من ملامح الشخصية الأندلسية: المضحكات والنوادر

 من ملامح الشخصية الأندلسية: المضحكات والنوادر
        

          لم تعدم المجتمعات الإنسانية أنْ كان لها نوادر وطرائف وحكايا مسلية في كل مكان، وحتى اليوم، فتلك حاجة طالما أحست الشعوب بها، وأقبلتْ عليها، وأصبح لها منها أشياء تروى، ويحفظها التاريخ المكتوب عبر الأجيال. وكنا قد وقفنا على جملة من ذلك في كتب التراث العربي من مثل كتب الأمالي والنوادر والحكايا والمجالس، مثل أمالي القالي البغدادي ومجالس ثعلب ونوادر الحمقى والمغفلين لابن الجوزي، والرسائل كرسائل الجاحظ (ت255هـ) على سبيل المثال.

          كان هذا في المشرق العربي، أما في شبه الجزيرة الإيبيرية التي تألفت منها إسبانيا والبرتغال الآن، حيث الأندلس، وحيث استمر الوجود العربي هناك زهاء ثمانية قرون (92هـ-897هـ)، قبل أن يكون لنا «فردوس مفقود»، فقد نسج الأندلسيون على منوال إخوانهم المشارقة في رسم ملامح الثقافة والتعلق بأسباب العلم والمعارف المختلفة، وتشبثوا بتلابيب الكتاب يودعون فيه ما توصلوا إليه من ذلك كله، كما كان لهم المجال الواسع في رسم ملامح مجتمعهم وخصوصياتهم.

          ومن حسن الحظ أن يؤلف ابن عاصم الأندلسي (أبو بكر محمد بن محمد بن عاصم الغرناطي ت 829هـ) كتاباً في هذا الموضوع يسميه «حدائق الأزاهر في مستحسن الأجوبة والمضحكات والحكم والأمثال والحكايات والنوادر» فيقسمه على خمسة فصول يسمي كل فصل حديقة ويخصص الحديقة الثالثة بالطرائف والمضحكات والنوادر، ويضمنه بعض ما للأندلسيين من ذلك، فيصل إلينا هذا الكتاب كاملاً.

          غير أنَّ التأليف في هذا الباب في كتب مخصوصة جاء متأخراً جداً في الأندلس كما هو واضح من تاريخ حياة المؤلف ابن عاصم الأندلسي، فلم يسبقه إليه مؤلف آخر، على ما نعرف، وأغلب المضحكات والطرائف إنما ترد في كتب الأدب العامة والمنوَّعة، أو في كتب التراجم منسوبة إلى أصحابها، مع أنَّ الأندلسيين لم يتأخروا عن تقليد المشارقة، أو النسج على منوالهم في جميع ما للأدب والمعارف من مجالات وضعٍ وتأليف، مع احتفاظهم بما عهدناه من خصوصياتهم.

          ولا أجد لهذا سبباً غير الضياع الذي مُنيت به تآليفُ الأندلسيين وكتبهم عبر أزمنة متطاولة، وأمكنة بعيدة عن المشرق العربي الذي بقيت آثاره بين أصحابها، بينما ترك العرب المسلمون فردوسهم المفقود، وانفصلوا عنه بقليل من الآثار، من غير رجعة.

طبائع أهل الأندلس

          طبع الأندلسيون على حب مباهج الحياة والإقبال على النزه والراحات، والتمتع بما وهبه الله للطبيعة الأندلسية التي عاشوا فيها من جمال ومفاتن. قال شهاب الدين المقري التلمساني (ت 1041هـ) في كتابه أزهار الرياض، نقلاً عن لسان الدين بن الخطيب: «خصَّ الله بلاد الأندلس من الريع، وغدق السقيا، ولذاذة الأقوات، وفراهة الحيوان، ودرور الفواك، وكثرة المياه، وتبحر العمران، وجودة اللباس، وجودة الآنية، وكثرة السلاح، وصحة الهواء، وابيضاض ألوان الإنسان، ونبل الأذهان، وقبول الصنائع، وشهامة الطباع، ونفوذ الإدراك، وإحكام التمدن والاعتمار، بما حرمه الكثير من الأقطار، مما سواها» (1 / 61).

