا لجيل كامل، ركز انتاجه الأدبي على الرغبة في الاصلاح سواء على مستوى العلاقات الاسرية مثلما جاء بقصة فاضل خلف «حنان أم»، أو على مستوى العلاقات الاقتصادية التي تضمنتها قصة جاسم القطامي «زواج بحار». تلاه جيل التحولات الجذرية السياسية والاجتماعية، وهو جيل الستينيات الذي عاصر استقلال الكويت وتمتع بالوفرة والثروة، وهو الجيل الذي أوصل القصة القصيرة في الكويت إلى قمة النضج الفني في الكتابة القصصية وذلك بما تلمسه القاص من تغيرات متسارعة رصدتها القصة القصيرة .مثل قصة «الصناديق» لسليمان الخليفي. وأخيرًا جاء الجيل الرابع، الذي نشر قصصه في فترة منتصف السبعينيات حتى منتصف التسعينيات، وهو من حظي بدراسات كثيرة، إلا أن أهم ما برز فيه هو حضور المرأة من أمثال ليلى العثمان وفاطمة العلي، وأخريات.

          ويعرف د. العجمي القارئ بأشهر كتاب القصة القصيرة في الألفية الثالثة، ممن لهم مستقبل واعد مثل استبرق أحمد وباسمة العنزي وهبة بوخمسين وعهود بدر السالم وأفراح فهد الهندال وتوفيق فهد الهندال وهديل الحساوي.

          جاء الكتاب المترجم إلى اللغة الصينية ليكون بمنزلة «عينة تمثيلية» للقصة القصيرة في الكويت على المستويين «الموضوعاتي والسردي» وقد رتبت هذه العينات أو المختارات حسب التوالي التاريخي لنشر هذه القصص. فكل جيل من كتاب القصة القصيرة في الكويت يحمل في طياته معطيات ومتغيرات انعكست على المجتمع الكويتي، وأحدثت فيه أثرًا واضحًا وملموسًا على جميع الأصعدة، وقد يصعب على الآخر تقبلها دون ذكرها وفق سرد قصصي لا يخلو من متعة الخيال.

الكويت: هذايل الحوقل

  • نشر:
    الرجوع إلى الخلف

          اقتلعت ثورة 25 يناير ضرسًا غائر الجذور في فك مصر، وأصابت بالشلل نظامًا بيروقراطيًا عتيدًا، ومؤسسات وجدت نفسها فجأة عاجزة عن الحركة، وفي مقدمتها المؤسسات الثقافية، ودور النشر العامة والخاصة أيضًا. ولجأ البعض إلى الانزواء حتى يتمكنوا من استعادة التوازن والعودة لاستئناف أنشطتهم في ظل المتغير الذي لم يكن يخطر على بال أحد منهم.

          وفى مجال النشر قام معظم المشتغلين به بتغيير سياساتهم؛ في البداية أخذوا يفتشون عن أية أعمال يمكن أن تنشر كإبداع لهذه الثورة مهما كان مستواها الفني أو الفكري، فكانت النتيجة ركامًا من الأوراق التي لم يستجب لها قارئ فاكتظت بها المخازن وكبدت الناشرين ملايين الجنيهات.

          وأتصور أن عملًا واحدًا يمكن أن يحمل عبارة «إبداع ثورة 25 يناير» على الرغم من أنه كُتب ونُشر قبل اندلاع الثورة بوقت غير قليل، لكنه امتلك القدرة على التنبؤ بتفاصيل الزلزال كما حدث تمامًا، وأقصد «أجنحة الفراشة» لمحمد سلماوي.

          وسرعان ما تغيرت البوصلة لاتجاه الخلف فوجدنا أكثر من قسم أو إدارة للنشر في هيئاتنا الثقافية الحكومية، أو دار نشر خاصة أو عامة تُصدر سلاسل تجتر من خلالها إبداع بداية القرن الماضي إيثارًا للسلامة ورغبة في تحقيق ربح مضمون.

