مسرحنا وأفق الكتابة الجديدة

مسرحنا وأفق الكتابة الجديدة
        

          شهدت الكتابة المسرحية تحولات عديدة، منذ أن ابتدأت العملية التواصلية بصيغتها البدائية التي اقترنت بالفعالية الاجتماعية العفوية والطقوسية، وتواصلا مع التطور الاتصالي الحديث وما يشهده من تغييرات مستمرة وإضافات نوعية من شأنها أن تنعكس على مجمل الخطاب التواصلي في الفن المسرحي، وما تفرزه من تعددية للرؤى التجريبية التي نشهدها اليوم، وما تضفيه هذه التجارب من حضور للمشهدية من جانب وترسيخ للعلاقة مع المتلقي من جانب آخر.

          كانت الكتابة المسرحية هي الأساس والمصدر للخطاب المسرحي، فالنص هو المهيمن على مجمل العملية المسرحية، وكان المؤلف هو من يصوغ الأفكار ويحدد مسار تجسيدها ويحدد أسلوب توصيلها، أما المخرج فلم يكن دوره قد تبلور بعد وظل لفترة طويلة مجرد أداة لإيصال أفكار المؤلف، وكذلك الحال بالنسبة للممثل الذي كان جل همه أن يستطيع تجسيد أبعاد تلك الشخصيات التي رسم تفاصيلها وحدد علاقاتها الكاتب بدقة وصرامة.

          وكان هدف الجميع إرضاء نزوع المؤلف وتلبية رغباته وعدم الخروج من إسار كلماته وإرشاداته تلك التي كان ينوء بها النص لتوضيح تفاصيل أخرى تتجاوز حدود الشخصيات والأحداث إلى عناصر العمل المسرحي وعلاقاته المتشابكة ضمن منظومة العرض.

          إن هذه المسئولية التي كان ينهض بها المؤلف جعلت مدونة النص هي الأساس في العمل المسرحي. ومن هنا كان ينظر للنص بمنزلة الإنجاز الرئيسي للعمل المسرحي وهو الاعتبار الأول في تقييم النقد الذي كان منصبا على ما يقرأ فيه وليس ما ينجز بعد التجسيد أي ضمن أوليات العرض وخضوعه للمسرحة والتأويل، لقد كان الشغل الشاغل للفنانين هو كيفية نقل المكتوب والحفاظ على أفكار المؤلف بكل دقة وأمانة.

          وقد ظل هذا الحال مع التزمت الأرسطي واتباع قوانين المحاكاة قائمًا لقرون طويلة حتى انبثاق عصر الأنوار في أوربا وفرنسا بالذات، الذي مهد للتجارب الجديدة والمتميزة في ما بعد، تلك التي قادها المخرجون الذين عملوا على تقديم شكل جديد للمسرح، ابتداءً من أدولف أبيا، مرورًا بجوردن كريج وستانسلافسكي وصولًا إلى مخرجي الطليعة، أمثال برتولد برخت، فيزفولد مايرهولد، بسكاتور، ماكس راينهارت، فختانكوف، انطوان ارتو، يجي غروتوفسكي، جوزيف شاينا، يوجين باربا، بيتر بروك وآخرين، لكن تجارب هؤلاء كسرت حواجز النص واقتحمت بطليعيتها تجاوز المألوف، لتستمد من النص رؤية أخرى ربما تتقاطع معه أو تضفي عليه نوعًا من التسامي والعبور إلى مجاهل لم يألفها وإضافات لم تكن في حسابات الكاتب، كما أن حضور دور المخرج انعكس على مجمل العمل المسرحي وغير من قواعد اللعبة، إذ أصبح النظر للعناصر الدرامية دون تمييز، وأخذت الحركة تستحوذ على أكبر قدر في مشهدية العرض الذي تتضافر فيه عناصر الرقص والإيماء والزي والسينوغرافيا والماكياج، وقبل هذا كله يكون للدراماتورجيا إسهام متميز في إعادة كتابة النص وتأهيله للخشبة بعد اختيار فضاء العرض الذي أصبح له شأن في بنية العرض وعلاقته بالمتلقي وهو الطرف الأهم في معادلة تحقق الأثر للعمل المسرحي، كل هذه العوامل قادت إلى أن يتخلى المؤلف عن مسئولياته السابقة ويرضى بما آلت إليه الحال، ليتخلى عن دور الوصاية، تاركًا شأن التنظيم والتركيب والتجسيد لمنظومة جديدة من أصحاب الاختصاص والخبرة، أولئك الذين تناغمت جهودهم تحت قيادة عنصر الإخراج الذي أضحى المهيمن على سلطة العمل المسرحي وهويته.

