قصص على الهواء

  قصص على الهواء
        

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
-------------------------------------------

  • «يوماً ما سأشرق فيكِ» لـ الغالية بنت محمد بن علي الرحيلية - عُمان

          يجيء السرد في هذا النص متكئاً على لغة إشراقية بكل ما تحمله من إشارات إيحائية ورموز تعلو في فضاء صوفي لا حد له.

          في الرؤية اليقينية لذات «تخلق الرؤى» يمكن معاينة «نجمة لا تراها إلاّ في النهار». وعبرها يمكن تفحُّص جماليات القص في سرده المتشعب في استرجاع الحِكَم الإشراقية بخلجات مسترسلة تبحث عن سلام داخلي، وكأنّها لحظات حوار مع الذات/ العالم، في آن. هذه اللحظات يمكن اعتبارها زمن القصّة، لحظتها، وحدثها اللامرئي!

          مع هذا، يلاحظ أن بعض الانزياح نحو لغة أسطورية يقينية بجمل تأكيدية إيمانية قد يحدد مسارات مغلقة للنص ولا يساعد على قراءة منفتحة.

  • «قدسيّة» لـ يارا جلغوم - فلسطين

          هذا النص كسابقه يستفيد من اللغة الإشراقية التي تحيل إلى الكثير من المدلولات التأويلية. ويمكن تفحص حركات النص بجمله وفقراته لاستكشاف تفصيلات القص عبر بنائية هذيان الساردة الموجّهة للمخاطب.

  • «المعاق» لـ محمد امحمد العلوي - المغرب

          يصوّر النص، بلغة متفحصّة، حالة إنسانية يعيشها معاق عبر تتبع أثر الإعاقة الجسدية على سلوكه المعاش، والذي يبدو منفعلاً ومضطرباً وبرغبات لا تستكين إلاّ مع الأم التي تخرجه بحنان كلماتها من خيبات تطلعاته وأحلامه.

  • «أحلام متقاطعة» لـ سميحة خيري أحمد - مصر

          تستفيد الكاتبة من أسلوب المنامات في التراث العربي، فتقدّم في نصّها سبعة أحلام تدور جميعها حول شخصيّة «الوالي»، كرمز للسلطة، في إسقاط على أوضاع سياسية عربية معاصرة؛ بعضها تبدو مباشرة ويعلو فيها الخطاب النقدي السياسي اليومي الذي قد يفقد السرد فنّيته؛ إلا أن الرؤية الخامسة في المنام للوالي جديرة بالتنويه، إذ تنحو في اتجاه سريالي كاريكاتوري يقترب من عوالم الأحلام التي اتكأ عليها السرد.

  • «ليلة باردة» لـ مياسة النخلاني - اليمن

          يصوّر النص معاناة امرأة في مواجهة الموت بعد أن يؤكد الأطباء قرب وفاتها، فتقرّر، بعد ارتباك، المصالحة مع الحياة وتقبّل ما ستأتي به الأيّام.

          يحفل النص بانزياحات شعرية تتخلل تداعيات زمنية مختلفة تلتقطها الكاتبة بمهارة سردية وإن اكتست أحياناً لغة وصفية رومانتيكية مكرّرة.

----------------------------
يَوْمًا مَا سَأَشْرِقُ فِيكِ
الغالية بنت محمد بن علي الرحيلية - عُمان

          لمْ تستطع غمضَ قلبهَا عن رؤيةٍ جميلةٍ تراهَا حيَّة تتنفَّس حولها. تسمع نفَسَها زفيرًا وشهيقًا. خفيفًا رقيقًا. تحسُّ بها دَافِئةً كحضنِ أُمِّ حَنون. تُحيطُ بها من كلِّ جانبْ؛ ولأجْلِ هذه الرؤيةِ قدَّمَتْ وأعطَتْ ووهَبَتْ.

