الأسلاف العظام يعودون حقا ‍!

  الأسلاف العظام يعودون حقا ‍!
        

مأثرة معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بفرانكفورت
عدسة : سليمان حيدر

في المنزل رقم 33 - شارع بيتهوفن ، ناصية وست إنت ، بفرانكفورت ، ظهروا عابرين القرون والمسافات ، تجمعوا بغرفة مليئة بالكتب حول عالم مسلم ألماني الإقامة اسمه فؤاد سيزكن ، ثم هبطوا مع العالم ومساعده مازن إلى قبو المنزل ، انضمت إليهم مجموعة صغيرة من المهندسين والأسطوات الألمان المهرة ، وهناك خلع الأسلاف العظام عمائمهم ، وشمروا القفاطين عن سواعدهم ، وراحوا - فيما كان العالم يقرا من كتبهم القديمة بصوت مسموع - يقودون المهندسين والأسطوات الألمان لإنجاز معجزة ، نعم معجزة

          " وست إنت " ضاحية هادئة بادية العراقة تقع في الشمال الغربي من قلب مدينة فرانكفورت معظم شوارعها ( بوليفارات ) تظلل مماشيها الأشجار ، وغالبية بيوتها ذات طراز جرماني معتق ، نوافذ وشرفات ذات أقواس ، وعليات بأبراج صغيرة متعددة ، وأسقف مثلثة معظاة بقرميد أو زنك رمادي ، ولون الدهان الفاتح تؤطره - عند الزوايا والحواف والأبراج وحدود الشرفات والنوافذ - ألوان غامقة دافئة ، وكل البيوت على اختلاف ألوانها تتناغم معا ، ومع الأشجار ، لتجسم لوحة من زمن جميل معتق ، وسط أبراج المعدن والزجاج العصرية المتطاولة حتى السحاب ، في سماء مدينة ألمانية تطغى شهرتها التجارية والصناعية على حقائق ثقافية عميقة الغور في قلبها .

          وإحدى هذه الحقائق عثرنا عليها في المنزل الأبيض المكحول بلون بني دافئ والذي يحمل رقم 32 و لا فتة نحاسية عليها كتابة ألمانية وعربية تقول : " معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية ( في إطار جامعة فرانكفروت ) " .

          كانت البوابة الحديدية مغلقة ، والهدوء في الشارع سابغ ، ولا أصوات تنبعث من الداخل ، بينما الستائر البيضاء مسدلة وراء زجاج النوافذ ، أين أصوات العاملين والدارسين ؟ هل يعقل أن اليوم عطلة ؟ لقد أخذنا موعدا من البروفسور فؤاد سيزكن ، وسيستقبلنا مساعده الأستاذ مازن العماوي . ضغطنا زرا إليكترونيا فجاءنا عبر سماعة ( الإنتركم ) صوت نسائي يتحدث الألمانية ، قلت بالإنجليزية : " إننا ضيوف من مجلة العربي ولدينا موعد " ، وأجابت السيدة بعربية واضحة : " أهلا وسهلا ، تفضلوا في الطابق الثاني " .

          أخذت التكنولوجيا الألمانية تشتغل : البوابة تنفتح ذاتيا وتنغلق وراءنا ، وباب البيت يكرر الآلية نفسها ، ورحنا نصعد - بعد برد نوفمبر الخفيف في الشارع - في دفء ناعم ، وإذ بعبق الفن الإسلامي في أبهى نظافة وانضباط ألمانيين يحيط بنا من كل جانب : على الأرض بسط إيرانية وتركية وأفغانية ، وعلى الجدران لوحات من الزليج المغربي ، وفي الأركان مشغولات نحاسية من الشام ، وخشبيات في صورة مراكب خليجية ، ومعشقات ( أرابيسك ) من مصر ، وحوامل للمصاحف من الصندل المحفور ، لعلها من الهند أ باكستان ، أما أرفف الكتب المجلدات ، فهي تطل علينا من كل القاعات التي نمر بها ونوغل ، ويفاجئنا الأستاذ مازن العماوي بالقول إن البروفسور سيستقبلنا لبضع دقائق ، وقد كنت أعرف أنه نادرا ما يستقبل أهل الصحافة ، وإن فعل ، فلمجرد التحية ، لكن دقائقنا معه امتدت إلى نحو ساعتين !