انفتاح المسرح

          ومما زاد في تراجع سلطة المؤلف المسرحي انفتاح المسرح على الحقول المجاورة، ولم يعد النص المكتوب خصيصًا للمسرح هو الجنس الوحيد لإنجاز العرض، بل تعمق دور الدراماتورجي الذي راح يكيف الأجناس الأخرى لتكون مادة لصياغة العرض، وهكذا صرنا نشاهد تجارب مسرحية تعتمد في بنيتها على أجناس متنوعة كالقصيدة الشعرية أو القصة السردية أو الحكاية والأمثال الشعبية أو حالة يومية أو مقالة أو خبر في صحيفة يومية أو حتى أغنية أو حلم يمتزج بالواقع، وبهذا تضاءل دور النص المكتوب وفقد سحره تمامًاً، ولعل عروض المسرح البصري تلك التي تقوم على الخيال والتكثيف الصوري أو عروض البانتوماميم قد ألغت تمامًاً كل ما يمت بصلة لمدونة النص المكتوب.

          ومع تطور المجال التقني وما وفره من إمكانات كبيرة أمام الفنان المسرحي لتحقيق رؤاه المتخيلة وتحويلها إلى أفعال ملموسة في فضاءات مصنوعة وموحية، دفع ذلك الفنان لأن يغادر الشكل التقليدي وينأى عن تلك الحوارات والاستغراق في المناورات اللغوية إلى ابتداع صيغ المرئيات الحركية والاستعراضات التقنية والتلاعب بالألوان والأضواء وخلق المتعة البصرية للمتلقي، الذي تأهل لاستقبال ذلك المزيج البصري بفعل ما تنتجه الوسائل الاتصالية الأخرى التي غذت مخيلته بالكثير، وهنا كان لزامًا على فنان المسرح أن يفيد من تلك المعطيات وتوظيفها لما يجعل فنه قادرًا على الحضور والتواصل والمنافسة، لذا بات الفنان المسرحي منشغلًا بالتجريب والإضافة والسعي بوعي لابتكار الصيغ المغايرة والمعاصرة للتأويل الجمالي، فالتجريب المسرحي لم ينعكس على مستوى الكتابة للنص فحسب وإنما شملت قوانينه عناصر العملية المسرحية كافة بما فيها التمثيل والإخراج والجمهور، هذا إلى جانب تغير نمط الإنتاج المسرحي وسبل التسيير والترويج الثقافي برمته.

اتجاهات عالمية

          إن اتجاهات المسرح العالمي بمختلف عروضه التجريبية قد انطلقت من جدلية تشكيل النص والذات الجماعية من منظور تاريخي عبر بناء الميزانسين الكلي وتقديم رؤية فنية متكاملة ومتبادلة بين الذات الراسلة والذات المتلقية، باعتبار أن الفرجة لن تكتمل ما لم تحصل المشاركة الفاعلة بين طرفي البث والاستقبال بوصف أن العملية المسرحية هي فعالية تبادلية لولبية مركبة، إن هذا الفهم الجدلي ساهم في إنقاذ المسرح من حالات الركود والتحجر وقاده إلى الاستمرار والتواصل والتجديد.

          لقد أفاد كتاب ومخرجو ومثقفو أوربا من واقع التناقضات الاجتماعية والفكرية والسياسية التي كانت تعصف بالقارة وتفرز انعكاساتها على العالم أجمع خلال القرن التاسع عشر وما تبعه، لذا فقد وجدوا في المسرح فضاء لإبراز أفكارهم ومواقفهم عبر إنجازات هدفت إلى تحقيق النزوعات التجريبية واختبار وقعها على المتلقي الذي كان شغوفا بمتابعة هذه العروض لما تختزن به من أفكار جديدة رافضة للواقع عبر أسئلتها المقلقة وأساليبها المستندة إلى وعي تأريخي وجمالي يؤطر الإبداع والكتابة المسرحية الجديدة.

