في الحديقة الساحرة

   في الحديقة الساحرة
        

          كيف للكلمة أن تفسّر الشعور.. والرغبات.. الكلمات تفسّر ذاتها؟ أراها في عيون الناس، في كل نظرة، هي بقربي، في غرفتي، على نافذتي، في ألواني وأحرفي وكلماتي، صوتها كنغم جميل، يتردد في سمعي وفي جسدي، شفتاها تنفرجان عن تعبير غامض، كأن ما أقوله ليس سوى أغنية أردّدها منذ أن التقينا، منذ سنة، في سهرة، في قصر قديم.
في بيروت.. في السابع من حزيران، كان القمر على موعد تلك الليلة، يطوف في الحديقة حاملاً روائح وعطور الأزهار والورد والنساء.

          في تلك الليلة، كان إله الحب يرافقني كظلّي.. كان دليلي ومرشدي. ليلى أو ليلا، هكذا كان اسمها لام ياء لام ألف أو لام ياء لام ياء، ليلى كما نادى قيس، قل «ليلا» كما أنا أقاسي. تلك الليلة، كان نصيبي أن أقع في أحضان «ليلا».. تدحرجتُ حتى انتهيت إلى أحضانها.

          رنّ صوتها في مسمعي كوتر قيثارة، ولم أعلم معنى ضحكتها، ثم تابعت لا يعني لأنك وقعت بقربي سأكون حارسة لك. ورحت أحاور بحريّة وأجواء الحديقة ومَن فيها، ساعدتني لأن أكون كما أرغب أن أكون.

          - لا أريدك أن تكوني حارسة لي، فأنا لست بحاجة إلى حارس، أطلب منك هذا لشعور جديد أشعر به الآن.

          قلت وعيناي تتنقلان في وجهها الساحر، قلت لها بصوت خافت وكأني عصفور على غصن فارشًا جناحيه سائلاً رأفة وعطفًا: هل تعرفين كيف وقعت ولأي سبب؟

          - وقعت كما يقع كل إنسان، عندما ترتطم قدماه بشيء على الأرض.

          قلت لها: صحيح، لكن وقوعي على الأرض هو وقوعي في الحب.

          أجابت وهي تدير وجهها: هذا سهل.. أنت تحب بسهولة.. هذا مخيف.

          - مخيف؟ العشق مخيف؟

          - لا.. السهولة.. مَن يقع بالحب بسهولة، يهجره الحب بسهولة أيضًا.. قل لي ما اسمك؟ أولاً.. وثانيًا ماذا تفعل؟ أعني ما هي اهتماماتك في الحياة؟ ثالثًا: مَن دعاك إلى هذه السهرة؟ رابعًا:قل لي.. ضحكت.. ثم تابعت.. قل لي هل أنك وقعت أم أنك أوقعت نفسك؟ السهرة في أولها.. لماذا لا تشرب.. كأسك مازالت كما كانت. تأبطتْ ذراعي وصعدنا إلى الصالة.

          ***

          ما إن دخلنا حتى أسرعت إلينا السيدة «ف». معاتبة: أنت لا تأتي لزيارتي إلا بدعوة خاصة وضحكت بعينيها وحمرة شفتيها ثم نظرت إلى رفيقتي فقدّمتها لها: أ.. أ.. السيدة.. صديقة السيد.. قلت متلعثمًا.

          ***

          - أهلاً وسهلاً بكما.. كيف حال الرسم؟ قالت، قلت: الرسم بحالة جيّدة والرسام حالته ليست على ما يرام.

          - هذا أنت.. لن تتغيّر.. أنت كما أنت. وتركتنا.. قلت لرفيقتي أرى الآن أشخاصًا لا أحب أن أراهم.. المهم أني برفقتك.

          - إذن أنت فنّان.

          الشرفة هادئة، تُسمع أصوات من بعيد وموسيقى.

          - إذن أنت رسّام!

          - نعم.. أين العيب في هذا؟

          - ماذا ترسم؟

          - سؤال صعب.. أنا أرسم.. ألا يكفي هذا؟

          - لا.. كنت أريد أن أعرف ماذا ترسم وكيف ترسم؟

          - ولماذا أرسم؟ ستقولين.

