شعرية الفوضى الخلاقة.. نثرية الكتابة الجديدة
شعرية الفوضى الخلاقة.. نثرية الكتابة الجديدة
سبق أن نشرت العربي في عدد سابق مقالاً للناقد محمد الشحات تناول فيه مسيرة القصيدة النثرية الحديثة، وهنا يستكمل الناقد رصده لجماليات هذه القصيدة: -1- سبق أن ذكرنا، في مقال سابق نشرته مجلة «العربي»، أنه يمكن لمؤرّخي الأدب العربي الحديث والمعاصر التأكيد على أن قصيدة النثر العربية قد مرّت بثلاث موجات متصاعدة على الأقل منذ خمسينيات القرن العشرين إلى الآن: أولاها موجة الخمسينيات التي تمثّلت في أعضاء مجلة «شعر» ومن تبعهم، تلك الموجة التي امتدّ تأثيرها إلى تحولات الستينيات العربية، بما انطوت عليه من أحلام قومية و«سرديات كبرى» (يوسف الخال، وأنسي الحاج، وأدونيس، ومحمد الماغوط). وثانيتها موجة كتّاب السبعينيات والثمانينيات التي تجلّت في نصوص كل من (أمجد ناصر، سيف الرحبي، بول شاؤول، سركون بولس، عباس بيضون، عبدالمنعم رمضان، حلمي سالم، عبدالمنعم رمضان، رفعت سلام، حسن طلب، عدنان الصائغ، إسكندر حبش، عابد إسماعيل، ...إلخ). وثالثتها الموجة التي جمعت تحت هديرها أرباب الكتابة الجديدة، أو «الكتابة الأخرى»، الذين بزغوا متناثرين في زوايا المشهد الشعري العربي مع بلوغ العقد الأخير من القرن العشرين، ساعين إلى تلمّس مكامن المغايرة وبقاع الاختلاف. وبالتوازي مع مدّ الموجة الثالثة - فيما نتصور - نشأت ظاهرة «السردية البديلة» التي أنتجتها أفكار جيل التسعينيات ومن استظلّوا بمظلّته من شعراء وقاصين وروائيين دون فارق كبير. لقد حاولت النصوص الجديدة (القصصية بداية، والشعرية لاحقا) أن تقيم سرديتها على أنقاض السرديات السابقة (السردية الناصرية، السردية الساداتية، سردية المهادَنة مع المستعمِر.. ) التي سقطت جميعها في لحظة ما من لحظات التاريخ، وهَوَى ما أحاط بها من هالة سحرية، نتيجة أزماتها المتكررة غير القابلة للحل. إن السردية البديل هي سردية تسعى إلى نقض أقانيم السرديات الكبرى (الأوربية والأمريكية غالبا) عن التحرير والتنوير والسلام والعدل والحق والخير والجمال، .. إلخ، بالمعنى الذي أرسته فلسفة الحداثة؛ لأنها تهدف إلى تفكيك مقولات السرديات الكبرى، وزعزعة مركزيتها والتشكيك في أيديولوجياتها. وقد وجد هذا الطرح السوسيوثقافي تمثيلاته النصّية الدالّة في قطاع عريض من النصوص القصصية في بادئ الأمر (لدى كل من: عزت القمحاوي، منتصر القفاش، حمدي أبوجليل، نورا أمين، غادة الحلواني، منصورة عز الدين، إبراهيم فرغلي، مصطفى ذكري،.. وغيرهم)، ثم تبعتهم بعض الأصوات الشعرية التي وجدت في قصيدة النثر نموذجها الفني ورهانها الجمالي الذي أتاح لها قدرا كبيرا من التجريب والممارسة الشعرية الحرّة. عند هذه اللحظة المفصلية، على المستويين الاجتماعي والثقافي، غدت قصيدة النثر - إلى جوار النصوص المفتوحة والمتداخلة، أو عبر النوعية، والنصوص التجريبية - أبلغ تجسيد لقيم «الكتابة» الجديدة التي استطاعت أن تواكب أحلام الثورات الجماهيرية المكبوتة طوال