الجزيرة والخليج العربي.. نصف قرن من النهضة الثقافية: د. سليمان إبراهيم العسكري

  الجزيرة والخليج العربي.. نصف قرن من النهضة الثقافية: د. سليمان إبراهيم العسكري
        

          إن المنجز الثقافي والفني الخليجي أضحى اليوم لافتًا بين مجمل الإنتاج الثقافي العربي، على يد مجموعة من المبدعين الخليجيين من أرجاء منطقة الجزيرة والخليج العربي، من عدة أجيال، وعبر أكثر من نحو اربعة عقود على الأقل، وصولًا للجيل الجديد من الشباب الذين أسهموا، ولازالوا يسهمون اليوم، في مجالات الإبداع فى فروع الفنون والآداب، وهو ما يؤكد أن مسيرة طويلة تمتد لنحو نصف قرن اليوم من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أسفرت عن بعض من أبرز أهدافها ممثلًا في تحقق نهضة ثقافية وإبداعية لها ملامح واضحة، وتمتلك خصوصية ثقافية وفنية، في كل أقطار المنطقة.

  • المبدعون الخليجيون من الجنسين، في مجالات الإبداع كافة، وبينهم رجال الفكر والأكاديميون في التخصصات العلمية والعلوم الإنسانية المختلفة، هم في الواقع نتاج عصر جديد يعيشه العالم اليوم. عصر ثقافي عولمي لم يعد من الممكن مقاومته ومنعه من التأثير في أجيال جديدة
  • إن واحدًا من أبرز مؤشرات أو دلالات التطور الاجتماعي والثقافي في منطقة الخليج العربي اليوم هو المكانة الإبداعية المميزة التي استطاعت المرأة الخليجية أن تحققها، فهناك اليوم أسماء بارزة لكاتبات وشاعرات من الخليج حققن شهرة كبيرة عبر رواياتهن أو دواوينهن الشعرية في أرجاء العالم العربي
  • إن القضايا التي ينشغل بها المثقف العربي اليوم، هي قضايا عامة تهم المثقف العربي أياً كان موقعه الجغرافي، سواء عن الديمقراطية ومستقبلها، أو عن كرامة الفرد العربي وحقه في الحياة بحرية تامة، وحقه في المعرفة، وفي التحلي بالوعي الكامل الذي يؤهله للمشاركة في صياغة مستقبله
  • هناك الكثير من التحديات التي تفرض نفسها على المجتمعات الخليجية وعلى المثقفين والمبدعين بالدرجة الأولى تستدعي مواجهتها فنياً وأدبياً وبينها ما نراه اليوم من محاولات تقسيم أبناء المجتمع بشعارات تبدو براقة بينما هي في حقيقتها طائفية ومذهبية وقبلية لبست لباس الحرية

ملامح النهضة الثقافية

          ولعل ملامح هذه النهضة اليوم غنية عن التعريف، فالرواية الخليجية أصبحت موضوعًا لانتباه القراء العرب في منطقة الخليج وخارجها، كما أصبح من المعتاد في الوقت الراهن أن نسمع ، بين آن وآخر، عن رواية جديدة لافتة لكاتب أو كاتبة من السعودية أو الكويت أو سلطنة عمان أو اليمن  أو غيرها من دول المنطقة، كما تدخل الكثير من هذه الروايات مجال المنافسة مع مثيلاتها مما ينتج في العالم العربي عبر المسابقات الثقافية الدولية، وتترجم الكثير منها إلى لغات العالم وتفتح لنفسها كل يوم بابًا جديدًا لتوسيع مساحة قرائها في أرجاء العالم.

          كما أن خارطة الشعر العربي المعاصر اليوم تحفل بالعديد من أسماء الشعراء من منطقة الخليج والجزيرة الذين أصبح بعضهم نجومًا بارزين في حقل الشعر المعاصر، وكثير منهم من الأجيال الجديدة، تُقرأ دوواينهم وتوزع في منطقة الخليج وخارجها على نطاق واسع، وتطرح القصيدة التي ينجزونها أسئلة جديدة في إطار أسئلة الشعر والقصيدة العربية المعاصرة وعن التطور الذى قطعته القصيدة الخليجية الجديدة في مشوارها الفني الذي ابتغى التجديد وابتكار أنماط وأشكال شعرية جديدة، من جهة أخرى.