          فهذه الأعمال التي نشرت، قبل مائة عام، دخلت في باب التراث، ولم تعد تكبد ناشرها الجديد عبء دفع مقابل لورثة هؤلاء المؤلفين الرواد، فضلًا عن أنها تخلو من كثير من الإشكاليات التي تعرض الناشر للمساءلة في ظل الأوضاع الجديدة، فتظل تصدر منها طبعات وطبعات.

          لكن الطريف أن كثيرًا من هذه المؤلفات التي تحمل اسم: توفيق الحكيم، وإسماعيل أدهم، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وأحمد أمين، ومحمد حسين هيكل جاءت طبعاتها الجديدة الأنيقة وقد تدخلت فيها أقلام سمحت لنفسها أن تزاحم أسماء هؤلاء المؤلفين الكبار بدعوى أنها قامت بتفسير غوامض إبداعهم على قارئ الألفية الثالثة، فنجد أن أحدهم يتدخل في نص «ماجدولين» أو «تحت ظلال الزيزفون» الذي قام بتعريبه المنفلوطى بوضع هوامش ساذجة نورد منها هذه الأمثلة، فقد شرح كلمة «تناست» بدعوى أنها مستغلقة على فهم القارئ بأنها «حاولت أن تنسى، أو تظاهرت أنها نسيته»، وكذلك تفسيره لكلمة «تبالهت» بأنها تعنى «تصنعت البلاهة»، أو «الأرجاس» وتعنى «الأقذار والأفعال القبيحة».

          ويبدو أن للناقد الدكتور صلاح فضل رأيًا آخر في هذا الموضوع إذ يقدم سلسلة «كلاسيكيات» - التي أصدرتها الدار المصرية اللبنانية في القاهرة وقدمت من خلالها طبعات جديدة لأعمال محمد حسين هيكل: «زينب»، و«عثمان بن عفان»، و«الصديق أبو بكر»، وأعمال مصطفى لطفى المنفلوطي التي ألفها أو قام بتعريبها مثل: «العبرات»، و«النظرات»، و«في سبيل التاج»، و«الفضيلة» أو «بول وفرجيني»، و«الشاعر» أو «سيرانو دي بيرجراك»، و«ماجدولين» أو «تحت ظلال الزيزفون» بقوله: «تؤثر بعض الهيئات العلمية ترجمة الكلاسيكيات بالروائع، أو عيون الأدب والفكر والثقافة. لكن يظل عبق الكلمة الرصينة الحالدة أدلّ على خصوبة اللغة بالتلقيح، وقابلية الفكر والإبداع للنماء الحر المتجدد. والكلاسيكات العربية التي تقدمها الدار اليوم للقراء هي ذاكرة الأمة، وضميرها الحى الذي يعترف بقيمتها على مر الأجيال المتعاقبة، تجسد وعي الإنسان العربي بذاته، وثقته في نتاجه، وقدرته على صيانته وتاصيله.

          فمن يريد أن يتعرف على العقل العربى في أوج توهجه، وعلى لغة العلوم والآداب والفنون، وهي تتشكل بأنساقها الغنية، فبوسعه أن يتأمل هذه الكلاسيكيات، التي تكشف عن عبقرية المؤلفين لها ونضارة روح الجماعة، وأثر الوجدان القومي الذي حرص على جعلها من كنوزه الخوالد. وهذه الكلاسيكيات تجسد حرية العقل ونقد النقل وفريضة التفكير وضرورة الاجتهاد، إلى جانب جني لذة الإبداع في الشعر والسرد، ومتعة التداول الحر للمعرفة والمعلومات عبر الأجيال المتتالية، وربط شباب الأمة بتراثها الجامع وهويتها الحقيقية. وقد كان اختيار هذه الكلاسيكيات حسب معايير صارمة تمثل فيما يلى:

          أولًا: إجماع أهل الذكر من العلماء والأدباء على أهميتها وتقدمها على غيرها.