ما يزيد على نصف قرن، بحثا عن مزيد من الحريات غير المشروطة. لغط أكاديمي لقد أحاط بقصيدة النثر العربية - كغيرها من قصائد نثر غير عربية أيضا - الكثير من اللغط الأكاديمي والتنظيرات النقدية المتعجرفة، فضلا عن تداول بعض المقولات الجاهزة والطروحات المتحذلقة والألغاز والاصطلاحات وأحكام القيمة المسبقة والاستهجانات والشعارات البرّاقة، وكل ما كان من شأنه الحدّ من شيوع هذا الجنس الأدبي في فترة من الفترات، سواء على مستوى التلقّي الإمبيريقي الذي ينفتح على إمكان التداول القرائي الحرّ (حيث سوق النشر المفتوح وعالم الطباعة، المشاركة في المهرجانات والفعاليات المحلية والدولية، الظهور الإعلامي عبر الميكروفون وعلى الشاشات، ..)، أو على مستوى المتابعات النقدية والدرس الأكاديمي (المقالات الصحفية، الكتب النقدية، الرسائل الأكاديمية). وبسبب هيمنة هذه التصورات غير المطابقة للواقع في كثير من الأحيان، شرع بعض الدارسين ينطلقون في مقارباتهم النقدية لقصيدة النثر من موقع «أيديولوجي» يجبرهم على تقمّص أدوار نقدية مغلّفة بأحكام مسبقة تقع إما في منطقة التأييد وإما الرفض، وكلاهما موقف أو «موقع» بلغة يمنى العيد - منحاز بالضرورة؛ لأنه يحدّ من إمكانات أي قراءة خلاقة أو مقاربة نقدية حرة تسعى لالتقاط نغمات (و«نشاز» أيضا) هذا النوع المتمرّد منذ ولادته في المشهد الإبداعي العربي. -2- بعيدا عن الشبهات التي ترتبط بنظرية المؤامرة، ودون تعمّد أو قصدية، ارتبطت نشأة قصيدة النثر العربية بصياغة «نموذج إرشادي» Paradigm (بلغة توماس كون في كتابه «بنية الثورات العلمية») يعدّ بديلا لنظرية «الإيقاع» وللنظرية الشعرية الكلاسيكية برمّتها. وهو «تحوّل شامل كان من الطبيعي أن يطول النماذج الإرشادية في النظم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية»، كما يقول هويسن في محاولته رسم خريطة لما بعد الحداثي (ضمن كتاب إيجلتون: «مدخل إلى ما بعد الحداثة»). أقصد أن القصيدة قد تحرّرت من أسر الإيقاع، بمعناه القديم، الذي ظل مربوطا بعنقها وذيلها، كطائر مسكين رقيق قُدِّر له أن يكون مقيّدا بسلسلة ذهبية، دون أن يدري صاحبه أن بهجة الطائر بامتلاك جناحين خفّاقين لا يكافئها ذهب الدنيا بأسرها. لقد انشدّ مفهوم الإيقاع، بإرثه المثقل، إلى طبقات من النمذجة والتنميط تَرَاكب بعضها فوق بعض بفعل تكدّس المتون والنصوص والخطابات الشعرية والبلاغية والنقدية التي تمتاح من مقولات واجتهادات ورؤى تتكئ، في أغلب الأحيان، على نماذج مستقاة من الموروث الشعري العربي في أشكاله المختلفة، مع إهمال مجحف، ومتعمّد غالبا، لإمكان اختبار وجه آخر للإيقاع في مدونة عريضة ومتنوعة من النصوص النثرية والفلسفية والتصوفية والرسائل والمخاطبات والتأملات التي كان يمكن أن تؤسس لـ «نثرية عربية» قد تغيّر من نظرية الشعر العربي جملة وتفصيلا، حتى من قبل أن نسمع، بسنوات وربما عقود، عن كتاب سوزان برنار (قصيدة النثر: من بودلير إلى أيامنا..)