الهابطون من السماء (قصة قصيرة)

الهابطون من السماء (قصة قصيرة)
        

          سنوات خمس كانت تفصلني عن إبراهيم، الذي لم يعبر سن الثالثة بعد، شقيقتاه الكبريان كانتا تنهراني كثيرًا قبيل مولده وحتى بلوغه عامه الأول، عندما كنت ألعب على البسطة التي بين شقتينا، أخي الأكبر أيضا عندما كان يعود من ثكنات الجيش في كل إجازة، كان يعنفني بشدة لأني ضايقتهما، غير أنه بعد أن فسخ خطبة أخت إبراهيم الكبرى لم يعد يهتم بزجري ولا بتحذيري من اللعب على البسطة.

          حين ولد إبراهيم زغردوا وهللوا، وقاموا بعمل عقيقة في «سبوعه»، أبي حضر العقيقة، بينما انصرفت أمي بسرعة بحجة أني محموم، أخي أيضا لم يحضر العقيقة مدعيا أنه حبيس سجن الوحدة العسكرية، كما علمت من حوار أبي وأمي ليلا وأنا أتنصت عليهما.

          في ذاك اليوم البعيد جدًا، لم يفتح بابهم بمجرد خروجي إنما كان مواربا وإبراهيم واقفًا أمامه ينتظرني، وكانت بحوزتي كرة بلاستيكية أهداها إليّ أخي من أول راتب له، رأيت إبراهيم، فخبأتها خلف ظهري لكنه لمحها، وأصر على الإمساك بها وتحسسها، ناولتها له على مضض، أشار إليّ بأن أبتعد حتى نهاية البسطة، ثم وضع الكرة على الأرض وحاول ركلها بقدمه الصغيرة، نجح مرة وأخفق مرات، وفقدت الاهتمام بما يفعله من زهقي ورغبتي العارمة في لقاء أصدقائي لأريهم كرتي الجديدة، «نتشتها» منه فغضب ثم بدأ في البكاء، خشيت أن تخرج أمه أو إحدى شقيقتيه وتؤنباني فحضنته في محاولة لإسكاته، وظللت أهمس في أذنه وأقطع على نفسي عهودًا بأني سأعود بسرعة وسألعب معه طويلا، أخيرا تبسم وبدا وجهه راضيا، انتهزت الفرصة بسرعة وعدوت على الدرج والكرة في حضني وصوته يسبقني قبل الوصول إلى بسطة كل طابق أصل إليه «باي»، ولما بلغت فناء البيت وكنت في مواجهة باب المنزل الخشبي وصلني صوته أكثر قوة وهو ينادي بإلحاح باسمي المجرد من الحروف الزائدة، رجعت إلى مسقط السلم الذي يتيح لي رؤيته خلف «الدرابزين» في الأعلى، رأيته ونصفه أعلى الدرابزين، ولما رآني مد كفه الرقيقة وقال «باي» رددت التحية واستدرت تجاه باب الخروج بخطوات أسرع، بادرني صوت مدوٍ مكتوم في نهايته، كأن أحدًا نجح في إلقاء وسائد من القطن والأسفنج عليه لوأده، التفتّ فوجدت إبراهيم راقدًا على ظهره، هرعت إليه وارتميت عليه أتحسسه، كان جسده كله سليمًا وبضعة دماء سوداء تخرج من أنفه، وكانت شفتاه مازالتا تقتربان وتبتعدان في وهن، وحروف مهشمة لكلمة «باي» تخرج منها، حملته على صدري بصعوبة وأبواب شقق المنزل تفتح كلها وتخرج منها نساء ورجال وأطفال يهرعون على السلالم أو ينظرون عبر «الدرابزين».. هرع تجاهي ساكن شقة الدور الأرضي وحمله عني وهو منزعج وكان وجهه ممتقعًا جدًا وهو يسألني عن أسباب وكيفية وقوعه، لم أكن في حالة جيدة وأنا أرد عليه بصعوبة ومدخل البيت يتحول إلى ساحة للفرجة، وملأ الصراخ والعويل المكان كله، وبت أتعثر في أجساد رجال وسيدات وجوههم غير مألوفة، وتكومت في ركن أرقب ما يحدث بدهشة ولم أبكِ حينها، حتى وأنا أرى من بين أقدامهم رجال الإسعاف يقتربون بالمحفة من إبراهيم ثم يرفضون حمله، ورأيت أحد الجيران يضع على جسده بطانية، وميزت أصوات أمه وأختيه وصرخاتهم الملتاعة وهم يهبطون السلم، فتسللت من المكان غير عابئ بكُرتي الجديدة التي اختفت بين أقدام من لا أعرفهم.