          ثانيًا: اعتراف الأجيال المتتالية بها، وبناؤهم على أُسسها المعرفية والفنية.

          ثالثًا: تقديمها لأفضل ما يمكن أن يتعرف به الآخر علينا عند ترجمتها إلى اللغات الحية المختلفة.

          على أن هذه الكلاسيكيات تشمل الإنتاج المعرفى والإبداعى في العصور القديمة بمراحلها المختلفة، ثم تختار من إنتاج العصور الحديثة ما اكتسب قيمة، تضاهي الروائع التي تعتقت بفعل الزمن، وأصبحت ركيزة للعقل والوجدان في الوطن العربى كله، واستحقت وصف الكلاسيكية العريق.

          ولا يسع أى مثقف عربى غيور على تراثه إلا أن يشيد بهذا المشروع».

القاهرة: مصطفى عبدالله

  • غياب:
    رحيل العلاّمة محمد فارح شيخ اللغويين الجزائريين.. خادم اللغة العربية

          برحيل شيخ اللغويين الجزائريين العلاّمة محمد فارح (1930-2012م)، خسرت الثقافة العربية في الجزائر أحد فرسانها الأفذاذ، وأحد كبار العلماء الأجلاء الذين قدموا خدمات جليلة للغتنا العربية، فالعلاّمة محمد فارح يعتبر قامة سامقة من قامات العلم والمعرفة، وأحد كبار علماء المغرب العربي الشوامخ الذين عشقوا اللغة العربية، وأفنوا حياتهم في خدمتها ودراستها، وسبر أغوارها، والدفاع عنها.

العلاّمة الراحل محمد فارح

          لقد كان الراحل صاحب ثقافة موسوعية، ترك بصمات واضحة في شتى الميادين العلمية، وخلف عددًا من الآثار الفكرية والأدبية المتميزة.

          عُرف بنشاطاته المتنوعة في مختلف وسائل الإعلام، وأسهم إسهامًا كبيرًا في تنشيط الحركة الأدبية في الجزائر، كانت حياته شعلة من النشاط والحيوية في ميادين عدة، وخاصة في مجال الدراسات اللغوية والفكرية والتاريخية.

          ولد محمد فارح سنة 1930م بمدينة الميلية التابعة لولاية جيجل التي تقع بالشرق الجزائري، بدأ دراسته بالكتاتيب على يد جده، ثم انتقل إلى زاوية الشيخ الحسين بميلة، وتابع دراسته بمعهد الإمام ابن باديس بقسنطينة، حيث حصل على الشهادة الأهلية، وكان واحدًا من أنجب التلاميذ بشهادة جميع الأساتذة الذين درسوه، وبعد تفوقه ذهب للدراسة بجامع الزيتونة بتونس وحصل على شهادة التحصيل والعالمية بتفوق، وانخرط في صفوف جمعية الطلبة الجزائريين، ثم في اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين، وأصبح بعدها عضوًا في اللجنة العليا المكلفة شئون الطلبة في جبهة التحرير الوطني، وبعد اندلاع ثورة التحرير الجزائرية عمل مناضلًا في صفوفها، وكتب عدة مقالات تشيد بها، وشارك بقوة في النضال ضد الاستعمار الفرنسي، إذ تؤكد الوثائق والشهادات الواردة عن المناضلين القادة في جبهة التحرير الوطني أن محمد فارح قد انخرط في تنظيمها منذ البداية، وكلف عدة مسئوليات تتوافق مع مؤهلاته الفكرية والثقافية، حيث ترأس الأمانة العامة لاتحاد الطلبة الجزائريين بالمشرق العربي، وكان عضوًا بارزًا في التنظيم الإعلامي لجبهة التحرير الوطني الجزائرية، وقد واصل محمد فارح دراسته بجامعة بغداد وتخرج من قسم الآداب سنة 1962م بشهادة «الإجازة» في اللغة والأدب العربي، وبعد استقلال الجزائر عمل أستاذًا بمدينة سطيف، وكان من المؤسسين الأوائل للصحافة الجزائرية الصادرة باللغة العربية، حيث كان يعمل بجريدة «الشعب» العريقة، كما عمل في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الجزائرية مع بدايات انطلاقتها، واشتغل أستاذًا بالمدرسة العليا لتكوين أساتذة التعليم الثانوي، وفي كلية العلوم الإسلامية، ومعهد الفلسفة في الجزائر.