          وإذْ يعدِّد ابن الخطيب طبائع الأندلس ومفاخرها لم يفتْهُ أنْ ينص على مفاخر أهلها مِن مثل نبل الأذهان ونفوذ الإدراك، وهذا يقودنا إلى تقرير ما كان للأندلسيين من نباهة، واتقاد أذهان، يطبعهم بسرعة البداهة، وحضور النوادر، غير أن ما نقلته إلينا المصادر مما صدر عنهم من طرائف ونوادر يؤكد صدق ما وصفوا به من تلك الطبائع، وقد اتفقت جميعاً على أن الأندلسيين كانوا مولعين بالمُضحِكات،، مُقبلين على النوادر وأسباب اللهو، حتى أن بعض ملوكهم كانوا يتنكرون ويشاركون الناس أفراحهم واحتفالاتهم.

          على أن نبل الأذهان ونفوذ الإدراك لا يكفيان لرسم هذا الملمح من ملامح المجتمع الأندلسي، أو أي مجتمع آخر، وحيث لا نجد مجتمعاً من المجتمعات يخلو من هذا الجانب، فإن علينا تقرير الحاجة إلى التفريج عن النفس، والتنفيس لتحاشي الكبت أو الغضب الداخلي، ولعدم الإصابة بأمراض نفسية لا عضوية، وفتح نوافذ تحت الشعور للتخلص من الانفعالات الحبيسة، كما يقول علماء النفس التحليلي.

طائفة من الطرائف

          وكان لكل مدينة نوادرها وحكاياها المضحكة. يقول ابن سعيد الأندلسي (ت 685هـ) في كتابه «المُغرب في حلى المَغرب» في خلال حديثه عن مدينة غرناطة الأندلسية: «أهل أشبيلية أكثر العالم طنزاً وتهكماً، قد طبعوا على ذلك. وكان المعتمد بن عباد كثيراً ما يتستر، في واديم ومظان مجتمعاتهم، ويمازحهم، ويصقل صدأ خاطره بما يصدر عنهم» (1 / 287).

          ومن طرائف المعتمد بن عباد ملك أشبيلية أنه مرَّ «ليلةً بباب شيخ منهم مشهور بكثرة التندير والتهكم يمزج ذلك بحرَد يُضحك الثكلى، فقال المعتمد لوزيره ابن عمار: تعال نضرب على هذا الشيخ الساقط البابَ، حتى نضحك معه، فضربا عليه بابه، فقال: من هو؟ فقال ابن عباد: إنسان يرغب أن تقد له هذه الفتيلة، فقال: والله لو ضرب ابن عباد بابي في هذا الوقت ما فتحته، فقال: فإني ابن عباد، قال: مصفوع ألفَ صفعة، فضحك ابن عباد حتى سقط على الأرض، وقال لوزيره: امضِ بنا قبل أن يتعدى القول إلى الفعل، فهذا شيخ ركيك. ولما كان من غد تلك الليلة وجه له ألف درهم، وقال لموصله يقول له: هذا حق الألف صفعة مَتاع البارحة». (المغرب: 1 / 287)

          وعن أشبيلية نفسها يحدثنا صاحب الحدائق عن فقيه لوذعي من أهلها كان قد جلس يوماً مع طلبته في نزهة، وكان بين أيديهم طعام، فيه بيض، فتكلم بعض القوم بكلام فيه ضعف، فأخذ الفقيه فص بيضة، فألقاه قدامه، ففطن القوم وضحكوا. (الحدائق: ص 91)

          وذكر أنه «كان بقرطبة رجل يعبر المنامات، وكان لا يحسن فيها شيئاً، فأتته امرأة وقالت له: يا سيدي، كنت أرى في المنام، أني جالسة وفي يدي قيدوم، قال لها: زوجك يقدم، قالت له: يا سيدي، كيف يقدم زوجي وهو ميت؟ قال: يا حمقاء، القيدوم يسوقه، ولو كان ميتاً من ألف سنة. (ص 57).