الحرب والمسرح

          ولعبت الحروب وانعكاساتها على المجتمعات دورًا كبيرًا في تغيير مسارات الكتابة المسرحية، بل طالت آثارها المنجز الثقافي والفكري برمته، وقد أفرزت تلك المرحلة اتجاهات جديدة، لعل أبرزها كان اتجاه العبث الذي مهدت له تيارات سابقة كالدادائية والسريالية اللتين تعتبران الواقع غير مقبول، وأن الإنسان يعيش في عالم غير عقلاني وتسعيان إلى التعبير عنه بوسائل فنية باعتماد الكتابة أو الرسم والموسيقى والأداء وإعطاء الأهمية للعقل الباطن وعدم الاهتمام بالقيم الأخلاقية السائدة. وقد اعتمد مسرح العبث نمطًا آخر من المسرح المتمرد، حيث تخلى تماماً عن إمكانية الحدث ومنطقيته وهمش أسماء الشخصيات وجعلها بلا ملامح أو أبعاد، كما ضمنوا عروضهم أفكارا وعقدا ثانوية تتطلب من المتلقي إدراكًا في إعادة تركيبها وتأويلها، لقد أراد رواد هذا الاتجاه أمثال صاموئيل بيكت، أداموف، يوجين يونسكو، هارولد بنتر وآخرين أن يؤكدوا عزلة الإنسان وفرديته، في مجتمع صارت تحكمه القيم المادية رغم التقدم العلمي الذي استثمر لتدمير الإنسان وليس تسخيره لتطوير حياته وتحقيق سعادته، لذا لجأوا إلى نوع آخر من الكتابة الغرائبية التي تتقاطع مع المنطق الأرسطي تمامًا، فهي تجارب ركزت على أعماق النفس البشرية الذاهلة أمام هول المأساة التي تحيط به، كما نلمس ذلك في مسرحيات مثل، الراسي، والمغنية الصلعاء، الخراتيت، نهاية اللعبة، وغيرها، وقد انعكست معطيات هذا الاتجاه على كتاب ومخرجي المسرح العربي فراحوا يجارون ذلك التيار بتجارب متنوعة، مثلما كتب توفيق الحكيم، يا طالع الشجرة أو صلاح عبدالصبور في مسرحية مسافر ليل وغيرهما.

          إزاء التطورات التقنية والاتصالية التي انعكست آثارها على مجمل الإنجاز المسرحي عالميا، لابد أن نتساءل عن واقع مسرحنا العربي وأن يقف أمام التجارب الأخرى؟ وكيف يمكنه أن يتجاوز حالات النكوص والتراجع في مستوى العلاقة بين المسرح وجمهوره الحقيقي وسط منافسة الوسائل الاتصالية الأخرى، المتمثلة بالقنوات الفضائية والبث الحي والأجهزة الإلكترونية بما فيها الإنترنت وأدوات العرض المرئي المختلفة، وما السبيل كي يساير التجارب العالمية المتطورة؟

          إن مواجهة الإشكالية القائمة تتطلب برأيي نوعًا من الاهتمام في بنية الخطاب المسرحي وتجاوز السائد والانفتاح لحوار الآخر، بعيدًا عن النزعة الشكلية المنغلقة والرافضة لكل جديد وغريب تحت ذريعة التشبث بالهوية أو المحافظة على التراث والصبغة المحلية.

          إن ما تحتاج إليه الكتابة المسرحية هو استيعاب الجديد وتطويعه للتعبير عن روح العصر وجوهره، ومن خلال مسرح عربي يعتمد في إنتاج حياته على وعي وثقة, وهذا ما يجعله يفرض تميزه أمام الثقافات القوية المسيطرة، لا بد من تجاوز الهامشي والسطحي وطرح مسرح السؤال والمغامرة والبحث والتجريب كأفق مستقبلي، وهذا سيقود إلى بناء الذوق والارتقاء بعملية التلقي وهذا ليس أمرًا سهلًا ما لم تتم إعادة النظر بصورة نقدية بمجمل النظم السائدة التي تدير وتحرك وتوجه المسار الثقافي العربي بغية التأهل لمواكبة التطورات العالمية، بمسرح ينتمي إلى المعاصرة والتجدد المنطلق من الذات والزمان والمكان العربي لجعل اللحاق المستحيل بالحضارة الغربية أمرا ممكنا, وذلك من خلال إنتاج مسرحي يرتبط بالحياة الاجتماعية وتناقضاتها، ومن هنا لا بد من إيجاد السبل الكفيلة لترويج فننا المسرحي واستثمار الإمكانات والوسائل الاتصالية من أجل تفعيل المسرح ضمن مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بما يجعله منتوجًا يندرج ضمن قائمة رأسمال الثقافة المنتجة والرابحة بجدارة.

          إن هذه الخطوات وغيرها من شأنها أن تقرب مسار الكتابة المسرحية العربية باتجاه المسرح الإنساني العالمي، المسرح الذي يصدر من فكر نير ورؤى خلاقة وأهداف تسمو بالنبل والقيم والمبادئ الرفيعة في أفق كوني وحضاري شامل.
--------------------------------
* كاتب عراقي مقيم في السويد.

 

حسين الأنصاري




رائعة صموئيل بيكيت (في انتظار جودو) يؤديها تيسا جاتسيك (في دور إستراجون) ولاورا تاتار (في دور فلاديمير) على مسرح كيميل