          وقد أشرف على صياغة الكثير من النصوص والقوانين الصادرة عن رئاسة الجمهورية الجزائرية في مرحلة السبعينيات من القرن المنصرم، وعين مستشارًا تقنيًا برئاسة الجمهورية، حيث كان يقوم بالمراجعة اللغوية لخطابات الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، ومن بعده الشاذلي بن جديد.

الجزائر: محمد سيف الإسلام بوفلاقة

  • شخصيات:
    الروائية أليسا يورك: صوت سردي مختلف من كندا

          تعقد هذه الكندية علاقة حية ومدهشة، ليس بالطريقة الكلاسيكية بل بما يتواءم مع عصرنا، مع الكائنات الحية عمومًا والحيوانات خصوصًا، فعلت ذلك في روايتها الأخيرة (Fauna)، كما فعلته في كتبها السابقة، وفي هذا النص الأخير لن نجد سوى أسماك وطيور وثدييات مختلفة تفاجئنا أليسا يورك أنها تلج رءوسها، وتتقمص أفكارها، مصطحبةً معها القارئ بشخصه.

دب أعلى الخيمة

          ما ذلك الضجيج الذي ينبعث من صفحات أليسا يورك, نباحٌ وخدشٌ وحكُ وغمغمةٌ وأنين وعواء؟ حسنا ربما ليس هذا إلا الوضع الطبيعي في مثل نصوص هذه الكاتبة. فبعض شخصياتها كما ترونها هي حيوانات بامتياز إن صح قولنا، ولكن وما المانع؟ «فبما أن الرواية هي فن الانزلاق في بشرة الآخر لماذا لا تكون بشرة فيلٍ أو غراب؟» هكذا تسأل الروائية التي ينسدل تحت كتفها الأيسر جلد عظاءة موشوم.

          فالقصة إذن قصة بشرة, وقد بدأ كل شيءٍ عند أليسا يورك في جبال ألبرتا الصخرية على هذا النحو كما تتذكر: «كان عمري ثلاث سنين وكنت وأهلي في أحد معسكرات التخييم في إجازة من الإجازات، عندما جاء دبٌ ليرقد فوق خيمتنا.

          لكأن صوت شهيقه لازال يضرب في أذنيَ ورائحة عفنه الحلوة تداعب شعيرات أنفي، بينما حرارة جسمه على الجانب الآخر من قماش الخيمة تدغدغ مسام جلدي».

          فهل لهذا التعانق الغريب أن يفتح كل الأبواب؟ ألا يعدو جوهر الكتابة عند يورك سوى محاولةٍ منها لاستعادة ذلك الشعور المؤسس وذلك الشهيق وتلك الرائحة وذلك الدفء ولصوغه كلامًا ولتجسيد بشرة الدب بعدما تذوقت حلاوتها؟

قصة الأمس

          لنعد إلى الماضي. فحينما ولدت أليسا يورك عام 1970 في (Athabasca) في شمال كندا كان أبواها المهاجران من أستراليا قد وصلا لتوهما، وكان الاثنان مدرسين للغة الإنجليزية . وبما أن الأم شاعرةٌ فقد شجعت ابنتها في شغفها بالقراءة والكتابة, ولم يكن الأب مدرسًا كسائر المدرسين، إذ أن دروسه التي كان يعلمها للطلبة كانت تتعلق بعالم الصيد البري وصيد السمك والصيد الشراعي تجري في الهواء الطلق, وهو لم يكن يفرق بين أبنائه أو طلابه، فيعلمهم كيفية استخدام القطاعة والسكين, ويصطحب ابنته إلى (Labradorle) ليصيدا الرنة وإلى (Fidji) ليسبحا وسط القروش.