          - صحيح.. لماذا ترسم؟

          - لم تمض ساعة على لقائنا.. سنعرف بعضنا مع مرور الأيام.

          - هاها.. عندك ثقة كبيرة بذاتك.

          - لا.. شعور يقول لي إننا سنلتقي كثيرًا.. ألا تشعرين بالشعور نفسه؟

          - أنا؟ أنا لست فنانة لأرى وأحسّ بالمستقبل.

          - إنك امرأة.. والمرأة إحساسها يقودها ومرارًا هي تقوده وتوجّهه.

          فجأة ظهر شاب، اقترب منا وجلس دون أن ينبس بكلمة..

          مضت لحظات قبل أن يقول: بحثت عنكِ في كل مكان، قال بهدوء.

          أجابته: انتظرتك.. ثم قدّمتني إليه: صديقي.. رسام.. أَنساني الوقت.. كدت أنسى موعدنا.. قالت هذا ووضعت يدها على يدي.. ثم قدّمته إليّ: دكتور وسيم.. مؤلف موسيقى. سألت: دكتور بالموسيقى؟ نعم.. أجابني.. من جامعة نيويورك.. وحضرتك؟ سألني: نعم! أجبته، حضرتي ماذا؟

          - في أيّ جامعة تخرجت أو درست؟

          - أنا لست جامعيًا ولا دكتورًا.. قلت هذا ونظرت إليه بتمعّن، قميصه بياضه ناصع جدًا، وربطة عنقه وكيف تلتف تكاد تخنقه.. ابتسمت ثم ضحكت وبصوت عال، شاركتني بالضحك، كذلك الدكتور الموسيقي، وأصبحنا رجلين وامرأة نضحك معًا دون سبب.. عندها تحوّلت السهرة إلى مزاح ولهو، ولم أدر ما طرأ علي في تلك الدقائق، فقرّرت الانسحاب، تردّدت وقمت مودّعًا، لكنها أمسكت بذراعي ورجتني أن أبقى، فرحت لهذا وسمعت وأطعت، وعدت أضحك غصبًا عني عندما نظرت إلى قميصه الأبيض الناصع فذكّرني بمدير مطعم فخم، سألتني عن سبب ضحكي، أجبتها أرى.. بل أنا واثق بأنك.. بحاجة.. إلى الفرح.. إلى الضحك.. هل تعلمين أن اللبنانيين ينقصهم الفرح والأعياد والضحك أيضًا..؟ قال الموسيقي: الفرح عندنا، تريد أن تقول؟! تابعت: الفرح عندنا وعندهم ولم أستطع إلا أن أنفجر بالضحك مرّة ثانية، وشاركتني هي في الضحك وقد أنارت الليل بجمالها وباهتمامها بي وبإهمالها للموسيقي الدكتور مدير المطعم!

          وبما أن السهرة تسير على ما يرام، وحيث إني أمزج الكلام بالضحك. ولأن الضحك يعبّر عن الرغبة، فإن ما حدث لي جعلني أتوق إلى إشباع رغباتي.. لكني أتساءل أي رغبة وأي رغبات؟ شعور يحصل لي بعض المرّات وأنا أرسم، خاصة عندما تمضي ساعات وأنا في مرسمي وفي حالة تشبه الغيبوبة الواعية تخلقها مسيرة العمل الذي أرسمه.. هي الحالة نفسها التي أنا فيها الآن، وكأنها حالة نشوة وفرح وهذيان.. أو لست أدري ما هي.. أليس من الصعوبة تفسير الشعوب بالكلمات؟ أو لنقل هي الحالة بين الوعي واللاوعي.. تُرى هل هي اللذّة؟ لست أدري.