          تبكي طويلاً، تبكي كأنَّها لمْ تبكِ قبلَ ذلك قَطْ. تتقلَّبُ في فراشها كالملدوغ. تنوحُ كالثكلى بصمت مطبق. لمْ تكنْ هناكَ أُذُنٌ تسمعْ، لمْ يكن هناك قلبٌ يسكبُ ماءً باردًا لقلبٍ يتلظَّى كلَّ لحظة. كلَّ ثانية. هي هكذا كلّ ليلة، لتنهضَ من ليلِها إلى نهارٍ لا يمتُّ لِلَّيْلِ بأيِّ صِلة. ضحكٌ وضجَّة وصخبٌ في كلِّ ركنٍ من أركانِ حياتِها. الليلُ فقطْ هو من يحملُ عبيرَ الذِّكرى، الليلُ فقطْ هو من يُسَيِّرُ فيلمَ الماضي. يستعيدُ الأصواتَ والصُّور. والمشاعرَ أيضًا.

          رؤيتها الجميلة هي نجمةٌ لا تَراها إلاَّ في النَّهار. وتتعبُ لأجلها. إنَّ تلكَ الرؤيةَ ترقبُها بعينِ الرِّضا. تشعُر وكأنَّها تبتسمُ لصنيعها، وأحيانًا في لحظةِ الإنجازِ العظيمِ أيًّا كان.. ترى رؤيتها تنزِلُ من عليائها بجلالِ هيبتها لتصافحها وتضع يدًا في يدها، وأخرى على رأسها.

          إنَّها تغوصُ في خيالاتِها فقط من أجلِ أنْ تمنح نفسها فرصةً لحياةٍ جديدة. حياةٌ تخلو من الأوبئة. تهنأ بجوِّ نظيفٍ تستطيعُ متى شاءتْ أن تُوسِعَ رئتيهَا من الجمالِ أينَما شاءت. فالحياةُ واسعة. أوسعُ من صدرِها. أوسعُ من بيتِها. أوسعُ من حياتِها. لابُدَّ من الخيال. إنَّهُ يغذِّي الواقع برافدٍ عذبٍ لا ينضبْ. إنَّهُ يجعلُ الأمانيَّ واقعًا في لمحِ البصر. تكادُ ترى أمنياتِها كأجسامٍ ذاتَ أبعادٍ، ذاتَ ملمسٍ مُخمليٍّ، إنَّ لها كما تقول- روائحَ عَطِرة، عندَ كلِّ إشراقةٍ للشمسِ تشمُّها، وتأخذُ من نورِ هذهِ الأمانيِّ عودَ كبريتٍ يضيء لها ليلها الذي تتحاشَى الوصولَ إليهِ دونَ جَدوى.

          رحمةٌ من اللهِ تلفُّ جسدها كما تلفُّ الشَّرنقةُ الفراشةَ قبلَ انطلاقِها للحياة. تحفظها من الوجهِ الآخرِ للدُّنيا. تتمنَّى أنْ تلفَّ هذه الرَّحمةَ تلكَ المضغةُ المتعلِّقةُ بينَ ضلوعها. تعلم أنَّ اللَّبيبَ لا يقصِدُ النَّهرَ كيْ يظفَرَ بزرقةِ البحر، إنَّه يقصد المصدَر دائمًا. المصدرُ أقوى. المصدرُ أجملْ. المصدرُ يحوي الجميع، ويتِّسعُ للجميع. ماذا تحتاجُ هي؟ الأمان؟ لا أمانَ ممن لا يملِكُ الأمان. الأمانُ يبدو أنقى من معينه. إنَّهُ الله المؤمِن.

          نتيجةٌ تَصلُ إليها بهدوء شاقٍّ في خِضَمِّ خواطِرِ القلْب. تُغلِقُ عينيها بأمانْ. لقد وهبتْ قلبها، روحها، جسدها، حلمها، طموحها، ألمها، أملها، دمعها، حُبَّها، للهِ دونَ غيره. نامتْ نومةً عن ألفِ ليلةٍ. مَنْ غيرُهُ يمنحُ السَّلامَ الدَّاخليَّ؟ نامَتْ وأهدابُها تُعلِنُ رحيلَ التَّعبِ عن الجسد.