الفكرة / الحلم

          قدمنا الأستاذ مازن العماوي لسيدة تبينا أنها الدكتورة أرسولا سيزكن زوجة البروفسور فؤاد سيزكن ، إنها تحمل لقبه ، وقد تحملت معه عبء الحلم الذي رواده منذ ثلاثين عاما أو يزيد ، تبرعا للمعهد بمكتبتهما الخاصة التي ضمت ستة عشر ألف مجلد ن وعندما حصل الرجل على جائزة الملك فيصل ، تبرع بها أيضا للمعهد ، أدخلتنا السيدة إلى البروفسور ، وكنت أتهيب لحظة اللقاء ، لكنني ما إن رأيته حتى أدركت أنه رجل سيحبنا ونحبه ، من واقع مأثرته التي لمحت أطرافها على الفور عبر الخطوات القليلة من المدخل وحتى قلب حجرته مغطاة الجدران بأرفف المجلدات والكبت ، ومن واقع ما قرأت وسمعت عنه ، وهو ذاته الذي سمعته منه ، بينما كان يتحدث بتؤدة ، متحركا بقامته البسيطة الأميل إلى الامتلاء ، ومعبرا بملامح شيخ مطمئن أدى رسالته في الحياة بأمانة فاقت كل الحدود .

          في أوائل السبعينيات ، تبلورت فكرة إنشاء معهد لتاريخ العلوم العربية والإسلامية في قلب أوربا لدى الدكتور فؤاد سيزكن الذي كان آنذاك أستاذا لتاريخ العلوم الطبيعية في جامعة فرانكفورت ، ونبعت الفكرة من إيمان الرجل بضرورة تصحيح التصورات الخاطئة السائدة عن تطور العلوم والرغبة في تقديم نموذج ملموس عن العالم المسلم على مستوى التقديم الحضاري في عالم اليوم .

          حمل الرجل الفكرة الحلم على عاتقه وسعى يعرضها - بعد أن قدم هو وزوجته الإسهام الأول لتحقيقها - على المسئولين والمنظمات والهيئات والإفراد المهتمين من العالم العربي والإسلامي ، ولاقت الفكرة تفهما طيبا ودعما من الدول العربية ، ومن منظمات ومؤسسات ثقافية وأفراد من أهل الخير إلى أن تكللت الجهود في الحادي عشر من فبراير 1981 بالنجاح ، حيث أقر مجلس المؤسسين الذي شارك فيه العديد من الوزراء والشخصيات المسئولة من العالم العربي الإسلامي ، وكذلك رئيس جامعة فرانكفورت ، النظام الأساسي لوقف ينهض بإنشاء المعهد ويصون استمراره .

          إنها قصة إيمان برسالة في الحياة ، ولعل حاملها هو أفضل من يعبر عنها ، لهذا نترك البروفسور فؤاد سزكن يسترسل ، بمضمون كلمته ذاتها التي ألقاها بعد أ بدأ حلمه في التحقيق :

          " إن معالجة تاريخ العلوم خاصة عند البيئات الثقافية غير الأوربية كفرع علمي هي أمر حديث نسبيا ، إلا أن نقطة الضعف فيه لا تتمثل في كونه لم يكتمل بعد - فهذا أمر مفهوم بطبيعة الحال - وإنما في كونه لم يتشكل خاصة في بداياته نتيجة تعطش للعلم وحب للمعرفة ، بل كان نابعا من " أعماق العواطف " وصادرا عن دوافع مختلفة متناقضة أحيانا ، إن ما طالب به الأديب الألماني جوته أن " تاريخ العالم ينبغي أن تعاد كتابته بين الحين والحين " ليسري اليوم على تاريخ العلوم بصفة خاصة .

          إن القسم المتعلق بالعوم عند العرب والمسلمين أهمل أكثر من أي قسم غيره ، ولم يكن البحث فيه خاليا من التحيز ، كما أن الصورة غير المكتملة بعد عن إنجازاته ، هذه الصورة التي كونها باحثو الدراسات الإسلامية والعربية ، وخصوصا بدءا من أواخر القرن التاسع عشر لم تجد طريقها بعد إلى تاريخ العلوم العام ، فمن المعروف أن انتشار هذه المعارف الجديدة من خلال المنشورات والكتب المدرسية لا يتأتى إلا مع مرور الزمن .