          وضعني أبي طوال فترة الإجازة الصيفية في منزل عمي، وتركني أعيش وسط أبناء عمي الذين كنت «أستغلسهم» ولا أطيقهم ، وطالت مدة الإقامة عند عمي، وكلما أتي أبي وأمي لزيارتي كنت أتوقع عودتي معهما، لكني كنت أباغت بوقوفهما المتزامن وتسليمهما على عمي وزوجته بحرارة، ثم يدير أبي ظهره لي وتحتضنني أمي وهي تدس في جيوبي هداياها من كل أصناف الحلوى التي أحبها، ويغادر أهلي منزل عمي وسط صراخي ودبدبتي على الأرض من دون أن تحن قلوبهما علي فيتراجعا ويأخذاني معهما، وحين اقترب موعد دخول العام الدراسي التالي أتى أبي بمفرده لإعادتي إلى البيت.

          كان الوقت مساء وبدا بيتنا بسكونه وشرفاته الموصودة كأنه بيت آخر، حتى شقتنا من الداخل بدت مختلفة أيضا رغم أثاثها الذي لم يتبدل، احتضنتني أمي وأبي يجاورها على الكنبة نفسها وكان هذا شيئا غريبا، وكان أخي الكبير يجلس قبالتهما وكان هذا أعجب، فلم نجتمع هكذا في مكان واحد منذ أدركت مسميات الأشياء والعلاقات في ما بينها، أومأ أبي برأسه تجاه أخي الذي أمرني بصوت خفيض بأن أتحرك نحوه، خفت وترددت، لكن كف أمي دفعتني برفق تجاهه، ربت أخي رأسي وقال كلامًا كثيرًا، قد يكون أكبر من استيعابي حينذاك، عن القدر والنصيب والحزن وعدم وجوب أن أستغرق في زعلي لأني أفتقد إبراهيم، لأن إبراهيم هو الآن في أفضل مكان عند الله، فهو قد صعد إلى السماء، ثم تبسم وهو يضيف بيقين أن إبراهيم سيفرح في السماء كلما عرف بنجاحي وتفوقي، عدت إلى حجر أمي بعد أن نادتني فوجدتها تخرج من صدرها حبلا رفيعا يتدلى منه مربع صغير من الكتان الرخيص، وضعت الحبل حول رقبتي وشبكته من خلفي وسط استياء أبي، ثم جعلتني أتحسس المربع الصغير وهي تقول لي إن به «كلام ربنا» لكي يحفظني وأنه يجب ألا أخلعه إلا عند دخولي الحمام ثم ألبسه مرة أخرى بسرعة، وحلفتني بالله ألا أجبن أو أخاف عند صعودي أو نزولي السلم وألا أبكي، فالحجاب يحفظني، عندما خرجت من الغرفة كانت دهشتي تزداد من مخاوفهم وكنت غير حزين بالمرة على إبراهيم، بل كنت أحس به في سماء الغرفة يرقبهم ويضحك معي على تصرفاتهم، وعندما كبرت سنوات عدة، كنت كلما تذكرت إبراهيم أحس بأن صعوده إلى السماء كان محتومًا، بل أحيانا كنت أظن أنه أصلا من خارج عالمنا وجاءنا زائرًا وحين حانت لحظة عودته غادرنا سعيدًا.