          أفَاقَتْ. تتمطَّى بسعادة. «ياااااه. ليلةٌ مريحة. شُكرًا لكَ يا عظيم» قالتْ بامتنانٍ منكسِرٍ أمامَ ملكوت الله عزَّ وجل. حمدت الله. أيقظَتْ رؤيتها كي ترافقها حياتَها. أخبرتها كيفَ أنَّها أُلهِمتْ الإيمانَ والأمانَ البارحة. حكتْ لها شعورها في غبطةٍ يومَ أنْ أحسَّتْ بأنَّ عينيها بكتا دمعَ الفرحِ في الليلِ هذه المرَّة. تبسَّمتْ رؤيتها في سَمَاها في سرور. فالرؤى لا تتدخَّلُ في الذَّواتْ. لأنَّ الذَّواتَ هي التي تخلُقُ الرؤى. نظرتْ إلى الشمس نظرةَ مودَّةٍ تفوقُ مثيلاتها في صباحاتِها المتكررةِ، رغمَ ما فيها من بهجةٍ وسعادة. قالتْ لها في سعادةٍ: «أيَّتها الشَّمسُ. كما أشرقتِ فيَّ هذا اليومِ المفعمِ بالحياة. يومًا ما سأشرِقُ فيكِ!».

          غادرتْ غرفتها... غَرَسَتْ في أفئدةِ من معها ألفَ بذرةِ حُبٍّ. وزرعتْ ألفَ بذرةٍ لحياةٍ قابلةٍ للعطاءِ في كلِّ لحظة. تَلَتْ على من حولها آياتِ الامتنانِ لهباتِ اللهِ الكريم. الخيالُ منحها الكثير، منحها القدرةَ على الحياة وعلى التكيُّف. الآلامُ تنجلي كانجلاءِ الحريرِ عمَّا مَلُسَ من أشياء، أشياؤنا الملساء.. أو هكذا ينبغي أنْ تكون.

          مضتْ تروي قصَّة ليلِها الثقيلِ وكيف أنَّه خَفَّ تركيزُهُ بمياهِ معيَّةِ الله تعالى. مضتْ والشمسُ ترنو إليها بحبِّ وكأنَّها لا تُشرِقُ إلاَّ عليها. كانتِ الشَّمسُ توصي القمرَ بأنْ يُراقبها كيف أنَّ ثغرها يبسُم ويحمد في آن. كيفَ أنَّ قلبها يخفقُ ويحبُّ في آن. كيفَ أنَّ عقلها يتخيَّلُ الجمال فيراهُ واقعًا بفعلِ روح الإنسانْ.

          غادر الليلُ حاملاً روحها. وبقي الجسدُ في سريرِهِ وقدْ أضناهُ الطموح وأتعبه العمل من أجلِه. الشَّمسُ تبكي شعاعًا ساخنًا. علَّه يُدفئ جسد من تبادلتا حبَّ الإشراق. لكنَّها أدركتْ أنَّها عاجزةٌ عن فعلِ ما يفعلْهُ سِرُّ الرُّوح.

          لقدْ عاهدتْ أنْ تُشرقَ في الشَّمسِ. لكنَّها أشرقتْ في أرواحٍ هي الشُّموسُ التي لا تغيبُ أبدًا. رؤيتها هذا الصباح تبحثُ عنها، ما وجدتها. عزَّتها الشمسُ في مصابِها الجلل. لقدْ غادرَ الليلُ الذي كافحتْ لتعيشَ فيهِ بروحها. رؤيتها تئنُّ حزينة. دموعها اللؤلؤيَّة الشَّفافة تغسلُ أحلامَ صديقتها الوفيَّة.