          ولطالما اتخذت أليسا يورك David Attenborough نبراسًا لها دون أحدٍ آخر. والواقع أنها لن تغدو لا باحثةً أو عالمة طبيعة، ولا حتى كاتبةً من فورها، ولكن هذين الموروثين؛ أي اللغة والطبيعة، لم ينفصما عندها إطلاقا بعد ذلك، إذ تقول: «منذ طفولتي مثلت الكتب والحيوانات الشيء ذاته بالنسبة لي، فقد كنت أعكف بذات الدرجة على الاهتمام بالحيوانات المختلفة وكذلك بالحكايات والقصص. وحتى اليوم يثير الاثنان عندي الانتماء ذاته والانطباع ذاته فهما يجسدان صلة وصلي بالكون».

          ويقول النقاد إنه يكاد يكون مستحيلا أن نقع على نص لأليسا يورك لا تحضر فيه الطبيعة . فهاهي ماثلةٌ في تركيب نثرها وفي نسيج جملها: في مذكراتها (Any Given Power) التي صدرت عام 1999 حيث ترقص النساء والدلافين رقصات باليه غريبة, وفي العشق الممنوع (التي صدرت عن JoëlleLosfeld عام 2007) نجد في الرواية أن بومة تلعب دورا في الحكاية ترمز إلى ذلك المصير الذي يفترس البشر مثلما تهضم الجوارح فئران الحقل فلا تلفظ منها سوى كرياتٍ من قشٍ وعظم. وفي «وجوه» (الصادر عام 2008عن JoëlleLosfeld) ففيما تقوم إحدى الشخصيات بتصبير الحيوانات تتقمص شخصياتٌ أخرى على شكل كلبٍ أو سمكة تروتة وهو ما يسمح للروائية أن تجتاز الحاجز العائم بين الإنسان والحيوان وثابةً فرحة.

          تحتال أليسا يورك للحيوانات فتبرز وجودها في كل مكان معلنةً بفخر: «حتى في المدن». ففي نص Fauna تكشف النقاب عن محبسٍ حيواني، تقريبا يعرفه الجميع في تورنتو، وهو لا يبعد عن وسط تورنتو اكثر من بضع دقائق فتقول: «هناك أعدادٌ من حيوانات القيوط والأيل والظربان وثعالب وكلابٌ وذئابٌ وصقورٌ دون أن ننسى أيها السيد العزيز «Prevert» قطيعًا من الراكون ، ولكن المهم هو أن دور هذه الحيوانات لا يشبه في شيءٍ الدور الذي طالما لعبته في الأدب الغربي إطلاقًا أي الرمزي عند لافونتين أو السياسي عند أورويل أو البيئي عند باسيلينا أو الأخلاقي عند كيبلينغ». فيورك ترمي إلى شيءٍ آخر تماما، فهي تريد أن تروي ما يعاش في مكانٍ معين وأن تبني، من جديد، أو بالأحرى تعيد بناء نظام نصي جامع يتداخل فيه الوجودان البشري واللابشري ولا ينفصلان، ويتكفل الأدب بتقريبنا شيئًا فشيئًا من حقيقتهما.

          وعندما نسمع كلام أليسا يورك يخطر في بالنا (Jim Dodge) نبراس الوجه الآخر للثقافة الأمريكية وكاتب الطائر الكندي الذي صدر عن (Cambourakis) كما أن طيف أحدث كتابٍ للفيلسوف (CorinePelluchon) وهو (نحو تجميلٍ للجروح) الذي تحدثت عنه (le monde des livres) في 28 أكتوبر يزور مخيلتنا.