          كذلك الأمر اليوم على شاشات الفضائيات حيث نجد أن الإنتاج الدرامي الخليجي منتشر جنبًا إلى جنب مع المنتج المصري والسوري، يقدم أنماطا من المواهب المختلفة في التمثيل والإخراج والكتابة الدرامية، ويلقي الضوء على الكثير مما تعيشه منطقة الخليج من قيم معيشة ومن متغيرات اجتماعية.

          وفي المسرح نشاهد، عبر المهرجانات الخليجية المحلية والعربية، عددًا لافتًا من الطاقات المسرحية التي تعبر عن إمكانات خاصة في التمثيل والإخراج المسرحي، والتي تطرح الكثير من القضايا والأسئلة التي تخص راهن المجتمعات الخليجية ومستقبلها عبر طروحات فنية ناضجة.

          كما أن هناك موجة من النشاط الثقافي ممثلاً في المهرجانات الثقافية والفنية والمشروعات الثقافية، إضافة إلى النشاط شبه اليومي لقاعات الفنون التشكيلية التي تحتفي بأعمال العديد من الفنانين التشكيليين الخليجيين الذين يعبرون عن مدارس وأساليب فنية مختلفة تتماهى مع المدارس الفنية الحديثة والمعاصرة في العالم العربي، وربما في العالم، محاولة إيجاد صيغ فنية خاصة للمزج بين التراث الخاص والتقاليد الفنية الحديثة.

          بالإضافة إلى فورة في افتتاح متاحف الفنون المعاصرة والحديثة ودور الأوبرا والمنشآت الثقافية الجديدة في كل من دولة الإمارات وقطر وسلطنة عُمان والكويت، جنبًا إلى جنب مع نشاط المنتديات الثقافية الحكومية والأهلية التي تقدم لونًا بارزًا من ألوان الحراك الثقافي في منطقة الخليج بشكل عام.

          وبالرغم من معاناة حقل السينما نسبيا مقارنة بباقي مجالات الفن والإبداع، فإننا نرى اليوم، بعد جيل من الرواد في الكويت والبحرين، حركة شابة جديدة ولافتة ، تقدم تجارب سينمائية مختلفة تشخص الواقع الاجتماعي والسياسي بعين ناقدة واعية سواء كانت تجارب روائية طويلة أو أفلامًا وثائقية وتسجيلية أو أفلامًا قصيرة، وبعضها استطاع لفت انتباه المهرجانات السينمائية العربية والعالمية وحقق العديد من الجوائز.

المبدعون نتاج عصرهم

          فالمبدعون الخليجيون من الجنسين، في مجالات الإبداع كافة، وبينهم رجال الفكر والأكاديميون في التخصصات العلمية والعلوم الإنسانية المختلفة، هم في الواقع أيضا نتاج عصر جديد يعيشه العالم اليوم. عصر ثقافي عولمي لم يعد من الممكن مقاومته ومنعه من التأثير في أجيال جديدة تمكنت من التفوق على واقعها الراكد بالالتحاق بالجامعات والنهل من مناهل العلم الحديث بكل تفرعاته وفنونه، سواء في داخل أوطانهم، أو في الجامعات الكبرى في دول الغرب الأوربي والأمريكي، ولاحقًا في الجامعات الآسيوية. فلقد مكنت الوفرة المالية لدول الجزيرة والخليج العربي منذ أكثر من اربعين عاما لأكثر من جيل من المنطقة التواصل والانفتاح الثقافي على التطور والحداثة في ذلك العالم الذي سبقنا بمئات السنين في ركب التطور البشري.

          وحين نتحدث عن الثقافة في منطقة الخليج والجزيرة، فلا شك اننا نتحدث عن ثقافة لها خصوصية مشتركة وطبيعة متشابهة بسبب تقارب الظروف الثقافية في المنطقة وتراثها وتاريخها المتقارب، الذي يؤثر حتى في وحدة العادات والتقاليد. لهذا فإنه مما يلفت الانتباه في المنجز الثقافي والإبداعي الخليجي إجمالا ربما، هذا التشابه في القضايا التي يتناولها، وفي الخصوصية الثقافية التي يعبر عنها وفي طرحه لأسئلة تخص الحاضر أو المستقبل، سواء في الأدب أو المسرح أو السينما وحتى في الدراما، إذ تتشابه  الهموم والقضايا الاجتماعية والأزمات، والعادات والتقاليد وحتى التراث في الأزياء والعمارة والعلاقة بالصحراء والبحر، كما تتشابه الظروف العامة، وحتى اللهجة في الأعمال الدرامية المختلفة التي قد تُنتَج في الكويت أو السعودية أو البحرين أو دبي مثلاً، ولا يميز المشاهد العربي خارج المنطقة بالضبط المجتمع موضوع الطرح الدرامي. كذلك الأمر فيما نسمعه من إبداع موسيقي في الغناء وحتى في مجال الرقص والفنون الشعبية.

