الجالس (قصة مترجمة)

 الجالس (قصة مترجمة)
        

ترجمة: أحمد عثمان**

          كان جالسا يتطلع إلى البحر. لم يسمعني لما وصلت. كان جالسا على مقعده المصنوع من القش، يتأمل قمة الصخرة. عقد ساقيه في بطء، ثم فكهما ثانية. لا يبالي بأي شيء. إنها ساعة الحظ، بالضبط قبل غروب الشمس. يسمي الإسبان هذه اللحظة بـ«الساعة الطيبة»، غير أن أحدا لا يعرف لحظة المناجاة.

          أتطلع إليه، كانت صورته نفسها، الإسكندراني، الكرواتي، أو البرشلوني، البيروتي، ربما، لا أهمية! إنها ساعته، ساعة توجد الضفتين، والبحر المتوسط عاطفة. أتوقف، أتراجع إلى الخلف، لا أود أن أزعجه. هبة ريح، لا فرق بين خارج وداخل الجسد، هزة خفيفة للمقعد، حلقات المرساة، حرارة النهار التي تنمحي في طراوة المساء، على مدار الزمن.

          أعرف هذا السلام الكامل، أعرف أن الحرب تماثله بصورة مخيفة، فهمت لماذا قالوا له إنهما يسيران جنبا إلى جنب، لقد كبرا فى نفس هذا الجوف المدوخ، هذا البحر الأزرق الغامق، العميق. يتطلع إلى البحر، يتمتع، ولم يتخيل أن الدوامة تسبب اضطرابات على سطحه، تسبب ألغازا لا نعرفها. كان هادئا مثلما حاله الآن، ولكن لا يمكن الوثوق فيه، يتنفس نفسا قلقا، نفسا باهظ الثمن محملا بضوضاء المعارك، بالأساطيل الغارقة، بالخوف العتيق. لقد جلب تدفق المياه الفينيقيين والقرطاجنيين والعرب الذين امتطوا الخيول على الأمواج، والعثمانيين في الصفوف المتراصة، وسيوفهم مرفوعة. نقل تدفق المياه اليونانيين، الرومان، الصليبيين، قعقعات الأسلحة، الخوذات الحديدية، السفن الشراعية الحربية. لماذا هنا، لماذا هنا دوما، لماذا في هذا المكان؟

          كان جالسا لما وجد لحظة ثبات غير محتملة. يتأرجح، يزفر خفية، لا أعرف إن كانت زفرة حسرة أو قناعة. المجد الغابر انقضى، لا يهم. يوناني، سوري، لا يهم. كان مهد الحضارة مغطى بأنسجة العناكب، وذلك الأمر لا يهمه البتة. ذاب الدم الأحمر-الأسود في المياه المالحة، يا للرياح الطيبة! أبجدية، أديان، فلسفات، حضارات أصبحت اليوم رجالاً.

          من الطيب أن أتركه بمفرده، أن أتركه في مكانه. عيناه مثبتتان إلى البحر دون أن تراه، تخترقانه، تبقيان فيه. هذا البحر لا يختزل إلى أي عرض، يهرب، يسيل، يتسرب، سره أكبر منه. بسمة الكاتب المصري، وشاح الهوية في يوغسلافيا المسيحية، وتركيا المسلمة، رسالة الصحراء ذات الطيات الثلاث، وبياض الأشرعة، التشابكات المثيرة للخط العربي.

          كف عن التفكير. بالنسبة له، انظروا إليه، كوب صغير، خبز، حبات زيتون، شذا الأعشاب الرطبة وجسد مستسلم لخافية هذه الساعة الاستثنائية، ليس لأجل التفكر وإنما، ببساطة، لأجل التأمل، هكذا، من دون أن يفكر، ممتزجا بالبحر، واضعا ساقا على أخرى، هكذا، هو ذا ما يطلبه شريطة ألا ننساه.

          ولكن من ينساه؟ «البحر المعتم» ليس سوى فناء خلفي، أفوله من دون عودة، غير أن العلامات موجودة هنا، نمت هذه الدور كما الجوارح، أحجية تتفاقم. لم يكن الجالس بعيدا عنها. اختلالات، جور، بطون حبلى، أنوار المدينة، قلاع مغلقة، فرقعات مخنوقة، أشياء غير محسوسة تسمم حياته. ماذا فهم؟ ليس للعدو أي وجه. يجب أن يواجه العمى، أن يثبت قدميه، أن يتعلم الصمود، ألا يسير كما يعرف.