          بحثتْ الرؤيةُ الجميلةُ عن مأوى. لقد تشرَّدتْ من دونها. هي لا تموتُ بموتِ صاحبتِها. فتَّشتْ بين القلوب. وجدَتْ زرعًا رقيقًا. سألتْه بلغةِ الرؤى الحنونة: «مَنْ أنت؟» أجابَها بمرح: «أنَا حُبٌّ زُرِعْتُ وآن أوانُ الإِيراقِ لِأُثمرَ حُبًّا آخر». الرؤيةُ الجميلةُ سمعتْ صوتَ صديقتها. «هيَ من زرعتكَ إذنْ» قالتْ في حُزنٍ متبَسِّم. ووفاءً لها عاشتْ في ذاكَ القلبُ لتحثَّ صاحبَه ليكونَ كصاحبتها. وعلى حينِ غفلةٍ بُعيدَ استقرارِ الجمالِ في قلبِه المرتوي برؤيةٍ جميلةٍ قالَ للشمسِ: «يومًا ما سأُشْرِقُ فيكِ».

----------------------------
قدسيّة
يارا جلغوم - فلسطين

          كرأسِ حلمٍ كبير تخطى كونهُ سراباً زمنياً ووجعاً في فتوتهِ الأولى, كلحنٍ فارسي حزين, كتهويده أمٍ لطفلها الذي يشاكس النوم فقط كي يتسلل هديل صوتها أذنه الصغيره, كانت قد توقفت نبضاتي حين يتحدث من فوق السرير وأنا جالسةٌ على الأرض بعينيّ التي تفتشان عن مُتكأ, لربما يسندُ حمرةَ وجهي, يبتسم لي وأنا أغادرهُ على أستحياء, حاولت ترتيب ملامحي كما كانت, أبتلعتُ نبضةً منزويه دلني عليها حُزنٌ بات عتيقاً للحظه, لم يعجبهُ أن يكون وحيداً, أن أنساه أو أحاول مسايرته بعد كُل هذا المجاز من الغياب, بعد أن توجب عليّ الأختيار وتحمل كامل المسؤوليه, لم أرد أن أفلته لأني أعلم أنه رفيقي وملجأي الوحيد الذي دائماً ما يضع خياراً ثالثاً لأهرب إليه معه ولا أفكر, فقط أتخيل وأعيش خيالي وابتسم بسعاده, كما الأشياء الجميله التي لا تزول يبقى حزني رفيقاً جميلاً؛ أتعلم أن الـ لا دائماً ما تُحدِثُ عكسها, تنساب الكلمات بعدها للوراء فتجبرني على الصمت أمام نصف الرضا الذي أعتقدته أنت, ثم ترحل من سبتمبر بعدما أخذت مني كلمتُك الكثير وما زالت توجعني, هكذا لوحدها .. من دونك, تطفو على سطح العمق وتتكرر بين طياته ويتكاثر وقعها فيّ, أخذت معك قلبي, روحي اللينه وفلماً رومانسياً مصحوباً بشوكولاه أسمَر وحروفي وملامحي التي لم تتغير حين أعترف بطل الفيلم بحبه لفتاته, وحين عدتَ في الـثالث من إكتوبر وأنت تعلم كم كنت قلقه ومُشتاقه, كم كنت في أمس الحاجةِ إليك, أرسلت حديثك بكامل الرضا في حين أني لم أراه إلا بعد نومك, لم أرد عليك ولم أقل لك بأن الوقت سرقني من إنتظارك لأشعرك بقليلٍ من الذنب وغضبي, في اليوم الذي يليه عاتبتك فسألتني "تخافي مني ولا عليّ ؟" ورددت في صدري بخفيه "الأثنين"

          أنت حين تأتِ يتوجب توضيب قصيدةٍ ما, مدّ ملائات الحَرف لتتسع عمق صوتِك, إستعارةُ زنابق فتيات الحي وحقلٍ من العصافير لأطرزها على فستاني, جدلُ شعري بالشرائط والغيوم, صنعُ كعكةٍ بالتُفاح وتقديم القهوة, فتحُ كُل الشبابيكْ لتقتبس الشمسُ من ملامحِك نوراً, فرشُ السماء تحت قدميك