          ومقولة هؤلاء الكتاب أن العالم الحي يسمو على العالم البشري وأن كائناته تعبر عن وجودها بشتى الطرق فما أجدر الإنسانية الحقة أن تقيم له بالًا بعد الآن! وعلى هامش Fauna نقشت يورك هذه الجملة المفهومة التي اقتبستها عن (Richard Adams) في (Garennes de watership down) الصادرة عن دار (Flammarian) عام 2004: «الحيوانات لا تتصرف كالبشر فلو وجب العراك لاعتركت ولو لزم القتل لقتلت ولكنها لن تجلس لتفكر بأنجع السبل لإفساد حياة كائناتٍ أخرى وإلحاق الأذى بها لأن لها ما يكفيها من الحيوانية والاحترام».

          ويرين الصمت فها هي أليسا يورك وقد انتصبت أمام مقهاها ذي اللون الرمادي الآخذ للحمرة (so parisien) وقد وصلت من تورنتو غير مبديةٍ أي أثرٍ لفارق الوقت . هاهي ذي تنتصب شمَاء حنطية السحنة كنديةً صلبة كحيوانٍ ثديٍي غير ذي شبيه. نعم فهي المرأة التي تنشقت الدب والتي يمكنها الحديث عن الساعات التي أمضتها برفقة الأصناف السبعة عشر من الضفادع في إندونيسيا.إنها تعرف على حد قول (تيودور مونو) أحاسيس سقطت من قاموسنا منذ الديفوني الأول باتصالها بالعالم الأم.

          أما نحن فمن نكون؟ ربما ينطبق علينا هذا التعريف لفيالات: «الإنسان هو حيوانٌ يعتمر قبعةً رخوة منتظرًا الحافلة (27) عند التقاء شارع (La Glacière) بجادة (Arago). نعم, هو ذا.

عبرة الحياة لمن لا اعتبار لهم:

          تقر أليسا يورك: «إنني أريد ألا ننظر إلى الطبيعة بذات الطريقة بعد قراءة هذه الصفحات فما الفائدة إذا مضى الجبناء والنزقون من القرويين والبيتوتيون كلٌ في طريقه غير مكترثٍ على غرار أمثالهم من كارهي الحيوانات. وفي افتتاحية الكتاب تغنٍ بآذان الفئران فهي «تويجاتٌ جميلةٌ متجانسة الأبعاد» تقارنها البطلة بأذنيها الشبيهتين بدابرتين أو جدعتين عتيقتين من ذنبٍ جزَ . واسم المرأة ذات الجدعتين (ايدال جونز) وهي عميلةٌ فيدرالية تلاحق تجار الحيوانات الفريدة والمخالفين الذين يصطادون الأنواع النادرة , وذات يوم بينما كانت في مكانٍ ما من وادي (Don) شرق تورنتو اكتشفت مجتمعًا سيغير حياتها ويداوي كآبتها. إنه حطامٌ لا يضم سوى سيارات محطمة وحيوانات مصابة وكائنات نكبتها الحياة.هو للمفجوعين فردوسٌ, وها هنا فكرتان تجلهما يورك: تآزرٌ بين جميع المخلوقات وتنوعٌ في نسيج مدينةٍ ليضم أيضًا ريشًا ووبرًا وأوراقًا ولحاءً . تقول (أثناء مرورنا علمنا أن «ويك ويك ويك» تشير إلى طائر نقارٍ براق أما «واك واك واك» فتنطبق على نقار الخشب الكبير). وبعيدًا عن كراس علم الحيوان المتخصص بالمخلوقات عديمة القيمة تمثل هذه العبارة حياةً متكاملة الأوجه فيها مزيج من الطمع والوجدان تشهرها يورك بكل حبور.