          وهكذا قد يتعجب المرء أحيانا إن قيل إن المسلمين ، ومنذ القرن الأول لظهور الإسلام في التاريخ العالمي ، أي في القرن السابع الميلادي ، بدأ وا يأخذون المعارف والعلوم من أفراد البيئات الثقافية الأخرى الذين أصبحوا يعيشون في مجال حكمهم ، وبعد الاتصال الشخصي وتأثير العلماء وناقلي الثقافة ، بدأت عملية ترجمة الكتب من الإغريقية والسريانية والفارسية الوسطى والسنسكريتية إلى اللغة العربية ، ومن الجدير بالملاحظة أن عملية أخذ الفكر والإنجازات الأجنبية كانت تجري دون أي تحفظات دينية .

          بعد 2000 سنة أن انتقلت مرحلة الأخذ والتمثل تدريجيا إلى مرحلة الإبداع ، في أثناء هذه المرحلة ، تفوق العلماء المسلمون مع زملائهم أبناء الديانات الأخرى ممن كانوا منخرطين في نظام الدولة نفسه ، ولكن محتفظين بعقائدهم الدينية ، تفوقوا على من سبقهم تفوقا كبيرا ، فدون عرض أمثلة مفصلة يمكن القول إنهم وصلوا في كل مجال من المجالات العلمية الموروثة إلى درجة أعلى في العلم والمعرفة .

          وعلاوة على ذلك ، فقد قاموا بتعريف العلوم تعريفا جديدا ، وتصنيف فروعها تصنيفا مبتكرا ، كذلك هذبوا ووسعا المصطلحات العلمية ، ووضعوا حجر الأساس لفروع علمية جديدة كعلم الاجتماع وفلسفة التاريخ ، وعلم المعاني . من الثابت أيضا أن الفضل  يرجع إليهم وفي إدخال استخدام التجربة كوسيلة عمل في العلم استخدما منتظما ، وفي إدخال مبدأ التوازن بين النظرية والعمل . لكن هذا التطور دخل مرحلة الركود منذ القرن الخامس عشر الميلادي .

مقاومة النسيان ودور كويتي

          خلافا للتصور الشائع عن " النهضة الأوربية " على أنها " بعث الحضارة الإغريقية " ، فإن الغرب واصل الاعتناء بتلك العلوم التي لم تعد ومنذ مدة طويلة مقتصرة على ما ورثته من الحضارة القديمة ، إن عملية الأخذ هذه تمت بدورها كذلك عن طريق الاتصال الشخصي كما كان الحال في إسبانيا وصقلية ، كما تمت بدرجة أكبر بواسطة ترجمة الكتب العربية إلى الإغريقية في القرن التاسع الميلادي في بيزنطة ، وإلى اللاتينية بعد ذلك بقليل في صقلية أو في إسبانيا في القرن العاشر الميلادي . ومرحلة الأخذ والتمثل هذه التي وضعت فيها شروح وتجميعات للمؤلفات العربية ، وقلدت فيها هذه المؤلفات - بل وسرقت - استمرت إلى أواخر القرن الخامس عشر ، وجرت على شكل موجات عدة ، فمنها ما غاص في الرمال دون ثمرة كأعمال بيزنطة ، ومنها ما كانت له آثار امتدت من إسبانيا وصقلية إلى إنجلترا وحتى إلى مدينة كراكو ( في بولندا اليوم ) ، غير أنه ومنذ القرن الرابع عشر الميلادي ، بدأت الحركة المعاكسة المسماة بمناهضة العربية والتي أدت أخيرا في النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي إلى أن " يطوي النسيان " أسماء العلماء العرب والمسلمين .

          في النصف الثاني من القرن الثامن عشر نشأ علم " الاستعراب " أو الدراسات الإسلامية كفرع من الاستشراق والمقصود بهذا الفرع هو بحث ودراسة العلوم المدونة باللغة العربية ، كان رائد هذا المجال ياكوب رايسكه الذي قام بالمحاولة الحميدة " لوضع العالم الإسلامي في مركز تاريخ العالم العام " بحسب تعبير أحد الزملاء ، وحظيت الدراسات العربة والإسلامية في زمن الكلاسيكية ثم بشكل أكبر في زمن الرومانسية - حظيت بدعم من جهة أخرى : من الفلاسفة وفلاسفة الطبيعة والشعراء ، هنا يرد إلى ذهني بطبيعة الحال الشاعر الألماني جوته الذي كثيرا ما تجلى استيعابه العميق للفكر في العالم الإسلامي الذي هو غريب عليه في الواقع وإدراكه للقواسم المشتركة بين المنتسبين إلى هاتين الحضارتين .