، المزعج برطانته وتكراراته اللحوح وتهويماته وحذلقته، ودأب صاحبته المثير للحسد ومكامن الغيرة البشرية أيضا. بدائل الإيقاع لذا، لجأ بعض شعراء قصيدة النثر - واعين حينا أو غير واعين حينا آخر - إلى خلق بدائل لـ «الإيقاع» تتغيّر تبعا لثقافة كل منهم، في ضوء فهم خاص لنظرية النوع الشعري الذي تمّ اختزاله تعسّفا - في مفهوم «الإيقاع»، على حساب «الصورة» وطاقة المجاز، بينما اجترأ بعض آخر منهم على تفجير الطاقة «الشعرية Poetic/ النثرية Prosaics» التي تخلقها كل قصيدة نثر حقيقية تسعى إلى أن يكون «الشكل» أو «الأسلوب» - بالمعنى «النّوعي Generic» الذي كان طرحه ناقد مثل ميخائيل باختين (1895- 1975)- استجابةً لحالة جمالية متجذّرة في اللاوعي الشعري وليس مجرّد زخرف أو إطار يغوي، و/أو يخدع، القرّاء بحداثة شكلية لا فلسفةَ كامنةً وراءها. وهو كلام شبيه، إلى حد ما، بما قال به العقاد في بداية القرن وذكرناه في مقال سابق. وعند هذه النقطة، تصبح قصيدة النثر - بل كل قصيدة نثر تسعى لأن تكون متوهجة مشرقة مؤثرة - استجابة لوعي شعري حادّ يطرح منظورا مختلفا للنوع الشعري في ضوء تصور مغاير كليا لمفاهيم الإيقاع والصورة الشعرية/ النثرية. من هنا، يمكن أن نفسّر السبب في إلحاح سوزان برنار - وكتابها نموذج للكتابة الحِجَاجيّة، كما سبق أن أشرنا - على كون قصيدة النثر ما هي إلا «قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بللور... بحيث تكون خلقا حرّا، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، أو شيئا مضطربا، إيحاءاته لانهائية». وبذلك تنطوي قصيدة النثر «على قوة فوضوية، هدّامة، تطمح إلى نفي الأشكال الموجودة، وقوة منظّمة تهدف إلى بناء «كلٍّ» شعريّ في آن؛ ومصطلح قصيدة النثر نفسه يُظهرُ هذه الثنائية» التي تعتمد على تفجير الحالة الشعرية الكلّية للقصيدة التي ترتكن إلى بعض الاشتراطات مثل «الإيجاز والتوهج والمجّانية». مبدأ الفوضى الخلاقة إن ما تصف به برنار قصيدة النثر هو ما يمكن تسميته، بلغة أخرى، اشتغال الكتابة الشعرية الجديدة على مبدأ «الفوضى الخلاقة». أقصد إلى تضمّن القصيدة قوتين متكافئتين في المقدار متضادتين في الاتجاه، حسب قانون نيوتن. أولاهما: قوة الطرد المركزية التي تعمل نحو الخارج (الفوضى، اللاتعيين). وثانيتهما: قوة الجذب المركزية التي تعمل نحو الداخل (النظام، البنية). فاشتغال هاتين القوتين معا، أي النظام والفوضى، نحو الخارج ونحو الداخل، هو ما ينتج مقولات من قبيل التوهج (أو الإشراق) والمجانية (اللازمنية) والتكثيف (الاختزال). وبقدر من التبسيط الشارح، فإننا لو تخيلنا الطريقة التي يعمل بها مولّد صغير الحجم (أو موتور) يحتوي على غلاف مغناطيسي ومحور معدني دوّار، فإن ثمة قوتين تتصارعان، قوة الطرد وقوة الجذب، وينشأ من تضادهما معا طاقة كهربائية. وإذا ما استبدلنا بقوتي الطرد والجذب مصطلحا الفوضى والبنية، في إطار الحديث عن الشعر، فإن تصارع القوتين وتكافؤهما سوف يحافظان بالضرورة على وضعية الاهتزاز واللاإشباع، حيث تتولد الطاقة