قيس بن الملوح.. إمام العاشقين (شاعر العدد)
قيس بن الملوح.. إمام العاشقين (شاعر العدد)
سبق وأن كتبت في مجلة العربي ضمن سياق آخر، أن مؤرخي الأدب وكتّاب السيرة الذاتية لمجنون الشعر العربي - دون منازع - قيس بن الملوح يروون الكثير من القصص والحكايات التي تثبت حبه لليلى العامرية إلى درجة الخبل أو الجنون الصريح, فيشيرون إلى أنه أصبح نتيجة فشله في الزواج من محبوبته هائمًا في فلاة الحب, يصادق الوحوش ويأنس لها بدلاً من البشر, الذين كان يرى أنهم خذلوه ولم يروا في قصة حبه العظيمة سوى أنها حكاية تحكى كمثال تحذيري للمبتدئين في الحب عما يمكن أن يتسبب به ما هم مقدمون عليه لأهله من جنون. وذكرت في سياق ما كتبت أننا لا ندري إن كانت تلك الحكايات المتنوعة والمنتهية دائمًا بأبيات جميلة لقيس, قد حدثت فعلاً, أم أنها من وضع الرواة اللاحقين, الذين أرادوا بها تسلية قرائهم, والتأكيد على ثقافتهم الموسوعية, ولكننا على الأقل نؤمن بأن قيسًا لابد وأنه عانى من ذلك الحب للدرجة التي أوحت للآخرين بأنه قد جن, وشجعت الكثيرين منهم فيما بعد على وضع مثل تلك الحكايات أو المبالغة في رسم يومياتها والتوسع في دقائق تفاصيلها, حتى صارت مثلاً أدبيًا على ما يفعله الحب بالمحبين, وما يمكن أن يؤدي إليه من جنون أكيد. وأجدد الآن ما كتبته هنا وأضيف إليه ما يمكن أن يعيننا على فهم تجربة هذا الشاعر من خلال استحضار بعض ما يمكن أن يشكل سيرته الذاتية. فقد ولد قيس بن الملوّح بن مزاحم بن عدس بن ربيعة بن جعده بن كعب بن ربيعة العامري في بادية نجد في العام 24 هـ (645م)، وتوفاه الله في العام 68 هـ، (688م). أي أنه نشأ في القرن الأول للهجرة، وحكايته التي تشظت ما بين الحقيقة والخيال لتكون أسطورة للعشق العذري في بلاد العرب ولتحوله أيقونة للحب وإماما للمحبين أشهر من أن تنفى بسهولة حتى وإن شككنا بكثير من تفاصيلها. فقد تناقلت كتب الأدب وسير الشعراء هذه الحكاية بتفاصيل مختلفة، لكنها أبقت على أصل واحد لها وهو أن قيساً هذا كان شاعراً موهوباً وفتى وسيما يجرب أبيات الغزل في التشبيب بمن يعجب بها من الفتيات المتهافتات على صباه وموهبته الشعرية اللافتة، لكن لقاءه بليلى العامرية ذات موقف خلاف عابر بينهما غير حياته الشخصية والشعرية للأبد، فقرر أن يعيش تجربة العشق تلك بكل حماسة واندفاع وتباهٍ، ولعل هذا ما جعله لا يتورع عن التشبيب بحبيبته وابنة قبيلته ليلى مما حتم على ذويها رفض تزويجها له وفقًا لعادة موروثة من عادات القبائل العربية تجعل من تزويج الفتاة بمن يشبب بها أمرا غير محمود لأنه حيل لسوء الظن بأخلاقها وأسلوب تربية أهلها لها. وهكذا كانت قصائد قيس التي خلدت حبه لليلى وآنست وحشته من دونها هي ذاتها التي ساهمت في إبعادها عنه وتزوجها بآخر. وإذا كان هذا هو السبب الأشهر الذي تذكره معظم الكتب التي ترجمت لحياة قيس وأرخت سيرته الذاتية فإن هذا لا