          منذ عهد رايسكه، سعى العديد من المستعربين، ومن بينهم عدد كبير من العلماء الألمان إلى التعريف بإنجازات العلماء العرب والمسلمين من خلال دراسة المصادر العربية ونشرها، فمن أكبر الإنجازات التي قام بها هؤلاء المستعربون أنهم لفتوا أنظار معاصريهم من المسلمين إلى تراثهم العلمي الثري، ومهدوا لهم الطريق لمواصلة البحث، وكان من أهم هؤلاء العلماء وأبعدهم أثراً أستاذي هيلموت ريتر الذي اشتغل لسنوات عدة في جامعة فرانكفورت.

          والآن في نفس هذه المدينة، وفي إطار جامعتها أنشأ معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية الذي سعى ويسعى إلى تحقيق الأهداف التالية :

          1 ) بحث تاريخ العلوم العربية والإسلامية، ونشر ما يبين مكانة العلماء العرب والمسلمين في تاريخ العلوم، ذلك بتحقيق النصوص وترجمتها إلى اللغات الأوربية وبإصدار مجلة متخصصة عن ذلك.

          2 ) إعداد باحثين ومدرسين لتاريخ العلوم العربية والإسلامية، ويمكن تسهيل تحقيق هذا الهدف بإعطاء المنح للطلاب المتفوقين.

          3 ) تكوين مكتبة متخصصة ومجموعة من أفلام المخطوطات العربية.

          4 ) دعوة أساتذة وباحثين ومختصي مكتبات لممارسة البحث في المعهد والمشاركة في الندوات والحلقات العلمية.

          5 ) إيصال نتائج البحث الجديدة في مجال تاريخ العلوم التي يتوصل إليها الزملاء الغربيون إلى الزملاء والطلاب في البلدان العربية والإسلامية.

          وحيث إن جامعة فرانكفورت لم تكن تملك توفير الوسائل المالية لمثل هذا المشروع، كان من المقرر أن يقوم بأعباء التمويل وقف يؤسس لهذا الغرض، فبالإضافة إلى مبنى مناسب، كان لا بد من توافر مبلغ 30 مليون

          مارك ألماني ليتمكن المعهد من الإنفاق من الريع بمعدل 2.5 مليون مارك في السنة.

          ولتنفيذ هذا المشروع، ترّعت دولة الكويت بمبلغ 6.5 مليون مارك لشراء هذا المقر الذي نلتقي فيه وتم تهيئته وتجهيزه وتطويره من التبرع الكويتي، كما تبرّعت 14 دولة عربية وعدد من المنظمات والمشجعين بثلثي رأس المال المطلوب، إضافة إلى ذلك، فإن المكتبة المتخصصة التي نملكها أنا وزوجتي والمتكونّة من 16000 مجلد وضعت تحت تصرف المعهد، كما دخلت مجموعة أفلامنا لنحو 4000 مخطوطة عربية ملك الوقف.

          لقد نوقش مشروع النظام الأساسي للوقف في 10 / 2 / 1981 م في مدينة كورنبيرج مع ممثلي الدول والمنظمات المتبرّعة، وبناء على هذا النظام الأساسي، قام مجلس الجامعة ولجنتها الدائمة لشؤون البحث والتنظيم بالموافقة بتاريخ 4 / 6 / 1981 م على تأسيس المعهد المخطط له في إطار الجامعة. وبموافقة رئيس الحكومة الإقليمية، أصبح النظام الأساسي ساري المفعول، بعد الجلسة التأسيسية لمجلس الأمناء بتاريخ 18 / 5 / 1982 م تم افتتاح المعهد ، وفي الجلسة نفسها، انتُخب معالي الأستاذ عبدالعزيز حسين وزير الدولة لشؤون مجلس وزراء دولة الكويت رئيساً للمجلس".

