الكويت والأمم المتحدة في نصف قرن.. فصول من دبلوماسية الأزمات ( 1963-2013م)

  الكويت والأمم المتحدة في نصف قرن.. فصول من دبلوماسية الأزمات ( 1963-2013م)
        

          تعرف الدبلوماسية بأنها فن ممارسة التفاوض بين الدول، وتظهر فيها قدرة الدولة على إدارة شئونها وتنفيذ سياستها الخارجية، ولذلك احتلت الدبلوماسية المرتبة الأولى من حيث الأهمية بين عناصر السياسة الخارجية لكونها الطريقة الفاعلة التي تنفذ من خلالها الدولة سياستها الخارجية.

          للدبلوماسية أنواع متعددة من أهمها دبلوماسية الأزمات والتي يقصد بها الجهد الدبلوماسي الذي يوجه لحل أزمة دولية طارئة وتستمد أهميتها من أن المجتمع الدولي المعاصر معرض باستمرار لأزمات سياسة متعددة نتيجة الاختلافات العقائدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ولعدم قدرة أو رغبة الدول في استخدام القوة العسكرية لوضع حد لهذه الأزمات، ففرض هذا النوع من الدبلوماسية نفسه مخرجا وبديلا عن الحرب.

          وتتفاوت قدرة الدول على استخدام وتوظيف دبلوماسيتها لحل ما يواجهها من أزمات أو تلبية ما تنشده من احتياجات تبعا لما يتوافر لها من أسلحة وأدوات، وعلى رأسها: المكانة الدولية والوضع الإستراتيجي والقدرات الاقتصادية والبشرية والإرث التاريخي، لذا تتفاوت قدرات الدول في حل أزماتها الدولية، ما قد يضعف أو يؤثر في طرق تعاطيها مع ما يمر بها من مستجدات قد يكون بعضها خطرا ومؤثرا ومهددا لأمنها القومي، فيظهر الفارق حينئذ بين الدبلوماسيات الوليدة والدبلوماسيات العتيدة.

          وقد شرعت الكويت فور نيل استقلالها في 19 يونيو 1961م في اتخاذ كل الإجراءات الجادة بشأن الانضمام إلى الأمم المتحدة مستندة إلى كونها دولة مستقلة محبة للسلام قابلة لجميع الالتزامات التي يفرضها ميثاق المنظمة، وقادرة على تنفيذها وفق نص المادة الرابعة من ميثاق الأمم المتحدة ومعتمدة في الوقت نفسه على سابق عضويتها في عديد المنظمات والهيئات الدولية من مثل: المنظمة الاستشارية البحرية الحكومية لسلامة الأرواح والاتحاد الدولي للاتصالات السلكية واللاسلكية (1959م) واتحاد البريد العالمي والمنظمة الدولية للطيران المدني ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية ومنظمة الأغذية والزراعة العالمية ومنظمة التربية والعلوم والثقافة ومنظمة الأقطار المصدرة للنفط (1960م) وجامعة الدول العربية (1961م)، لذلك كله وجدت في نفسها الأهلية والأحقية للقيام بهذه الخطوة مستبعدة أن يكون هناك ما يمنع انضمامها لهذه الهيئة الدولية.

          واستندت الكويت على ما لديها من أدوات لكسب الأصوات الدولية تأييدا لطلبها ودعما له، مستخدمة ما تملك من وسائل لمواجهة القطب الدولي الثاني وقتئذ الاتحاد السوفييتي الذي وقف بالمرصاد لكل المحاولات الكويتية للانضمام لهذه الهيئة الدولية معتمدا على حقه في استخدام (الفيتو) الذي فعَّله أكثر من مرة، رافضا طلب انضمامها في جلسات التصويت المتعددة التي عقدت لمناقشة هذا الطلب في مجلس الأمن الدولي، ومقابلا المحاولات الكويتية كافة بالرفض بكل ما أوتي من قوة لاعتبارات أيديولوجية وإستراتيجية أملتها عليه علاقته بالنظام الحاكم في العراق الذي كان يطالب بالكويت في هذه الأثناء مدعيا دون وجه حق- أحقيته التاريخية فيها في نزوة سياسية كتب عليها الفشل كسابقتها في 1939م ولاحقتها في 1990م.