          فدول الخليج والجزيرة العربية تشترك في سمة التماثل اجتماعيًا وثقافيًا، ويرتبط أهل المنطقة بقيم وعادات اجتماعية، وتجارية، ومؤثرات خارجية واحدة، بحكم ارتباطهم بالتجارة البحرية مع الخارج خصوصًا منطقة آسيا والهند، أو التجارة البرية مع دول عربية مجاورة.

          وحتى عندما بدأت الطفرة المالية فقد تزامنت في المنطقة كلها مما أدى إلى خلق تطور متزامن ومتماثل في خطط التنمية الأولية التي تبنتها النظم الحاكمة في منطقة الخليج مع مراعاة الخصوصية الإدارية لكل منها بطبيعة الحال، وفي نظم التعليم التي تم تبنيها، بل وفي البنية التعليمية في مراحلها المختلفة، وحتى البعثات الخارجية التي اشتركت في اختيار الجامعات الغربية والمشرقية لإرسال شبابها، فتزاوجت مصادر الثقافة المحلية مع مصادر الثقافات الأجنبية، وتشكلت منهما ثقافة جديدة موحدة أو شبه واحدة في دول الخليج العربي والجزيرة، وهو ما يتسبب في ظهور ثقافة واحدة تجلياتها اليوم هي ما نراه في الإنتاج الأدبي والفني الخليجي إجمالاً.

المرأة الخليجية مبدعة

          كما أن واحدًا من أبرز مؤشرات أو دلالات التطور الاجتماعي والثقافي في منطقة الخليج العربي اليوم هو المكانة الإبداعية المميزة التي استطاعت المرأة الخليجية أن تحققها، فهناك اليوم أسماء بارزة لكاتبات وشاعرات من الخليج حققن شهرة كبيرة عبر رواياتهن أو دواوينهن الشعرية في أرجاء العالم العربي، وأسماء نسائية شابة في الإبداع والإخراج السينمائي تأخذ مكانها على خريطة المهرجانات السينمائية العربية والعالمية وفنانات تشكيليات على المستوى نفسه، ونجمات في فنون الدراما والغناء وحتى على مستوى الغناء الأوبرالي، وبينهن عدد لافت من المبدعات اللائي ينتمين لجيل الشباب ما يعني أن هناك المزيد من المنجزات الإبداعية التي سوف تقوم المرأة في الخليج بإبداعها في المستقبل المنظور.

          وهذه الظاهرة تؤكد على مجموعة من المؤشرات أو تمتلك عددا من الدلالات أهمها تأكيد التطور الحادث في حقوق المرأة، والعمل على تمكين المرأة في مجالات عديدة ومختلفة، كما تؤشر على قدرات المرأة الخليجية في تجاوز العديد من المعوقات التي ربما تكون أعاقت مشاركتها في المجتمع بالشكل المناسب  في عقود سابقة، وعلى إمكانات المرأة الخليجية المعاصرة التي تبرز إذا ما توافرت لها الفرصة في تحقيق نفسها، تؤكد تطلعات الأجيال الجديدة في التطور والانعتاق من قيود التخلف والانغلاق والجمود الفكري والثقافي.

          إن هذه الظاهرة الجديدة مع العديد من الظواهر الثقافية اللافتة مما سبق ذكره والتمثيل عليه هو في النهاية تراكم سنوات من الجهود المبذولة من قبل المؤسسات الحكومية ومن المؤسسات الأهلية ومن الأفراد المبدعين جميعًا، وكل هذه الظواهر الجديدة في الحقيقة هي مجموعة من أهم مكتسبات التنمية والنهضة ولا يمكن لأي مجتمع يبحث عن دور في المستقبل أن يتخلى عن منجزاته.

