شهناز

شهناز

كدت أمسك به وأضغط على رقبته حتى يرسل آخر انفاسه، تريثت.. ترددت.. عندما لاحظت أن رقبته مكسوة بالشعر، وكل شعرة بلون.. اقشعر بدني.. لهذا، تريثت وترددت وجمدت في مكاني غير بعيد عنه.. أدرت ظهري له، وعدت إلى مكاني في حديقة المدينة وجلست حيثما كنت ثم نظرت إليه.. لم أجده.. ورأيتني أقف دون أن أقرر الوقوف.. وقفت عجباً.. ثم سرت من مكان إلى مكان في الحديقة التي كانت غاصة بالأولاد، ولكن دون أية ضجة.. حتى ولا صوت، لكني أراهم يفتحون أفواههم.. يركضون يلعبون.. يقفزون.. كل هذا يحدث ضجة.. لم أسمع ضجة.. عجباً.. والعجب جعلني أجلس في مكاني وعيناي تبحث عن.. عن الشخص الذي كنت أقترب منه لأضغط على رقبته ليخرج آخر أنفاسه.. لم أجد أثراً له.. مر من أمامي شيخ.. لم أسأل عن عمره.. ولكني أعطيته عمراً يتجاوز الثمانين.. يسير بهدوء ويبتسم.. لست أدري لأي شيء.. لكنه يبتسم.. الناس احرار في ابتساماتهم وفي عبوسهم.. أنا لا أدري.. لم أكن أدري إذا كنت عابساً أو مبتسماً.. أشرت إلى الشيخ أن يتفضل ويجلس معي.. كنت بحاجة لأن أكون برفقة أحد.. نظر إلي وزاد ابتساماً ثم وقف ونظر إلي مليا، فصار وجهه يطفح بابتسامه طاغية.. ثم سار.. تركني مع وحدتي الباحثة عن ذاك الشخص الذي كدت أن أضغط على رقبته وأفرغ أنفاسه فيستريح وأستريح.. لم أجده.. فجأة فرغت الحديقة من الأولاد.. نظرت في كل اتجاه الحديقة ووراء كل شجرة لكني.. لم أر أحداً.. وبقيت مع الصمت وعيناي تتنقل من غصن إلى غصن، وزاية وزاوية دون جدوى..

لا أحد.. أنا ووحدي في حديقة لا حياة فيها، فجأة سقط عصفور تحت قدمي.. ميتاً رأيتني أقف خوفاً.. قلت لابد أن هناك من قتل العصفور ثم جلست في مكاني، ولم تمض لحظات حتى غطت عشرات من العصافير راحت تحوم فوق العصفور الميت، وهي تزقزق حزناً.. قلت عندئذ: إن زقزقة العصافير ليست كلها تعبيراً عن الفرح.. فهي تزقزق أيضاً حزناً.. تسأءلت.. من قتل العصفور وأين ذاك الرجل الذي كنت أريد أن أمسك به وأخلص عليه؟».

لابد أنه هو القاتل.. وعلمت عندئذ أن رغبتي بالضغط على رقبته أتت لشعوري بأنه القاتل «قاتل العصافير» وتذكرت قصة قديمة تحكي عن إبليس، أحب أميرة ابنة ملك بلاد في أقاصي الشرق، بلاد شاسعة، محاطة بالصحاري والبحار والغابات، فيها كل ما خلق الله من جمال وسحر «شهناز» هو اسم الأميرة، كانت تحب أميراً جماله ساحر ولطفه لا يضاهي وذكاؤه لا مثيل له، كان يزور القصر مع أبيه الملك.. ذات يوم التقت عيناه بعيني شهناز، وكانت لغة الحب والهيام قد قالتها عيناها له.

بعد هذا، تحاورت نظرات الأمير بنظرات الأميرة شهناز.

ودون أن أطيل الحديث وباختصار، فقد اتفقا أن يتزوجا في أول ربيع يأتي بعد تعارفهما على بعضهما. في ذلك الوقت ظهر الإبليس.. أحبها.. لكنها لم تبادله الحب.. فهي تعشق الأمير خطيبها، ولكن إبليس بقي يلاحقها، فكانت تبتعد عنه وقررت ألا تخرج من القصر.. لكنه «إبليس».. ولم ينتظر طويلاً على باب القصر.. إذ طال غياب شهناز ولم يقدر على غيابها.. فما كان منه إلا أن تحول إلى عصفور.. طار حتى وصل إلى حيث كانت الأميرة شهناز، حط بالقرب منها وراح يزقزق لها أخذته بين يديها وراحت تداعبه، فجأة اختفى العصفور وظهر إبليس، خافت الأميرة شهناز وأغمى عليها، جلس إبليس بقربها حتى طلوع الفجر، عندما استيقظت الأميرة اقترب منها وقال لها: إذا قبلت بي زوجاً، سأجعل منك ملكة الجن، وأسكنك في الجنة، أجابته: ملكي ومعبودي هو حبيبي وجنتي بين ذراعيه، اعف عني واتركني،.. قال لها إذن سأحولك إلى طير إلى عصفور.. وستسكنين بعيداً بعيداً ولن تري بعد خطيبك.. وهكذا كان..

أخذت العصفور الميت وعدت إلى منزلي.. أتيت بحشائش وأزهار، ثم أخذته بيدي بلطف ووضعته فوقها وخرجت من الغرفة.. في اليوم التالي، استيقظت باكراً، دخلت الغرفة.. لم أر العصفور.. سمعت زقزقة.. نظرت إلى النافذة كان واقفاً عليها.. زادت زقزقته ثم طار وتغلغل بين السحاب.. قلت لنفسي إنها شهناز.. تبحث عن أميرها..
---------------------------------
* فنان تشكيلي وكاتب من لبنان.

 

أمين الباشا