إلى أن نلتقي

  إلى أن نلتقي
        

تفجيراتنا الثقافية
الانحدار حضارياً من خلال الصعود زمنياً

          ما هي مشكلتنا، كمسلمين، مع إرثنا الثقافي المعماري؟ لماذا يصعب علينا أن نفهم حقيقة كون تنوع هذا الإرث هو ميزة، لا نقيصة؟

          انظر إلى ما فعلته جماعة طالبان (المسلمة) من تفجير تماثيل بوذا في مدينة باميان بأفغانستان، وهي التحف الفنية التي تمتعت بـ 15 قرناً من سماحة الإسلام، وعاصرت صرامة المغول في القرن الثالث عشر، بل بقيت أيضاً رغم معاداة الاحتلال السوفييتي للأديان.

          وتأمل ما فعله الإرهابيون (المسلمون) من تفجير مراقد أئمة آل البيت ذات القيمتين التاريخية والمعمارية في مدينتي كربلاء وسامراء في العراق.

          وتابع ما تفعله الآن جماعة أنصار الدين (المسلمة) من هدم للأضرحة الإسلامية التاريخية في العاصمة الثقافية والتراثية لجمهورية مالي، مدينة تمبكتو «ذات الـ333 قديساً»، وهي المدينة التي تعتبر جوهرة الصحراء الكبرى لما تنطوي عليه جنباتها من تحف، حيث كل مبنى تقريبا يعتبر تراثاً، من متاحف ومقابر ومساجد ومكتبات ومخطوطات تخلد ذاكرة الإسلام في المنطقة، حتى أن منظمة اليونسكو قررت إدراج المدينة على قائمة التراث العالمي المهدد بالاندثار!

          كلما تأملت ممارساتنا المازوشية هذه كمسلمين بحق تركتنا الثقافية الغزيرة، تذكرت ما قرأته إبان صباي في كتب السير: من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوصى جيشه في غزوة مؤتة بقوله: « ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناءً ».

          ومن كون الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أعطى عهداً شهيراً إلى أهل مدينة إيلياء (القدس): «هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانا لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبهم ...».

          ومن أن أحد قواد الخليفة العباسي المعتصم (المسلم) قد أمر بجلد إمام ومؤذن، لأنهما اشتركا في هدم معبد من معابد الهندوس، لتستخدم أحجاره في بناء مسجد مكانه.

          وما قرأته في موضع آخر من أن أحمد بن طولون أمير مصر والشام ومؤسس الدولة الطولونية (المسلم) قد اعتزم بناء مسجده عام 263 هـ فأشار عليه المهندسون بأن مسجده هذا بحاجة إلى ثلاثمائة عمود من الرخام، وأنه لا يمكن الحصول على الرخام اللازم لتلك الأعمدة إلا من الكنائس والمعابد القديمة التي تملأ مصر، فأبى ابن طولون أن يُفعل ذلك، ثم قرر أن يستبدل بالأعمدة الرخامية دعائم من الآجر ذات قدرة على مقاومة الحريق.

          بعد كل هذه التفجيرات، المخزية - المسيئة في حق أنفسنا قبل أن تكون مسيئة إلى الآخرين - ما جدوى تاريخنا العظيم، هذا الذي ندرِسَه، ونُدَرّسه، إن لم نعتد الرجوع إليه كمخزنٍ عامرٍ نستقي منه القيمة؟

          منذ سنوات طويلة، قرأت نصاً معقداً للشاعر الفرنسي مالارميه (Mallarmé)، كان يتحدث فيه عما أسماه «التقدم نحو القهقرى». لم أفهم قصده آنذاك. أما الآن، فأظنني فهمت ما كان يرمي إليه: نحن ننحدر حضارياً.. صعوداً بالزمن.
---------------------------------
* أكاديمية من الكويت.

 

 

 

مشاعل عبدالعزيز إسحق الهاجري