          وهذه المنجزات الإبداعية الجديدة، بالرغم من الخصوصية التي تعبر عنها، تمثل في النهاية، جزءا من جسد الحالة الثقافية العربية العامة، ومن المنظومة الثقافية والفنية العربية، تتكامل أسئلتها الموضوعية والفنية مع الأسئلة المطروحة في تاريخ الأدب والفن العربي المعاصر. باعتبار أن الفن والثقافة هما انعكاس، لواقع وطموح المجتمع الذي تعبران عنه.

          وبالتالي فإن التحديات التي تواجه المجتمعات العربية اليوم ينعكس جانب كبير منها أيضًا على منطقة الجزيرة والخليج العربي. أي أن القضايا التي ينشغل بها المثقف العربي اليوم، هي قضايا عامة تهم المثقف العربي أيا كان موقعه الجغرافي، سواء عن الديمقراطية ومستقبلها، أو عن كرامة الفرد العربي وحقه في الحياة بحرية تامة، وحقه في المعرفة، وفي التحلي بالوعي الكامل الذي يؤهله للمشاركة في صياغة مستقبله، وغير ذلك من أسئلة تتعلق بالأوضاع الاجتماعية السائدة وما تشهده من متغيرات قيمية، وفي مواجهة الصراع بين التيارات التي تريد العودة بالمجتمعات العربية إلى الماضي، وإلى سياقات زمنية لم تعد صالحة للوقت الراهن والمعاصر.

تحديات وعقبات

          لهذا فإن كل ما نراه اليوم من منجزات ثقافية هي خميرة إضافية لمنجزات أكبر ينبغي لها أن تتحقق في المستقبل القريب، وفي المدى البعيد، خصوصًا أن هناك الكثير من التحديات التي تفرض نفسها على المجتمعات الخليجية وعلى المثقفين والمبدعين والمفكرين بالدرجة الاولى وتستدعي مواجهتها بالبحث والدرس والفكر وبمعالجتها فنيًا وأدبيًا، لمواجهة ما نراه اليوم من محاولات لتقسيم أبناء المجتمع بشعارات قد تبدو دينية وبراقة بينما هى فى حقيقتها ودلالاتها شعارات طائفية ومذهبية وقبلية تلبست بلباس الدين لا يهدف أصحابها إلا تحقيق النفوذ والمصالح السياسية والاقتصادية.

          بالتالي فإن الكثير من المعوقات التي تعاني منها الثقافة في منطقة الخليج العربي اليوم، بالرغم من كل تلك الطفرات التي شهدناها ونشهدها، ينبغي أن تتوافر سبل القضاء عليها ومواجهتها بدعم كامل من المؤسسات الثقافية الحكومية ومن المؤسسات أو الكيانات الأهلية على حد سواء.

          فهناك اليوم ظاهرة خطيرة تتعلق بالمعوقات التي تحد من سهولة تنقل الكتاب العربي بين أرجاء الدول العربية، وهي ظاهرة أشد خطورة حين نرى أن الكتاب العماني لا يتوافر بالقدر الكافي في سوق الكتاب الكويتي والعكس، أو أن أغلب الروايات التي تنشر لكتاب من السعودية لا تنشر في المملكة، ولا حتى في أي دولة خليجية أخرى، بل تنشر في دول عربية شقيقة، وبالتالي لا تتوافر بالشكل الواجب بين أبناء منطقة الخليج إن لم تتوافر حتى في بلد الكاتب أو الكاتبة اللذين قاما بتأليفها، وهنا لابد من الانتباه لأهمية إزالة السدود الرقابية ومنع أفكار أبناء المنطقة من التداول داخل مجتمعاتهم حتى لا تعيش هذه الأفكار في المنفى وتخسرها مجتمعاتنا الساعية إلى أمل التكامل والاتحاد لمواجهة الأخطار الداخلية منها والخارجية.

          ومن أبرز الأهداف التي تسعى الثقافة الجديدة في المنطقة لها هو توفير المزيد من الحرية للمبدعين وحماية إنتاجهم وتوفير كامل الرعاية لهم وصون أفكارهم من اعتداءات مخالفيهم بالرأي، فهؤلاء هم أسس الحفاظ على مجتمعاتهم ودولهم حاضرًا وتطويرها وأخذها إلى المستقبل الواعد واللحاق بالعالم المتحضر واكتساب علومه ومعارفه وهم من لديه الرؤية الثاقبة للمستقبل.

 

 

 

سليمان إبراهيم العسكري