          عزفُ موسيقى فارسيَّة تنتهي بلحنٍ غجريْ وأُمنية, وقف عقارب الساعةَ وترتيبُ الفصول على الموعد, نَثر الكراسات والألوان وألق الأحلام

          أنت حين تأتِ يا رفيق عُمري تأتِ معك الأغاني وبدايات النُصوص, تأتِ معك أزقة القرى الطينية والمعشوشبة, تأتِ معك حبال الغسيل وأبراج الحمام, يأتِ معك شغب الأطفال وأسراب الحلوى, تأتِ معك مواسم الحَصاد والأمطار, تأتِ ومعك جناحان ورحيق, تأتِ معك مكاتيب الهوى وزجاجة عطر وشال خفيف ... ولا أعلم إلى أين سَتسرقنّي!

----------------------------
المعاق
محمد امحمد العلوي - المغرب

          زحف وزحف وزحف ،حتى تورمت ركبتيه واندملت يديه خابت آماله في مصاحبة من اشتهاها ، ألقى اللوم على خجله وأتعب فمه بكلمات الشتم والسباب التي يعرفها حق المعرفة أمطر الزمن والناس بوابل من كلمات بذيئة. كان الكل ضد أماله وتطلعاته،سلقته الألسنة منذ كان صغيرا يخلط الحبو بالمشي لا تكاد تفرق ركبته اليمنى بفخذه اليسرى،يده اليسرى معوجة قليلا للخلف في حين أصابع اليد اليمنى مقوصة، فالتداخل بين القطع أعطى للجسم عدم اتساق ينبئ بشخصية كاريكاتورية تُضحكِكَ أكثر مما تجعلك متعاطفا مع الإعاقة لكنك تقرأ في عينيه مكرا غريبا سرا دفينا لا تعلم من أين أتى وماذا يبغي. فما أغرب النفس البشرية وما أصعب ما تحمله من تناقضات،لم يعد يكترث بخطاطة جسمه لقد تآلف مع إعاقته ولم تعد تقض مضجعه. أصبح الآن لصيقا بصورة جميلة تحمل آيات السحر المقدس والكمال المطلق، هكذا رآها وهكذا بنى هيكلها الأسطوري في مخيلته وأضفى على صورتها ما تشتهيه نفسه وما تصبو إليه مما لم يدركه جسده المشوه. يجلس أمام المرآة صباحا يخاطب صورتها التي لصقت بشكل إدماني بمخيلته ، عنده حس غريب بالوقت فالزمن أضحى مرتبطا عنده بمرورها أمامه. يمكث طوال النهار في المكان الذي دأب على ترصدها منه كأنها فريسته يتربص بها ليشتم الجسد عابرا كل مناطقه، ويتلمسه بهدوء مطلق بيديه المرتجفتين،يلتهمه بلذة ويمتص كل رحيقه بلهفة.خياله خصب وريشة رسمه شديدة الحساسية يكفي أن تمر أمامه ضاربة الأرض من تحت قدميها بخفة وغنج لا تخطئه عين عاشق فنان ،حتى يبدأ رحلة ممتعة في عوالم رائعة من الاشتهاء،من الحب والوله، يتتبعها بعينين براقتين صعودا من القدم وهي تنتعل حداء عالية الكعب،حتى يصل في رحلة ملحمية إلى شعرها الأسود المنسدل على كتفيها مرورا بجسد نحيل ورشيق،إنها عصارة خياله الممتد مسافات طويلة من الحرمان والتطلع. على غفلة منه وهو في تلك الذروة من إحساسه تتلقف قفاه صفعة أفاقته من حلمه النهاري ينتفض مفزوعا ليرى مجموعة من المراهقين يتحلقون حوله ويهتفون الأعرج الأعرج ،لم يتمالك أعصابه المتحطمة على مدبح الحب حتى يبدأ قصفه المتنوع من أسلحة لا ندري في أي مصنع قنابل صاغها. غابت الفتاة وانتصر على هؤلاء الفتية المشاغبون بفضل بعض المارة الذين يعرفونه ويتمتعون بمعانيه ولغته الجارحة غير المختزلة، لغة تكشف العورات وتعري المستور ،لغة لا تقتله لكن تزيده قوة وتغطي على عاهته الجسدية. فها هو يصف كل من يتعرض له بأنهم شياطين بأجساد بشر إنهم يحرمونه حتى من رسم من يهواها في خياله. في إحدى المرات قال لأحدهم : إنني أستطيع الإستحواذ على الناس وأعرف جيداً كيف ومتى، ويزيد موضحا إن حديثي عن المرأة وما تمتلكه من مفاتن ووصفي لما تمتلكه من أدوات العشق والفتنة، وكلامي المنمق عن شهوتها وغنجها يسيل لها لعابهم وتطير لها عقولهم ،في تلك اللحظة أكون هادئا وأنسلخ من إعاقتي وأمارس سلطتي في الخلق والخيال وأمارس سلطتي في السيطرة على عقولهم من خلال شهوتهم،إنني أرى ضعفهم ألمس احتياجهم أستبق رغبتهم الدفينة. ويتساءل في خبث جلي أليس هذا قمة الإمتاع وقمة السلطة رغم إعاقتي ألَسْتُ قويا وأمتلك هِبَة؟ فجأة جمع شتاته وبدأ في تحريك تلك الآلة الجسدية الغريبة إنه وقت الإنصراف إلى البيت الذي تنتظره فيه الوالدة الحنون،إنها عادته يخرج مبكرا ويدخل متأخرا وينام بعد أن يتم طقوسه في الحكي والإمتاع فحسه الفكاهي مرتفع، يضحك على كل شيء ومن كل شيء والحصة الكبرى يأخذها جسده. يحفظ الكثير من الشعر والقصص ويروي لك تاريخا غير موجود في كتب التاريخ، كوكتيل من الحكايات سرق معظمها من الحكواتي الذي ينظم حلقته الأسبوعية في الساحة الكبرى من السوق الأسبوعي.