          وبدا التطور واضحا في مستوى الدبلوماسية الكويتية التي لم تيأس من إمكان الوصول إلى هدفها المتمثل في الانضمام إلى الأمم المتحدة وإن طالت الفترة، فخاضت معارك دبلوماسية عدة داخل المنظمة زاد من ضراوتها اقتران طلب نيل عضوية الهيئة بالأزمة المعروفة تاريخيا باسم (أزمة قاسم 1961م) التي استلزمت تدخلا بريطانيا وعربيا ودوليا، الأمر الذي جعل الكويت تحارب على أكثر من جبهة، مواجهة الأطماع العراقية ومتفادية العراقيل السوفييتية، وقبل هذا وذاك متجاوزة الخلافات العربية، حيث كانت تسعى لانتزاع قرار دولي أممي يحفظ لها حقها في أرضها ويصد المعتدي عن غيه، دون أن يثنيها هذا كله عن سعيها الحثيث للانضمام إلى الأمم المتحدة، لكن الفيتو السوفييتي كان واقفا بالمرصاد لكل المحاولات كما ذكر سابقا.

          وبعد زوال نظام قاسم، ونتيجة لاستمرار الكويت في مساعيها الدبلوماسية بأناة وثبات طيلة سنتين، كللت هذه المساعي بالنجاح لتصبح العضو رقم 111 في الأمم المتحدة وفق قرار جمعيتها العامة رقم 1203 الصادر في 14 مايو 1963م، بناء على توصية مجلس الأمن في جلسته رقم 1034 بتاريخ 7 مايو 1963م.

          وقد أبانت الكويت عن توجهات سياستها الخارجية وملامحها العامة والإطار الذي يحددها في نقاط محددة تنبع من قناعتها وإيمانها الراسخ بالتزاماتها تجاه محيطيها الإقليمي والدولي، وهو ما ظهر في الخطاب الرسمي الأول لها أمام أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي ألقاه وزير خارجيتها آنذاك سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، عقب الانضمام للمنظمة في الجلسة المنعقدة بتاريخ 14 مايو 1963م، حيث أشار سموه إلى أن الكويت لم تكن تنظر إلى عضوية الأمم المتحدة كغاية في حد ذاتها، بل كوسيلة للمساهمة في تحقيق حياة أفضل لها ولسائر شعوب العالم.

          كما أكد سموه أن تطور الدول لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل السلام والتعاون الدولي، وأن صوت الحق يجب أن يرتفع على الصغير والكبير على حد سواء، وأعلن أن الكويت قد اختارت لنفسها سياستي عدم الانحياز والحياد الإيجابي اللذين يستهدفان تحري الحقيقة وفرض العدالة.

          ولم يؤثر المخاض العسير الذي سبق عملية الانضمام هذه في تعاطي الكويت مع التزاماتها الجديدة في الأمم المتحدة، حيث بدأت وعلى الفور في الاضطلاع وبمنتهى السرعة بكافة مسئولياتها تجاهها، فظهر حرصها على الالتزام التام بتقديم الدعم المادي لمختلف منظماتها من خلال المساهمة في ميزانية أكثر من 34 منظمة دولية و14 عملية حفظ سلام، إضافة إلى حصتها المقررة من الموازنة العامة للأمم المتحدة والتي تبلغ نسبتها 2.5 في المائة من إجماليها، وكانت بداية الدعم الكويتي للأمم المتحدة في السنة ذاتها التي شهدت انضمامها، حيث تبرعت الكويت بــ 200 ألف دولار لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، كما اشترت أسهما في المنظمة بما يقارب المليون دولار، وقدرت مساهماتها المبدئية في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وقتئذ بحوالي 120 مليون دولار.

          وبتتبع الوجود الكويتي في الأمم المتحدة خلال نصف قرن نلحظ دورا جليا وحضورا مؤثرا لدبلوماسية الأزمات، حيث أجادت الكويت بشكل كبير وفي أكثر من مناسبة في توظيف هذا الصنف من الدبلوماسية، وتعد عملية الانضمام لهذه المنظمة في حد ذاتها دليلا دامغا على نجاح الدبلوماسية الكويتية في التعامل مع أولى الأزمات المتعلقة بالأمم المتحدة، بعد أن استمرت في مساعيها لزيادة الأصوات المؤيدة لطلبها والداعمة لحقها دون كلل أو ملل طيلة سنتين، فكان لها ما أرادت.