الكويت: حاتم الألاطي

  • تشكيل:
    إمبراطورية الحرف تجدها عند محمد عقل

          هي لغة الضاد تجسدت في إمبراطورية «فنية تشكيلية - تجريدية» عند محمد عقل الذي أرسى قواعد «الحرف ومعه الخط العربي» بطابع مغاير عما عُهدَ سابقًا.. فحين تقف أمام هندسة الحرف القديم بشكله الأول، و«تتعركش» نظراتك بنحته بطريقة «إبداعية» تتغلل وسط أفكار «شائقة» مرتجلة فيما تأخذك على نوتات موسيقية في رحلة إلى عالم الموضة حيث حضور الحرف الهندسي في تلك الأزياء، فذاك يستدعي التعمق اكثر في ماهية هذه الظاهرة الغريبة التي حطت رحالها عند عقل، بل حري بنا القول إن «هوس» عقل بالخط العربي القديم وبتكوينه وهندسته هو من أدخله إلى فضاء الحرف، ليتناوله من زاوية لم تكن على البال.

          إنها إمبراطورية الحَرف إذن لا تشبه إمبراطوريات هذا الزمن، فالحرف هنا لا قيمة مادية له بقدر ما يندرج في مُثل أيديولوجية «تجريدية»، فيها من الانسجام اللوني بقدر ما يحويها من توليفة «الفكر والنحت والرسم» «إنها هندسة أشكال مقرونة بفلسفة عربية منحوتة بموسيقى ترسو في ميناء تصميم الأزياء» هكذا يعرفها عقل الذي يشير إلى «ان هندسة الحرف دخلت إلى عقر الرسم عند أخي حسن الذي تأثر بأبعاد تلك الحروف، فجاءت تحمل رؤية عربية تجريدية فيما ارتأى اخي عباس أن يمزجها مع الهندسة المعمارية فجاءت بمنزلة منحوتة حرف على هيكل مبنى».

          تبدو أمبراطورية عقل غريبة في كل اطوارها إذ تجده يركز على أهمية أن «نعشق الحرف بهندسته لما يحمله من جمالية لا نعرف قيمتها» وربما هذا ما حدا «شقيقتي فاطمة لكي تستخدمه في تصاميم ازيائها فأتى بمنزلة إنذار إلى أن العرب قادمون إلى كل مكان» وفق ما يشير عقل الذي يؤكد أنه سيُقيم معرضًا نحتيًا عن الحرف لأرسخ حضارة (سبأ) أصل الخط العربي».

          17 عاما استغرق بحثه في مفاصل هذا الخط الذي كاد أن يضمحل ويندثر، «وجدت نفسي أكتب ملاحظات عن الخط العربي، أضع جداول وخرائط، أكثر من 400 صفحة بخط اليد دوّنتها، تناولت معانيها أشكالها قلبت كل زواياها، فكل حرف له حكاية لا تنتهي» بحماسة يقول مردفًا إن «الخط لعبة» ويذهب في نظريته إلى القول «إن الخط العربي حامل الفكر العربي» يتوقف عند تحولاته «كان بداية عموديًا وفي العام 1200 قبل المسيح تحول إلى الأفقي ثم للحميري الذي جاء قبل الخط الكوفي وفي الـ1000 ميلادي كتب القرآن» أي أن «الحرف استغرق 800 سنة في تحوله، 100 قبل المسيح و700 ميلادية حتى تحول إلى شكله الحالي» مقدما جداول غريبة يعود «بعضها إلى 900 قبل المسيح» يقول عقل.

          قد يظن البعض أن الخط هنا مجرد جمالية رسم، وقد يتصور البعض انه مجرد «فلسفة» عابرة، ولكن حين يحدثك عقل عن الخط وكيف نشأ بهندسته وفلسفته وجماليته تسقط كل الأقنعة التي زيَفت حضوره. لقد جنّد عقل العائلة برمتها في خدمة الحرف وتقديمه على طبق فني بألوانه وأبعاده المختلفة باختصار يقول عقل: «عشقي للحرف على مدار 17 عامًا حولني إلى خاتم في خدمته» حتى أن «الحديث عن الحرف لا ينتهي» مشيرًا إلى أنه «لعبة هندسية فنية» واكثر يتعمق عقل في هيكلته ليقول: «أتوجه نحو نحته بأشكاله الأولى أي بأصله لأنني أريد أن يتعرف الكل على الخط العربي ويحبه»، مضيفًا: «قدمت يوما هدية لأحد أقاربي ثريا من الحرف نفّذتها بالحديد حروف أدخلتها ببعض، أخي عباس رسم الحروف هندسيا وأدخلت اليها اللمبات والزجاج وعلقت وأضيئت الكل تفاجأ واستغرب وأعجب بها».