الشعرية/ النثرية التي هي جوهر قصيدة النثر. ومع ذلك، فلا قانون محدَّدا أو محدِّدا - لكتابة قصيدة واحدة من هذا النوع. فالفنون بطبيعتها تتأبّى على القوانين والنظريات. الفنون ثورية كالجماهير المتطلعة دوما لمزيد من الحراك والتغيير. -3- يكمن رهان هذا الطرح النقدي في افتراضنا في أن قصيدة النثر العربية تحديدا لا ينبغي النظر إليها باعتبارها جنيناً شرعيا لتحولات الشعرية العربية المتباينة في بعدها التاريخي، كما حاول الكثير من الباحثين إثبات صحة هذه المقولة، متأثرين في ذلك ربما بقصيدة النثر الغربية، حيث راحوا يجتهدون في البحث عن مفهوم جديد للإيقاع أو البحث عن قيم مغايرة لتطور «الشعرية» من منظور نقدي (وأيديولوجي) ينهض على مقاربة قصيدة النثر مقاربة منغلقة؛ الأمر الذي أنتج كمًّا هائلا من التناقضات والمغالطات، وذلك لجملة أسباب: أولها: أن القصيدة النثرية فن مخلص لقيم «الهجنة» Hybridization الثقافية، أو التوليد الإبداعي، في شتّى مجاليه: هجنة الأجناس والأنواع وتلاقح الأشكال والأساليب الكتابية المختلفة. وهي تقترب في هذا الفهم من دلالات الهجنة بالمعنى الزراعي المستخدم في المشاتل و«علم البستنة»، حيث يستطيع البستاني المتخصص إنتاج صنف نباتي جديد هو - في حقيقة الأمر - محصلة تلاقح، أو تهاجن، عدد متنافر من النباتات بحيث يستطيع هذا الكائن الوليد أن يقاوم الظروف البيئية المعقدة، في الوقت نفسه الذي لا يمكن لأحد أن يدّعي نسبته جينيا إلى أب (عائل) وحيد. الأمر نفسه تقريبا ينطبق على تلاقح الآداب والفنون. فقصيدة النثر فنّ هجين تمتزج فيه مظاهر الشعرية والدرامية والملحمية، كما تختلط فيه جماليات السردي بالغنائي والمسرحي، التراجيدي بالكوميدي، الجدّ بالسخرية، السامي بالوضيع، دون هيمنة أحد الأطراف على الآخر إلا بمقدار نسبي يختلف من قصيدة إلى أخرى، ومن شاعر إلى آخر في ضوء رؤيته لعالم الشعر ونظرية الفن بشكل عام. وإذا تطرفنا في تحليل قيم الهجنة بدلالاتها الثقافية نجد باحثا مثل ستيوارت هال Stuart Hall يفترض، في بعض أبحاثه، أن: «الدول الحديثة كلها عن عبارة هجين ثقافي، وأي ثقافة وطنية تقطعها تقسيمات داخلية وفوارق، وهي تتحد فقط من خلال ممارسة أشكال مختلفة من القوة الثقافية، وينطبق ذلك بالطبع على مفهوم أوسع مثل الثقافة العربية». تجاور المختلف إن قصيدة النثر جنس أدبي يقتات من ثقافة الصورة والتطور المذهل لعلم الموسيقى وقيم عصر «الكتابية». إنها شكل يمتاح من تفجير النظام في الفوضى، وتفجير الفوضى في النظام كما كانت تقول سوزان برنار. إنها أقرب إلى ما يعرف في العلوم السياسية باسم نظرية «الفوضى الخلاقة Creative Chaos» التي أشرنا إليها آنفا. لقد استخدم مصطلح «نظرية الفوضى»، بشكل عام، في عمليات التطوير المنظّم الذي تنطوي عليه مبادئ ميكانيكا الكم Quantum في نظرية الفيزياء. إن كثيراً من الناس الذين يعملون في مجالات الإبداع غالبا ما يفضلون بيئة فوضوية أو غير منظمة من حولهم وهم يشتغلون على أفكار جديدة أو