          الذي كان يشغلني جدا أيامها هو الباب المغلق على الدوام لشقة أهل إبراهيم، كنت أحيانا أخرج من شقتنا وأتعمد جر رجلي على البسطة الرخامية حتى يصدر عنها صوت يجعلهم يفتحون بابهم، لكن لا فائدة، ظل الباب مغلقا لمدة طويلة، وإن كنت أحس أحيانا بأن أشباح عائلة إبراهيم تعدو من خلف الباب وتروح وتجيء وأحيانا تقف لتراقبني، ولم أكن أخاف ساعتها وكنت أقف متعمدا وأمعن النظر في الزجاج المصنفر حتى تختفي الخيالات، ثم حدث شيء عجيب ذات يوم حين خرجت ففوجئت ببابهم مواربا، تلكأت وتشجعت واقتربت أكثر من موضعه، فتحة الباب اتسعت قليلا وبرز من خلفه وجه شقيقة إبراهيم وعليه ابتسامة، أومأت إليّ فاقتربت أكثر، مدت يدها وسحبتني إلى الداخل، فجأة وجدت نفسي بداخل آخر غرفة في شقتهم وعيون عديدة تتفحصني وأنا كالمنوم مغناطيسيا، البنت الكبرى كانت جالسة بجوار الأم المسدلة على شعرها غلالة بيضاء، واندست البنت الوسطى التي سحبتني بجوارهما على الأريكة نفسها، الأب كان على الجانب المقابل لهن يجلس على كرسي «فوتيه» وأشار إليّ بأن أقترب وأجلس على الكرسي الذي بجواره، اقتربت خائفا ووقفت أمام الكرسي رافضا الجلوس عليه، نهض من على كرسيه وملأ كفه ببعض حبات البلح التي كانت متراصة فوق صينية على المنضدة التي تتوسط الغرفة، قدمها إلي فرفضتها، لكنه وضعها في جيوبي وأنا كالمشلول عاجز عن الرفض أو الابتعاد، سألتني البنت الكبرى: كيف وقع إبراهيم وما الذي قاله لي بالضبط قبل الوقوع؟ وسألتني الأم وهي تمسح وجهها بالغلالة، هل بكى أو تألم؟ وطلب مني الأب أن أصف مكاني بدقة في أثناء وقوع إبراهيم، وكلما أخبرته بأني كنت في أسفل البيت وإبراهيم في الأعلى، كان يقاطعني ويسألني عن مدرستي وأخبار أهلي بالسؤال بنفسه ثم يعود ليباغتني، وفي نهاية الأمر، قال بنفاد صبر «يعني ماكونتش واقف معاه فوق بتوريه المنور، وبعدين غصب عنك وقع منك» من المؤكد أن دهشة الطفل الكبيرة التي ملأت وجهي أقنعته بصدقي، أو حننت قلب البنت الصغرى تجاهي، لأنها نهضت وسحبتني من يدي وفتحت الباب بحذر وهي تدفعني برفق خارجه.

          أصدقائي بالمدرسة ما عادوا ينتظروني في فناء البيت وينادوني بالصفافير، ولا حتى أصبحوا ينتظروني خارجه، ورفضوا أن يقاسموني البلح الذي منحته لي عائلة إبراهيم، وقالوا «لا نأكل من أكل الميت»، وعدت إلى البيت حانقا على المدرسة وعلى أصدقائي الذين بدأوا يتباعدون عني، وكلما تجمعوا سألوني أسئلة عجيبة، هل طلع لك «عفريت» في منور السلم أم دخل عليك الغرفة؟ هل ترى قطة سوداء تتبعك أينما سرت في الليل، وكانوا يكذبوني مهما أقسمت لهم، أو يحدثون بعضهم بعضا أمامي بأن العفريت لن يظهر لي طالما أنا أحمل الحجاب، صارت هذه الأحاديث تستفزني وجعلتني أنزع الحجاب في الصعود والهبوط، وأتحدى العفريت أن يظهر، لكن العفريت خذلني، ثم ورطني الغضب في الاعتراف لأمي بكل شيء، وجن جنونها فور علمها بجلسة المحاكمة التي انعقدت لي داخل شقة الجيران، ونجح أبي وأخي في السيطرة عليها بصعوبة، فقد كانت تهدد باقتحام شقتهم و«بهدلتهم»، ظل أبي يوبخها بعنف ويقول لها إنهم معذورون فمصيبتهم كبيرة، غير أنه في خلال أيام معدودات كان أبي قد أجر شقة أخرى في منطقة أبعد، وكانت الشقة أصغر والمدرسة التي نقلوني إليها بائسة ولا ترقى إلى مدرستي القديمة، لكن كلما مر يوم جديد في تلك المنطقة كنت أكسب زميلا جديدا ونتفق على الإشارات التي سنلبي بها نداءات بعضنا بعضا، وبت مطمئنا لا تباغتني وتغيظني الأسئلة عن القطط والعفاريت.
-----------------------------
* كاتب من مصر.

-------------------------------------

فؤادي بين أضلاعي غريب
                              يُنادي مَن يُحبُّ فلا يُجيبُ
أَحاط به البلاء فكلَّ يوم
                              تقارعه الصبابة والنحيب
لقد جَلبَ البَلاءَ عليّ قلبي
                              فقلبي مذ علمت له جلوب
فإنْ تَكنِ القُلوبُ مثالَ قلبي
                              فلا كانَتْ إذاً تِلكَ القُلوبُ

قيس بن الملوح

 

 

مكاوي سعيد*