          - أمي إنك لم تقطعي حبلي السري إنني مرتبط بك كالسمكة مع الماء.

          بهذا يخاطب أمه مرارا وعيناها مركزتين عليه كأنها تخاف أن يهرب منها تجيبه الوالدة

          قائلة:- إنني كل ما تتمناه يا قرة العين.

          كلمات رائعة تجعلك تدرك تلك القوة وتلك الروابط بين الأم والابن، إنها تدرك أكثر من أي كان ما يحتاجه ابنها تدرك تلك القوة الحقيقية للإيمان بداخله وكيفية تعميقها داخل نفسه أكثر وأكثر،تعلم كيف تدمر تلك الشحنات من الغضب والألم عنده، تمرر يديها على رأسه في حركة خبيرة ويستسلم أخيرا لسلطان النوم.

----------------------------
أحلام متقاطعة
سميحة خيري أحمد - مصر

          1 - رأيت والي الوادي الأخضر متصدرا مائدة عامرة بما لذ وطاب من طعام وكان يأكل بشراهة غريبة كمحروم بعد مجاعة وظل يأكل بلا توقف وسط دهشة من حوله ومن بينهم وزيره الاول الطويل النحيل الاسمر وقد هاله ماأزدرد الوالي من طعام كثير حتى كاد أن يختنق أو يفقد الوعي فاقترب منه وهمس في أذنه مترددا مرتعشا مخافة أن يبطش به الوالي لو اغضبته كلماته:

          ألم يشبع سيدي بعد؟ فرد عليه الوالي في سخرية واستغراب: أنا اشبع .. انا لااشبع أبدا

          2 - رأيت أنني أجلس بجوار الوالي أحدثه عن تفشي الظلم والفساد في أرجاء الوادي الأخضر موضحا له ذلك بأمثلة كثيرة وحوادث حقيقية طالبا منه أن يفعل شيئا قبل أن ينفجر الناس ضده ولكنه لم يعرني إلتفاتا واشتبك في حديث تافه مع مقاول بناء كبير يجلس بجواره.