يمنع من التطرق لبعض الكتب التي تناولت أسبابا أخرى فرقت بين الحبيبين، منها خلاف بين والديهما على إرث مختلف عليه بينهما. وبغض النظر عن السبب الحقيقي الذي حرم هذين العاشقين من بعضهما البعض فإنه أسلم ليلى لكنف زوج لا تحبه، خاصة أنه كان يعرف تفاصيل حكايتها مع حبيبها الأول والأخير، وأسلم قيساً للفلاة معتزلاً للناس ومرافقا لكائنات الصحراء، يناجيها بشعره ويشكو لها ظلم البشر له ولليلى. وإذا كان قيس عاش حياته يتقلب ما بين نار عشقه لليلى ورمضاء عشقه للشعر معذبا مكلوما ضائعا في فلاة القصيدة يفتش عن حبيبة شاردة ومعنى شارد، فإن القصيدة نفسها اكتسبت ذلك التدفق الجديد من الدماء الطازجة التي بثتها شعرية قيس وخلقت لها مدرسة سرعان ما انضوى تحت لوائها الكثير من العشاق الذين اتخذوا من القصيدة هوية لهم في مدرسة الحب العذري. فعلى الرغم من أن هذا النوع من الحب الذي يتخذ من العفة الجسدية بين الحبيبين شعارا له موجود قبل شهرة قيس المدوية بالتأكيد فهو مما يناسب عقلية العرب وأحوالهم النفسية ومفهومهم القديم للشرف المرتبط في كثير من معانيه بعفة نسائهم، إلا أن قيساً جعل من هذا العشق مدرسة حقيقية تتعدى شعراء وعشاق قبيلة بني عذرة وهي القبيلة التي اشتهر رجالها ونساؤها بهذا النوع من العشق الذي يودي غالبا بعقول أهله على الأقل إن لم يهلك حياتهم. وعلى الرغم من أن قيس بن الملوح قد اشتهر بصفته إمام العاشقين وبصفته مجنون ليلى، إلا أن هذا لا ينفي شهرته كشاعر مقدم من بين معاصريه من الشعراء العذريين وغير العذريين. وقد جمعت قصيدته الشهيرة والتي سميت بـ «المؤنسة» خصائص شعره بأوضح وأجمل وأشمل صورة لها، بالإضافة الى بعض من الخصائص المشتركة بين قصائد شعراء الغزل العذري بشكل عام. ويرجح بعض كتاب سيرة المجنون أن هذه القصيدة التي تعتبر أطول قصائد الشاعر وأشهرها، سميت بالمؤنسة لكثرة ترداد شاعرها لها أمام من يعرف ومن لا يعرف ممن كان يقصده ليسمع منه في عزلته الاختيارية، ويبدو أنه لم يكتف بذلك بل جعلها أنيسته في الوحدة الكاملة فكان يردد أبياتها لنفسه بصوت عالٍ عندما يخلو له الجو أو يظنه كذلك. ولعل في هذا السلوك ما ساهم في تكريس صورته لدى من كان يراقبه وهو لا يعلم كمجنون يكلم نفسه، مع أن ترداد الشاعر لأبيات قصيدته الأثيرة بصوت عالٍ أمام نفسه أو أمام المرآة لا يكاد يكون سلوكا غريبا بين الشعراء عادة، ويفهمه كثير منهم على أنه تعزيز للشعرية وإصرار عليها في اللاوعي. ويبدو أن قيساً كان سعيدا بإشاعة جنونه، الذي رسخه عبر بيت يقول فيه: يسمونني المجنون حين يرونني وهو بيت رغم أن الشاعر يعترف فيه بجنونه، إلا أنه بيت ينفي عنه هذا الجنون، فالمجنون لا يعرف ولا يعترف بذلك، لكنه استسلم للفكرة، ربما لأنها تشير إلى مدى تعلقه بليلى ومدى الظلم الذي لحقه ممن حولها وحوله من البشر.. وقبلهما وبعدهما لحق بمعظم العشاق على مدى التاريخ.
|