          انتهى حديث البروفسور سيزكن، وقفز الزمان بنا قرابة الثمانية عشر عاماً، فالآن أتم

          مجلس الأمناء ثمانية عشر اجتماعاً في مقر المعهد بفرانكفورت، وكان الاجتماع الأخير في 6 / 7 / 1999 برئاسة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وزير خارجية الجزائر السابق، ورئيس مجلس أمناء المعهد حالياً (وكان المرحوم عبدالعزيز حسين وزير الكويتي السابق أول رئيس لمجلس أمناء المعهد لفترة أربع سنوات ممثلاً لدولة الكويت خلفه بعدها في عضوية مجلس الأمناء بعدها في عضوية مجلس الأمناء الدكتور سليمان العسكري لمدة عشرة أعوام متتالية). لكن اجتماعات هذا المجلس تمثل نمطاً آخر مضاداً لاجتماعات تعوّدناها لا نترك وراءها غير الكلام، فثمة حارس دءوب اسمه فؤاد سيزكن يزن الكلام بمقياس الفعل، وكان التقرير العلمي الذي قدمه لمجلس الأمناء الأخير تعبيراً أميناً، بل شديد التواضع وإنكار الذات، في عرض الإنجازات المتحققة، وهي كثيرة ذكرها البروفسور في تقريره، ونعيد ذكرها، وقد رأيناها متحققة بالفعل، بل بأرقى تجليّات الفعل ، وهي :

          1 ) مجلة تاريخ العلوم العربية والإسلامية، ثلاثة عشر مجلداً ضمت ما سبق تقديمه من أبحاث كان آخرها بحث الدكتور ماتياس شرام حول منهج حساب المسافات للبحارة العرب في المحيط الهندي، ودراسة حول ابن الهيثم للدكتور عبدالحميد صبرة.

          2 ) ببلوغرافيا لكل ما كتب ونُشر عن العلوم العربية والإسلامية والمجتمع العربي الإسلامي باللغة الألمانية، وهو مشروع بدأ منذ 12 سنة، وتوافر في 21 مجلداً حتى الآن، وهي قابلة للزيادة.

          3 ) مشروع نشر المخطوطات العربية المهمة بالطباعة التصويرية، وهو مشروع جبّار يبتعث فرائد المخطوطات برونقها القديم ذاته، حتى ألوان الزخارف التي تزّين الهوامش والزوايا، وكان آخر الفرائد التي أعيد نشرها ضمن هذا المشروع كتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، في الجغرافيا البشرية، للمقدسي، من النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وعنه بقول مكتشف المخطوط آلويس شبرنجر : "إنه - أي المقدسي - أكبر جغرافي عرفته البشرية إطلاقاً".

          فهل نعرفه نحن العرب والمسلمين؟!

          4 ) مشروع نشر وجمع دراسات المستشرقين، وقد أنجز عبرها 278 مجلداً في مضمار "الجغرافية الإسلامية" الذي يشتغل عليها البروفسور سيزكن منذ 15 عاماً، وألحق بها 89 مجلداً عن مؤلفات الرحّالة الأوروبين العالم الإسلامي، وتتوالى الإنجازات : 99 مجلداً في "الطب الإسلامي"، و 100 مجلد في الرياضيات والفلك الإسلاميين، و 4 مجلدات في "علم الموسيقى - في البلاد الإسلامية"، و 41 مجلداً في الفلسفة الإسلامية، ولايزال العمل مستمراً.

          5 ) مشروع تأسيس متحف في إطار المعهد يعيد تصنيع نماذج للآلات العربية والإسلامية التي ابتكرها واستخدمها العلماء المسلمون.

          وهنا لابد من وقفة.

نحن أولاد أصل

          لم أشعر بالاعتزاز بجذوري العرقية والدينية مثلما شعرت بذلك مرتين : أولاهما كعربي وأنا أواجه آثار الحضارة العربية الراقية والمضيئة في تدمر بسوريا، وثانيتهما كمسلم وأنا أمضي مذهولاً أمام نماذج الأدوات التي ابتكرها واستعملها العلماء المسلمون في زمنهم البعيد الزاهر، إنجاز يصعب تفسيره إلاّ بأنه معجزة قاد تحققها منشئ معهد العلوم العربية والإسلامية بفرانفكورت فؤاد سيزكن، ومن اجتمعوا حوله، كأنه استدعى هؤلاء العلماء المسلمين عبر كتبهم التي صانها بالنشر والفهم، جعلهم يعبرون حاجز الزمان ليشرحوا للمهندسين الألمان كيف تتكون آلاتهم وكيف تعمل.