          وعندما عدت إلى صحوتي واستيقظت من حلمي، كان الحديث دائرًا بينها وبين الموسيقي، هي متألقة كالقمر، وهو محتدّ وبصوت خافت يقول لها: كنت مرتبطًا بموعد، بموعد عمل، قاطعته وبكل هدوء: لمَ أتيت الآن؟ في آخر السهرة؟ وتطلب مني أن نخرج الآن؟ لا.. أرجوك.. ثم نظرت إليّ وقالت: أنا الآن لا أنتظر أحدًا.. أنتظر الفجر، هل تعني إليك شيئًا ألوان الفجر؟ قلت: ألوان الفجر والنهار والظهر والمساء والليل.. شرط أن نراها معًا.. وبعصبية ظاهرة، انسحب الموسيقي الدكتور واختفى في ظلمة الليل.

          ***

          الآن نستطيع أن نتعرّف على بعضنا أكثر، الفجر لن يظهر الآن.

          أجابت: لابدّ أن يظهر..

          - هل لاحظت كيف تتحوّل ألوان الليل، وكيف تتحوّل ألوان النهار؟ عفوًا.. عفوًا.. لا أدري ما أقول.

          - ألوان النهار وأنوار الليل.. أنا أحب الليل.. أشعر بأن ظلاله تحميني فألجأ إليها. إلى سحرها.. إلى أسرار الليل..

          - كأنكِ تقولين شعرًا..

          - ألا تشعر الآن بالسّحر.

          - انظري.. انظري إلى تلك الخيوط الملوّنة في السماء.. هي تبشّر بمجيء الفجر.

          لم تنظر إلى السماء حيث ظهرت بوادر الفجر، موجات متناثرة في الأفق ملوّنة بالأخضر والبرتقالي الشفّاف، أعدت قولي لها: انظري كيف ينبثق النور من عتمة الليل. لكنها لم تكترث قالت وبصوت خافت حزين: مَن يدري بحالي غيري؟ أنت؟ ولم أعرف بعد اسمك حتى الآن؟!

          - الإنسان يعلم أشياء كثيرة.. لكنه يجهل أقرب إنسان إليه.

          - أيّ إنسان؟

          - لا.. أعني أن أقرب الناس أو أقرب إنسان إليك هو أنت.

          وأنا أيضًا.. أنا.. لا أرى نفسي إلا بالمرآة.. وأنت كذلك..

          المرأة والمرآة.. نظرت إلى السماء وتنهّدت وساد صمت بيننا، وبدأ النهار يستيقظ ونعست عينا رفيقتي.. وبدت كالحلم.. كالسّراب شفافة كألوان الفجر.. وكم كنت أودّ أن أضمّها بذراعيّ، بعد دقائق سألتني بماذا أفكّر؟ قلت: عندما أنظر إلى الطبيعة أترك إحساسي على سجيّته ولا أفكّر.. أعتقد أن الإحساس أكثر ذكاء من الذكاء..

          - وتقول إنك لا تفكّر وأنت تنظر إلى الطبيعة! وما الذي تقوله الآن؟

          - أنت من ابتدأ بالكلام.. وصوتك أعاد إليّ رشدي.. ضحكت: شكرًا.

          الشمس.. الشمس..

          - ذكرتِ الشمس.. سمعت صوتك وأتت لتقبّلك.

          ظهرت الشمس.. نظرت حولي. لا أحد في الحديقة، طلبت منّي أن أنتظرها وأنها ستعود حالاً..

          مضت لحظات ودقائق. قمت من مكاني أبحث حولي. اختفت. لابدّ أنها صارت بعيدة عن الشرفة والحديقة والصالة وضوء القمر وسحر الفجر. وإن ابتعدت فهي هنا بقربي.. أسمع صوتها وأتنشّق عطرها.
---------------------------
* فنان تشكيلي وكاتب من لبنان.

---------------------------------------

بِلاَدي لو فَهِمْتِ بَسَطْتُ عُذرِي
                              إذا ما القلب عاوده نزوع
بها الحسن المباح لمن بغاه
                              وجَزْعٌ - لِلْغرِيب به - مُريعُ
إلى أهْلِي الْكِرَامِ تُشَاقُ نَفْسِي
                              فهل يوماً إلى وطني أريع؟

قيس بن الملوح

 

أمين الباشا*