          وفي أثناء سعي الكويت للانضمام إلى الأمم المتحدة استخدمت الصنف ذاته من الدبلوماسية لحل أزمة قاسم 1961م من خلال التقدم بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي الذي قام بدوره بدراسة هذه المشكلة في جلسات أربع خلال شهر يوليو 1961م لم تثمر عن شيء مُرضٍ، بيد أنه وعلى الرغم من الإحباط الذي أصاب الكويت عقب الفشل الذي آلت إليه هذه الجلسات، فإن ردة الفعل الكويتية مثلت أنموذجا يحتذى في كيفية التعامل بحكمة وكيفية توظيف دبلوماسية الأزمات لتحقيق القدر الأدنى من المكاسب وإن كانت معنوية، حيث تحدث ممثلها في المجلس السيد عبدالعزيز حسين بالجلســة المؤرخـــــة في 7 يوليو 1961م قائلا: «أتينا إلى المجلس نشكو من تهديد لاستقلال الكويت وحرية شعبه، وهذا التهديد لايزال قائما، ونأسف لأن المجلس لم يستطع اتخاذ الإجراءات لمعالجته وإننا راضون عن مشاعر الدعم والتأييد التي نلمسها لموقف الكويت وشعبها، ونأمل أن يتابع المجلس الوضع باهتمام».

          واستخدمت الكويت الدبلوماسية ذاتها في أثناء الحرب العراقية الإيرانية (حرب الخليج الأولى 1980-1988م) حين اضطرت لتدويل قضية استهداف ناقلاتها النفطية في مياه الخليج العربي التي كانت في مرمى نيران الحرب الدائرة بين العملاقين الخليجيين في ما عرف وقتها بحرب الناقلات، فتقدمت بشكوى إلى مجلس الأمن ثم تقدمت بطلب رسمي في نوفمبر 1986م لحماية ناقلاتها النفطية، واستمرت في مساعيها لحسم هذه القضية حتى حلت لاحقا بعد إجراء مفاوضات متعددة مع الجانبين الروسي والأمريكي أثمرت عن القيام بإعادة تسجيل الناقلات الكويتية ورفع أعلام دول أخرى عليها، ثم انتفت أسباب القيام بهذا الإجراء بصورة نهائية بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 598 الداعي إلى وقف إطلاق النار بين الجانبين.

          وظهر الاستخدام الأكثر نضجا لدبلوماسية الأزمات عقب تعرض الكويت للعدوان العراقي في 2 أغسطس 1990م، حيث شرعت على الفور في تدويل قضيتها بعد أن استشعرت عدم جدوى أقلمتها من جراء الانشقاقات والخلافات العربية المعتادة فنجحت في اليوم التالي مباشرة في حث مجلس الأمن الدولي على إصدار القرار رقم 660 الذي دان الغزو، وطالب بالانسحاب غير المشروط للقوات العراقية من الأراضي الكويتية وتبع هذا القرار ما يزيد على عشرة قرارات أهمها القرار رقم 662 الصادر بتاريخ 9 أغسطس 1990م والذي أكد سيادة الكويت واعتبر خطوة ضمها إلى العراق باطلة قانونا.

          وفي الشهر التالي للغزو توجه سمو الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير الكويت آنذاك إلى الأمم المتحدة ليلقي خطابا أمام أعضاء جمعيتها العامة بتاريخ 29 سبتمبر، شكرهم فيه على تضامنهم غير المسبوق وثمَّن قرارات مجلس الأمن المتتالية وأشاد بالموقف الدولي الصلب الذي وقف مناصرا للحق الكويتي أمام الجحافل العسكرية العراقية.