          لقد توصل عقل إلى نظرية مفادها أن الخط العربي هو «فلسفة الوجود، فلسفة الموت والحياة» معللا نظريته بالقول «حين تنتهي لا تتوقف بل تواصل مسيرها، لتخترق كل الحواجز» ضاربًا مثلًا توضيحيًا «كحراثة الفلاح لأرضه ذهابًا وإيابًا هكذا هو الحرف»، لافتًا إلى أن «الألف يعني الوجود يتطور حتى الغين وهو الغياب إلى حين، وكأنه عملية انتظار للقيامة ليولد الإنسان من جديد ومن هنا قيل تؤلف ولا تؤلفان، إذا جمعنا الأرقام من الألف للغين هو ألف بحسب تكوينها».

          قلة من تدرك فواصل الحرف، ومن أين أتت فهل أحد يعرف أن «حرف الهاء هي الهدى أي الصلاة، وهو كناية عن شخص يرفع يديه ناحية السماء بعدها حذف الجسد واليدين وبقيت القبة «النذور»، «حرف النون تعني الحنش أي ذكر الأفعى، «الالف» أي الإنسان الأليف.. الباء تعني البيت .. فهل من يعرف أن الجيم هي الجمل، والدال هي الدولادة أي باب الخيمة. الواو هي الجرح.. الثاء معناه الثوى.. الحاء الحيط، الخاء الخواء أي الفارغ.. الذال ذنب الحصان.. الخاء الخاوية.. الغين هي الغياب «كلها قدمتها بأشكالها التي ترمز لها، لكي تسلك «قطار» الحياة وتجد عشاقًا لها من جيل الشباب الذي للاسف يعشق اللغات الغربية فيما لغته من أروع اللغات» وفق ما يعبر عقل.

          لا حدود لخيال عقل في تحليلاته «درسته دراسة فنية وحضارية، فالحرف فن تشكيلي بامتياز وهو ما خلق التجريد عند العرب قبل غيرهم، قبل 2000 سنة قبل المسيح وارتقوا فيه بالتجريد» ويرتقي عقل بحروفه إلى مصاف «تجريدها من الإبهام ولم الصاد لها سن؟ يسال عقل قبل ان يجيب لا أحد يعرف أن «الصاد» من المنجل لم أكن اعرف من أين أتت الهمزة تأكد لي «أن الهمزة تعني السلام والألف الإنسان فجمع قَديمه وابقوا الهمزة».

          حين يتحدث عقل عن «الحرف» يبدو كمن «يحضن» طفله، لا بل ينظر في مرأته «الإبداعية» التي يسعى لكي يخلدها وينتشلها من «وكر» الإهمال الذي «رُمي» داخلها، وربما هذا ما حداه لكي يُفرد مساحة كبرى من فضاء حياته «للخط العربي وحَرفه» فهو بمنزلة «وجه الحياة بليلها ونهارها» يقول مردفا «وحده الحرف ينطق وليس بأي كلام بل بفن تكوينه وزخرفته وهندسته أيضًا».

بيروت: رنة جون 

 

 





الترجمة، والغلاف للإصدار الأصلي





الترجمة، والغلاف للإصدار الأصلي





 





 





محمد فارح





أليسا بورك





محمد عقل يحمل دفتر الخط العربي





محمد عقل يحمل دفتر الخط العربي





الحروف العربية بهندستها القديمة يشرحها عقل