          معجزات تقنية حتى بمقاييس عالم اليوم الذي يباهي بقفزاته التقنية العالية، وعلى سبيل المثال - مجرد المثال - الآلة التي اخترعها الفلكي أيو محمود الخجندي في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري تحت اسم "الآلة الشاملة"، وهي شاملة حقاً إذ تجمع بين عمل الأسطرلاب والكرة السماوية، وبها أثبت قناعته التي كان أول من تنبأ بها، وهي أن ميل محور الأرض يقل باستمرار ، وهذا مما توصل إليه العلم الحديث أخيراً باستعمال تقنيات الفيزياء الفلكية، الإلكترونية، ومسابر وتلسكوبات رحلات الفضاء.

          في القبو المذهل بنظافته وأناقته وديكوراته الرائعة، من ذخائر الفن الإسلامي المنتقاة بذوق رفيع، قادنا مساعد البروفسور سيزكن، الأستاذ مازن العماوي، فرحنا نرى عجباً : آلة للجزري ترفع الماء بالقوى الهيدروليكية حتى 20 ذراعاً، وآلة ابن الهيثم لتحقيق خط الزوال، وآلة ابن سينا لرصد الأجرام السماوية، واستخراج ارتفاعاتها وأبعادها، وجهاز لقياس كمية الدم المفصود اخترعه الجزري في القرن الهجري السادس، رأينا ساعات تعمل بالماء، وأخرى  عن بالشموع ، وألعابا ميكانيكية ملهمة ومتقنة، رأينا نماذج لإبداعات المعماري البارع سنان، وأيقنا أن البيانو الغربي هو سليل آلة موسيقية استعملت في الشرق المسلم، رأينا مدرّعات بكرا، ومنجنيقات دقيقة التصويب دقة صواريخ اليوم الموجهة بالكمبيوتر وشعاع الليزر.

          آلات يرجع تاريخها إلى ما وراء خمسة قرون، وما يقارب ألف سنة في بعض الأحيان، وكلها تتميز - كما قال مازن العماوي وهو يقودنا عبر ردهات عجائبها - بثلاث صفات : (1) الدقة (2) سهولة الاستخدام (3) الجمال.

          لقد شعرت بالعزّة لانتمائي لهذه الحضارة الإسلامية، وإن أفلت، شعرت بأننا - المسلمون عموماً والعرب خصوصاً - أبناء أصل برغم ما نحن فيه من انحدار وهوان، وهذا شعور ثمين ثمين، يعيننا إن تمثّلناه على القيام من كبوتنا، بل انكفائنا الذي طال وأثقل.

نداء أخير

          قبل أن ننصرف، عدنا لنودّع البروفسور فؤاد سيزكن، وكانت ملامحنا موسومة بعلامات الدهشة والانبهار، لكن الرجل الكبير في تواضعه، أخذ يحمّل نفسه بعض اللوم لأنه لم ينتبه للبُعد الإعلامي أو الاتصالي للتعريف بنشاط المعهد، فقد أخذه العمل الكثير الذي كان عليه أن ينجزه، ولم يترك له وقتاً ولا جهداً للسفر والاتصال بوسائل الإعلام، وقال كلمة سأظل أرددها كشعار حياة فيما تبقى من عمري : "الفكرة في حاجة إلى التأمل حتى تنضج، والتأمل في حاجة للوقت، والطائرات تضيّع الوقت".

          نعم أيها الرجل الكبير الأمين، فما كان لك أن تنجز كل هذا وأنت تتقافز تحت الأضواء ومن أجل الأضواء هنا وهناك، لقد اخترت الجوهر فاعتكفت وأحسنت عملك الجليل، والله يجب مَن أحسن عمله، وبقي على كل مَن يهمّه الأمر أن يحسن عمله تجاه صنيعك الجميل، وإنني أضع بين يديك ما أجيده : أن أساهم بأي جهد تحريري في إنجاز دليل هذا المتحف الزاخر، ودون مقابل، إذا طلبت.

          ونداء أوجهّه لفضائياتنا العربية : كيف تهملون هذه المأثرة التي تبعث في عروقنا بكثير من الثقة وسط كل هذا الإحباط العربي والإسلامي المتشعب الغائر في أيامنا هذه.

          وإلى كل المسئولين عن الجوائز الثقافية العربية التي لم ينلها هذا المعهد ومنشؤه : إنها جريمة أن تفوتكم فرصة تكريم هذا الرجل المخلص وعمله الكبير، الجميل ، المتقن.

 

محمد المخزنجي