          وبعد مرور قرابة أربعة أشهر على الغزو لم يظهر العراق أي مؤشرات تفيد بنيته الانسحاب من الكويت والتراجع عن احتلالها وضمها بالقوة، فأصدر مجلس الأمن قراره رقم 678 بتاريخ 29 نوفمبر 1990م، الذي حدد تاريخ 15 يناير 1991م، كنهاية للمهلة الممنوحة للعراق للامتثال إلى جميع القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة منذ بداية الأزمة، وفي حال رفض العراق للقرار وعدم الاستجابة له تفوض الدول الأعضاء بالأمم المتحدة باستخدام كل الوسائل لاستعادة السلم والأمن الدوليين في المنطقة، وهو ما تم بالفعل، حيث احتشدت جيوش 34 دولة من مختلف قارات العالم لمناصرة الحق الكويتي عن طريق العمليات العسكرية التي استمرت طيلة الفترة ما بين 16 يناير و26 فبراير 1991م، لينسحب بعدها ما تبقى من القوات العسكرية العراقية خارج الأراضي الكويتية وتحرر الكويت وتعود الأرض لأصحابها.

          ولم يُلْهِ التحرير القيادة الكويتية عن مواصلة العمل الدبلوماسي عبر الأمم المتحدة لاستصدار عدة قرارات تقارب العشرة أيضا دارت جميعها في محيط فرض السلام والأمن في المنطقة، وإلزام العراق بتحمل قيمة الخسائر الاقتصادية التي تسبب فيها للكويت عبر ما سمي في حينه بصندوق الأمم المتحدة للتعويضات، مع فرض رقابة أممية على مبيعات العراق النفطية.

          واستمرت الكويت في استخدام وسائلها الدبلوماسية لحل أزمة الخلافات الحدودية التي لم يتوقف العراق عن إثارتها رغم هزيمته في الحرب وتدمير جزء كبير من قواته العسكرية، وانسحاب ما تبقى منها, وذلك عبر اللجوء للأمم المتحدة التي أصدرت عدة قرارات خلال الأعوام 1992و1993و1994م من أهمها القرار رقم 833 الصادر بتاريخ 27 مارس 1993م، والذي أكد ضرورة الالتزام بما أقره الفريق الخاص بترسيم الحدود بين البلدين المشكل من قبل الأمم المتحدة والذي اعتبرت قراراته نهائية وملزمة، لكن العراق ما لبث أن عاد للتصعيد العسكري في أواخر العام 1994م بنشر قواته العسكرية في المناطق الحدودية جنوبي البلاد، فما كان من الكويت إلا أن لجأت كعادتها إلى مجلس الأمن الدولي الذي أصدر قراره رقم 949 بتاريخ 15 أكتوبر 1994م، الذي أكد ضرورة التزام العراق باحترام سيادة الكويت وسلامتها الإقليمية وحدودها، والتزام جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بضمان الإجراءات المترتبة على هذا القرار.

          وهكذا، فإن المتتبع لمسار علاقة الكويت بالأمم المتحدة خلال نصف قرن يلحظ جليا الدور الكبير الذي لعبته دبلوماسية الأزمات في صياغة وتشكيل علاقة الطرفين معا، فعن طريق حسن استخدام هذا الصنف من الدبلوماسية حالف التوفيق الكويت أكثر من مرة في نيل مبتغاها، بدءا من الانضمام للمنظمة مرورا بالدفاع عن مصالحها الحيوية، وصولا إلى حماية وجودها وحضورها الدولي.
----------------------------------
* كاتب من مصر مقيم في الكويت.

 

 

محمد محمود الطناحي*  
  




وزير الخارجية سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح مترئسا وفد الكويت في الأمم المتحدة أثناء إلقاء الرئيس الأمريكي جون كينيدي لكلمته أمام أعضاء الجمعية العامة





وزير الخارجية الكويتية سمو الشيخ صباح الأحمد بعد رفع العلم الكويتي أمام مبنى الأمم المتحدة





سمو الشيخ صباح الأحمد متحدثا في الأمم المتحدة





وثيقة قرار الأمم المتحدة الخاصة بقبول الكويت عضوًا فيها





افتتاحية جريدة «الأهرام» المصرية عقب انذلاع أزمة قاسم 1961





وزير الخارجية الكويتية سمو الشيخ صباح الأحمد في الأمم المتحدة





سمو الشيخ جابر الأحمد متحدثًا في الأمم المتحدة