          3 - رأيت الوالي من ظهره مرتديا جلبابا أبيض لأول مرة في طريقه للحج أو العمره وكان يتحدث لمساعديه عن كيفية إدارة شئون الوادي أثناء غيابه وكان يغادر معه جملا يحمل هودجا كبيرا بداخله شابة أجنبية شقراء بشعر أصفر وزينة صارخة لافتة كأنها عروس لأحد أبناء الوالي مصطحبة معها ولدها الصغير إلى خارج الوادي الأخضر

          4 - رأيت الوالي من بين الجماهير التي احتشدت لرؤيته يترجل من الباب الخلفي لسيارته الفارهة المصفحة ومالبث بعد بضعة خطوات أن أخذ يترنح وكاد أن يسقط على الأرض لولا من هب من الحرس وساعده حتى استقام على قدميه ثم أدخلوه سيارته التي غادرت بسرعة رهيبة وسرت إشاعة بين الناس أنه قد مات فعلا وقلت لأحدهم بجواري: أرجو إلا نورث لإبنه من بعده!!

          5 - رأيت الوالي يلقي خطابا لرعيته عن التلفاز والشيئ الغريب أننا لم نكن نسمع له صوتا بل كانت تخرج من فمه فقاعات صابون تكبر وتصغر وتنتفخ وتتناثر لتتلاشى في الفضاء بينما كان يفتح فمه ويغلقه آليا وقد تدلى لسانه من فمه طويلا رفيعا مشقوقا وينبعث عنه حفيف خافت متواصل ثم جحظت عيناه واستطاات إلى الأمام كأنهما مصباحي سيارة قديمة متهالكة وفجأة بدأ شعر رأسه المصبوغ يتطاير في الهواء حتى بدت فروة رأسه صلعاء عارية ملساء لايسترها شيء وبعدها أرغى الوالي وأزبد كثور هائج وإنقطع الإرسال لينفجر التلفاز شظايا ملتهبة متناثرة في وجوه المشاهدين.

          6 - رأيت الوالي وقد تحول إلى إمرأة مسنة ذات صدر عريض ضخم بارز مغادرا قصره حاملا معه حقيبتين كبيرتين بينما على مسافة قصيرة منه كان وزيره الأول الأسمر الطويل النحيل يقف فوق منصة عالية جدا والناس تهفت له وتحتفل به بعد أن أزاح وأسقط الوالي الظالم وبطانته وكنت أقول لنفسي:

          إن الوزير الأسمر أفضل لولا ملابسه العسكرية السوداء.

          7 - رأيت أمامي الوالي السابق يتجول بائسا يائسا مترنحا هائما على وجهة بأسمال بالية متسخة في حارة ضيقة متربة يتسول من المارة رغيف من الخبز ولايجد من يعطيه شيئا.

----------------------------
ليلة باردة
مياسة النخلاني - اليمن

          كان مساءً بارداً, والنسيم- على ما يبدو- قد جافاه النوم هو أيضاً, فأخذ يطوف في الأرجاء بحثاً عن رفقه, وما أن تسلل لشرفتها, وأحس أنفاسها المثقلة بالهموم, أخذ يدق نافذتها بطرقات خفيفة متتالية.

          تجاهلته في البداية, ودست رأسها تحت الوسادة بعناد, لكن إلحاحه زاد من توترها, فقذفت مخدتها بعيداً, واعتدلت بجلستها, صكت أسنانها بغيض, واتجهت نحو النافذة.

          كانت السماء صافية, والبحر على مد البصر, يتهادى كطفل يحاول النوم بين ذراعي أمه. اعتملت بداخلها مشاعر الغيرة, فكيف يعتريه كل هذا السكون وهي على بعد أمتار منه تعجز حتى عن إغماض جفنيها.