مشروعات طموح. فبابلو بيكاسو قال ذات مرة: «أي عمل فني يبدأ كعمل من أعمال التدمير»، في إشارة دالّة إلى هذه الظاهرة المعروفة باسم «الفوضى الخلاقة» التي تحدث دائما عندما يتم تدمير الأنماط الثابتة Stereotype الجاهزة سلفاً، بالتزامن مع ترقّب المرء شيئاً جديداً سوف ينجم عن الفوضى المتولّدة بدورها من قوة تدمير إيجابية. ووفقا لما تنطوي عليه المقولة القديمة «لا يمكن للمرء أن يصنع طبقاً من العجّة، دون كسر بعض البيض»، فإنها تتضمن تعزيزاً لحالة الفوضى الخلاقة التي نمارسها يوميا دون أن ندري، حيث لا يمكن للمرء - على سبيل التندّر - أن يصنع طبقاً مثيراً وشهيّاً من البيض، دون حرق المقلاة أو تحطيمها وكسر بضع بيضات. على الرغم من وجود عبارة الفوضى الخلاقة في أدبيات الماسونية القديمة، فقد أشار إليها الباحث والكاتب الأمريكي الشهير دان براون Dan Brawn أكثر من مرة. بيد أن المصطلح لم يطفُ على سطح الخطاب السياسي المعاصر إلا إبّان الغزو الأمريكي للعراق في عهد جورج بوش (الابن)، وتحديدا في تصريح وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس في حديث لها أدلت به إلى صحيفة «واشنطن بوست» في شهر أبريل (نيسان) 2005. إن أي مقاربة نقدية لقصيدة النثر من منظور الدراسات الشعرية (البويطيقا)، وحدها، تلك التي تأسّست مع النظرية البنيوية المنغلقة على ذاتها، تبدو بالنسبة إلينا مقاربةً نعّامية (نسبة إلى النعّامة) سوف تغمض عينيها وعقلها عن إدراك جوهر القصيدة النثرية المتخم بالتنوع والحوارية وصراع الأضداد والكرنفالية وكتابة الصورة وإيقاع النشاز؛ لأنها جنس وفيّ لفنون المدينة الحديثة، مدينة التنوع والتجاور والصراع، كما كان يقول رولان بارت في حديثه عن «السيميائية والتمدين». ثانيها: تجسّد قصيدة النثر، عبر قطاع عريض من نصوصها، ذلك التوظيف العجيب أو التلاقح المثير للدهشة بين عدد متنافر من الأفكار التي تنتمي إلى نظريات وتيارات ومذاهب فلسفية غربية وشرقية، مادية وروحية، في آن، تجاورا مخيفا يجمع بين الوجودية والتصوف والعدمية، الرمزية والطبيعية والبرناسية، السريالية والواقعية، الرأسمالية والاشتراكية.. إلخ. ثالثها: تجاهل أغلب نصوص قصيدة النثر - ومن ثم رفض شعرائها - مفهوم «الشعرية» حسب التصور الأرسطي، ثم البنيوي فيما بعد، الذي لا ينظر إلى «الإيقاع» إلا عبر منظار نظرية العروض الخليلية. لذا، فإن الدارسين الذين يبحثون عن شعرية القصيدة النثرية، انطلاقا من حقل الشعريات الأرسطية أو البنيوية وحدها (بما في ذلك البويطيقا والسيميائيات)، ومن يشتغلون على تجليات الإيقاع في القصيدة النثرية منطلقين من التطور الدياكروني لمسار الشعرية العربية (القصيدة العمودية/ قصيدة التفعيلة/ قصيدة الشعر الحر (المرسل)/ قصيدة النثر) سوف يسقطون لا محالة في هوّة سحيقة من العبث والفوضى وسوء الفهم كالباحث عن أسماك السلمون في مياه الآبار السحيقة، غافلاً عن مصبّ شلال متدفّق، هناك على مرمى البصر، وسط أخاديد جبلية نابعة من سحب ركامية سوداء.
|