          وكان ابن عبدالنور من أهل ألمرية، مع فطنته في العلم، كثير التغفل، يحكى أنه تفقد قدراً كان يطبخ فيه، في بعض متنزهات الطلبة، فذاقه فوجده ناقص الملح، فزاد فيه غرفة، وبقي فيه من المرق ما في المغرفة دون ملح، ثم عاد فذاق ما بالمغرفة، فلم يجد طعماً، فزاد إلى أن بلغ الملح بالقدر بحيث لا يصلح للأكل البتة. (الحدائق: ص 117-118).

          وفي غرناطة كان رجلان أحمقان، يقال لأحدهما حسين، وللآخر يحيى، فاشترى يوماً يحيى زناراً جديداً، فرآه حسين عليه فأعجبه، فقال له: جرده ألبسه أنا أقيسه، والبس أنت زناري، فلبسه حسين، وأعطاه زناره المبتذل، ونظر عليه يميناً وشمالاً، ثم ذهب إليه مسرعاً، فقال له: جرد زناري، وذهب خلفه، إلى أن وصلا إلى البيازين، واجتمع عليهما الناس، فلم يقدر أحد أن يجرده له، فقالوا له: رد زناره فنشتري لك غيره، ففعلوا، وبقي ذلك الزنار عليه. (الحدائق: ص 125)

          وذكر صاحب «الروض المعطار» نادرة من نوادر أبي الوليد هشام بن أحمد بن هشام بن خالد الكتاني الوقشي من أهل طليطلة، الذي كان قد ولي قضاء طلبيرة، وعني بالهندسة والمنطق، وذكر أنه مليح النادرة، وقال: «إنه اختصم إليه رجلان فقال أحدهما: يا فقيه اشتريت من هذا اثني عشر تيساً حاشاك، فقال له: قلْ أحد عشر». (ص 611).

          ومن نوادر القراء ما ذكره ابن سعيد من نوادر الأستاذ النحوي هُذيل حيث «جاءه يوماً للقراءة صبي متخلف، فكان أول ما قرأ عليه بيت كثير:

          (حَيَّتك عزة بعد الهجر وانصرفتْ) قال مصحفاَ: جئتُكَ عُرة ً، فقال الشيخ: وأكثر!، بالله يا ولدي تروح، ولو قريت سنة. فأضحك الحاضرين، وكان يقرأ عليه بربري جعد الشعر قبيح الوجه، فوقف يوماً على: (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا) ... فقال: لأي شيء بالله؟ لحسن وجهك وطيب شعرك؟». (المغرب: 1 / 270-271).

          ومن طرائف الشعراء ما ذكره ابن سعيد عن عبيدالله بن جعفر الأشبيلي الذي كان يكثر من زيارة صديق له، وذلك الصديق لا يزوره فكتب مرة على بابه:

يا من يُزار على بعد الديار ولا
                              يزورنا مرةً ما بين مراتِ
زر من يزروك واحذر قول عاتبةٍ
                              تقول عنك: فتى يُؤتى ولا ياتي

          (المغرب: 1 / 267)
          ...

          هذا ملمح من ملامح الشخصية الأندلسية، وهو ملمح ذو أهمية كبيرة إذا أخذنا بالحسبان ما تشكله الطبائع من أهمية في دراسة خصائص المجتمعات الإنسانية..
---------------------------
* كاتب من العراق.

------------------------------------

يقولون ليْلى بالْعِرَاقِ مَريضةٌ
                              فَمَا لَكَ لا تَضْنَى وأنْتَ صَديقُ
سقى الله مرضى بالعراق فإنني
                              على كل مرضى بالعراق شفيق
فإنْ تَكُ لَيْلَى بالْعِراقِ مَريضَةً
                              فإني في بحر الحتوف غريق
أهِيم بأقْطارِ البلادِ وعَرْضِهَا
                              ومالي إلى ليلى الغداة طريقُ

قيس بن الملوح

 

 

 

مقداد رحيم