          أخذ النسيم يتلاعب بشعرها, ويدغدغ وجهها كعاشق مجنون, يتوسل حبيبته لتسلم نفسها لجنونه, ولم يتركها حتى اقتنعت أخيراً بنزهة ليلية.

          ارتدت سترتها الشتوية, وقبل أن تغادر, حانت منها التفاته على المظروف المتناثرة أوراقه على السرير, قاومت دمعة حاولت التسلسل, وخرجت مسرعة, وعلى إحدى الصخور البارزة حطت رحالها, أخذت تصغي لأصوات الموج وهي تعانق الصخور, فأغمضت عينيها, وسمحت لأنغامها الناعسة أن تعانق أعماقها هي أيضاً.

          "آه"

          انطلقت من أعماقها, فقد عاد عاشقها للتغزل بها مجدداً, فسلمت نفسها له هذه المرة دون مقاومة, حملها بين ذراعيه الباردتين, وعلى صهوة الموج طار بها بعيداً حيث لا أحد سواهما والسكون, يعزف على أوتار روحها سيمفونية عشق أبدي.

          "صديقتك لن تعيش طويلاً"

          انطلقت من رحم المجهول كقذيفة قاتلة تناثرت لصداها الأمواج, شظايا تكسرت بعنف على الصخور, وارتجف لجبروتها النسيم, أفلتها من بين ذراعيه فجاءه, فهوت على الأرض بقايا أنثى حالمة, فتحت عينيها على هيجان الموج وهي تكيل لعناتها على الصخر, فخاطبتها معاتبة ومتحسرة على تبدد الحلم الجميل.

          "اهدئي يا صديقتي فلست المعنية بالأمر"

          في كل مرة يؤكد لها أنها بخير ترى في عينيه عكس ذلك, فيزداد إحساسها بالخوف والقلق.

          "دكتور للمرة الأخيرة أتوسل إليك أن تكون صريحاً معي"

          "ألا تثقين بي"

          "أثق بك جيداً لكني متأكدة أنك تخفي شيئاً ما"

          "قلت لك أنتِ بخير"

          وقبل أن تفتح فمها مجدداً أسكتها رنين هاتفه, فاستأذنها للحظات, وما إن غادر, حتى اختطفت ملفها من على مكتبه, واتجهت على الفور لطبيب آخر, قدمت له الملف على أنه لصديقة لها...

          "لماذا نسعى جاهدين وراء الحقيقة رغم إدراكنا مدى قسوتها" همست بها للبحر وكأنها تطلب منه مواساتها أو التخفيف عنها.

          "يؤسفني أن أبلغك أن صديقتك لن تعيش طويلاً, فحالتها متأخرة جداً على العلاج"

          لم تجادل أو تستوضح, بل لملمت أوراقها, وعادت فوراً لشقتها بنظرات ذاهلة وقلب مرتعد.

          غادرت مكانها وأخذت تتمشى على الشاطئ, تاركة الأمواج الباردة تعانق قدميها.

          "حسناً"

          التفتت إلى البحر وأكملت بصوت متوتر:

          "قد أعيش شهور, وربما أيام, وقد لا تشرق علي شمس الغد. من يدري! فالموت هو الزائر الوحيد الذي لا نعرف متى سيأتي"

          تقدمت خطوات وكأنها تريد أن تتأكد من أنه يسمعها جيداً.

          "سأقبل بكل ما يحمله لي القدر بين طياته لن ابكي ولن انزوي منتظرة الموت الذي سيعانق الجميع دون استثناء بل سأكمل طريقي وحين يحين اللقاء سأفتح له ذراعي"

          فتحت ذراعيها وبعينين مغمضتين أخذت تتنفس بعمق, عندما فتحتهما مجدداً كانت الشمس تطرد بقايا النوم من أجفانها الناعسة, وتتمطى مرسلة أول أشعتها, فلاح لها الأفق مشرقاً مشعاً على غير عادته, ابتسمت, وقررت عيش يومها وليحمل لها الغد ما يريد.
-----------------------------------------
* روائي من اليمن.

 

 

علي المقري