          لم يكن ساذجا، كما أعرفه. إنه كورسيكي، صقلي، فلسطيني، قبرصي، لبناني. كيف وافق أن يكون دهان مساكن، عاملا عاطلا، مهاجرا، لجوجا على بوابة العالم، مرشحا للإقامة في مدينة الصفيح، منذورا للهجرة. ماضيه يرجع إلى زمن بعيد، يتستر تحت الأرمدة، اسمه أخذ بالثأر، أمة عربية، شرف ضائع، أرض خصبة، صفح. هذا مؤلم كوجع لا يخفت البتة، كخرافة لا تتبدد البتة، كبركان لا يخمد أبدا.

          تكيف مع واقعه الحالي، غير أن طيف المجد الضائع منعه من الذوبان، صلب جسده، ربطه بالأرض، عاقه. بالنسبة له، كل شيء طيب عن هذا الحاضر البائس، هذا البحر السائر نحو الموت المقبول، المنقاد إلى نهايته. رأس بغلة، هو ذا كما كان، وضعه معقد، السير إلى الأمام مسدود، السير إلى الخلف مستحيل، هذا مستبعد، من قبل الآخرين ومن قبله في آن معا لقد سقط في الوحل. أمن الضروري أن يقترب منه، أن يربت على كتفه، أن يقوده ثانية على الأرض؟ واقفا خلفه، كعلامة شؤم، إن شاء يسخر منه. هذا غير مهم. يستطيع أن يصرفه بفرقعة إصبعين. يعتقد أنه من غير اللائق التحرك، والعظمة التي أبيدت لن ترجع ثانية، وإنما تبقى - بما فيه الكفاية - الرموز، يتبقى - بما فيه الكفاية - الغبار لكي يجتاز الإقليم، لكي يجبر العالم على زيارة أصوله، ينحني عليها ويتأملها. لن يفعلها، لا أحد يحتاج إليها، يهرب، يعتقد أنه يستطيع الهرب، يتعطل، ينتصب ثابتا، ولامبالاته جزء من الدراما. يتطلع إلى البحر، ينتظر عودة التوازن، هل سيحضر؟ يحتفظ بالأمل، يحتاج إلى الموت، اقتحام الموت، لكي يأخذ الأمور بجدية، عليه أن يلمسه. كان من غير المفيد إزعاجه.

          لم أتحرك، يعتدل، ينظر إلى الأشياء الواقعية، الشمس التي تشطر الأفق، طلاوة الألوان. إنه عجوز، إنه شاب، طفل مخذول، شيء عتيق ينتقم. تتلاشى الشمس، تتبدد الساعة الساحرة.

          يلتفت ناحيتي، يشير إلي بالتحية، ينتصب واقفا، ربما لا يفكر في شيء محدد، ربما تناعس. الآن، يجب أن أقول له، في اليانصيب الكبير، توقفت الحرب عند رقمه. لقد سقط الشقاء اللامبالي على مدينته، كل مكان من أماكن طفولته أصبح اسم موقع. عادت العلامات ثانية، مسكنه يحترق والضوء يتصاعد منه.

          يتجه نحوي، يمد يده، لم يتبق له سوى لحظات قليلة من السلام. لقد مكثت امرأته تحت الأنقاض، وانقلبت ذكرياته. يقترب اللامبالي، أكثر الرجال حبا للسلم، من سيتحول إلى نقيضه، من سيرغب في الثأر، من سيصبح، هو نفسه، ذراع التوازن، أذناي تطنطنان؟ ومياه البحر تضرب قدمي من دون توقف، تفرحني، تصر على ضرب قدمي، فهل ستتوقف؟.
--------------------------------------
* كاتب لبناني يكتب بالفرنسية، كُتِبت القصة قبل أن تفكك يوغسلافيا والجزء الذي احتفظ بالاسم القديم تسكنه غالبية مسيحية أرثوذوكسية.
** مترجم من مصر.

 

تأليف: سليم نصيب*
ترجمة: أحمد عثمان