عاصمة أرض التاج قديمًا.. جراتس.. مدينة للثقافة والعلوم والحب: إبراهيم فرغلي

عاصمة أرض التاج قديمًا.. جراتس.. مدينة للثقافة والعلوم والحب: إبراهيم فرغلي
        

عدسة: إبراهيم فرغلي

          «أجل، أجل، جراتس، أعرف المدينة معرفة جيدة. لا يحدث بها الكثير حاليا، لكن في ما مضى! هل تعرف أن شكسبير أخرج عرض «تاجر البندقية» في جراتس؟» هذه مقولة ينقلها الكاتب النمساوي الراحل فريتز أورلاندو Fritz Orlando، في إحدى كتاباته عن مدينة جراتس، المدينة الثانية في النمسا بعد العاصمة فيينا، وعاصمة إقليم إستريا Styria وهو ما تشير إليه بالفعل أدبيات عدة، تقول إن العرض الأول بالألمانية لهذه المسرحية عرض في قصر الأرشيدوق فرديناند في العام 1608م.

          تكشف هذه المقولة العابرة جانبًا أساسيًا من جوهر هذه المدينة ذات الخصوصية، التي يمكن اعتبارها مدينة ثقافية بامتياز، رغم أن شهرتها لا تقارن بشهرة العاصمة فيينا، لكن كل خطوة خطوتُها في هذه المدينة كانت تمنحني هذا الإحساس، بداية من أمام مبنى جامعة جراتس، التي احتفلت قبل عامين فقط بمرور 425 عاما على إنشائها، أي أكثر من أربعة قرون!

          تعتبر جامعة جراتس أقدم جامعات المدينة، وربما من أقدم جامعات أوربا كلها، حيث أسسها الأرشيدوق تشارلز الثاني في العام 1585. كانت الكنيسة الكاثوليكية تسيطر عليها، ولكن جوزيف الثاني أعاد إليها استقلالها في العام 1782، وفي محاولة للسيطرة على المعاهد التعليمية أعيد إنشاؤها في العام 1827 بواسطة الإمبراطور فرانسيس الثاني، وسميت «Karl-Franzens Universitat».

          ومن المؤكد أن مدينة لديها جامعة عريقة كهذه، راكمت جهودا تعليمية وأكاديمية وبحثية طويلة، ولا شك في أن ذلك أيضا ينعكس على سمعتها في مجال التعليم الجامعي على نحو أو آخر. ويمكن أن يلاحظ المرء هنا بالفعل أعدادا هائلة من شباب الدارسين الذين تفيض بهم جنبات المدينة، كما يلفت الانتباه بالقدر نفسه الأعداد الكبيرة للدراجات، ففي كل ساحة أو ميدان من ميادين جراتس هناك موقف خاص للدراجات، التي تعد الوسيلة الأولى المفضلة للفتيات والشباب في جراتس، الذين تفيض بهم شوارع المدينة العريقة. ويمكن القول أيضا إن جراتس هي مدينة الطلبة والتعليم، إذ توجد بها أكثر من ست جامعات يدرس بها ما يزيد على 40 ألف طالب من النمسا وخارجها.

          تقع المدينة على ضفاف نهر مور Mur، جنوب شرق النمسا، ويمكن لمن يمر بوسط المدينة أن يعبر جسرا يفصل بين جزئي المدينة التي يقطعها النهر، وهو الجسر الذي يمكن أن يرى الفرد، حين يمر به، عددا هائلا من الأقفال المعدنية الصغيرة التي تُعّد ظاهرة هُنا، حيث يشيع في ثقافة جراتس، وربما مدن أوربية أخرى، أن يأتي العشاق إلى الجسر، ويكتب كل عاشقين اسميهما على القفل ويغلقانه في موضع من السور المعدني الذي يسّور الجسر، في دلالة رمزية على أمنيتهما أن يغلق كل منهما قلبه على حب رفيقه للأبد.

          تمتلك جراتس خصوصية جمالية فريدة أظنها تتشكل من تضافر مظهرين أو سمتين جوهريتين في طابع المدينة؛ الأول هو الخصوصية المعمارية لمبانيها، التي يعود أغلبها إلى فترة العصور الوسطى، وأغلب المباني هنا يحمل سمات العمارة لعصر الباروك، ما يجعل منها مدينة عمارة أثرية لافتة، أما المظهر الثاني الذي يؤكد الطبيعة الخاصة لجراتس فهو أنها منطقة غابية، تفيض فيها وحولها الغابات والتلال أيضا حيث تحيط بها من ثلاث جهات.

          وهكذا نجد تعانقا فاتنا وفريدا بين الطبيعة بتلالها وغاباتها مع المباني العريقة الجميلة. وهي ليست مجرد عمارة عريقة بل واحدة من أجمل مدن العصور الوسطى، ما دعا «اليونسكو» إلى اعتبار المدينة القديمة في جراتس واحدة من أفضل المناطق المحفوظة في أوربا الوسطى، وقامت المنظمة بإضافتها إلى قائمة مواقع التراث العالمي.

          تشير الدراسات التاريخية إلى أن اسم المدينة «جراتس» Graz يعود إلى أنها كانت موقعًا لقلعة رومانية في بدايات القرون الوسطى. وبعدها تم بناء قلعة صغيرة بواسطة السلوفينيين التي أصبحت بعد فترة حصنًا منيعًا. في اللغة السلوفينية، معنى كلمة «جراديتش» هو «القلعة الصغيرة». أما الاسم الألماني للمدينة؛ «جراتس»، فقد استخدم للمرة الأولى في العام 1128. وكانت المدينة مركزًا تجاريًا مهماً في ذلك الوقت. وبعد مرور نحو قرن آخر على ذلك التاريخ، أي في أواخر القرن الثالث عشر وتحديدا مع العام 1281، في عهد رودلف الأول، حظيت المدينة بالعديد من الامتيازات التي انعكست على مظهرها ووضعها السياسي والاجتماعي.

          وكما أغلب مدن أوربا كان لهتلر تأثيره على المدينة مثل كل المدن التي تتحدث بالألمانية، فقد حظي أدولف هتلر بترحيب ساخن وعاصف عندما زار المدينة في العام 1938، العام الذي انضمت فيه النمسا إلى ألمانيا النازية، وتم ضمها للرايخ. وقد انقلب عليها لاحقًا، وطارد كل اليهود الذين كانوا يعيشون فيها، ما أدى إلى طرد العديد من الأدمغة العبقرية التي كانت تسهم في المنجز العلمي والفني والثقافي في جراتس.

          ففي مقابلة مع مدير متحف جراتس العلمي أكد لي مدير المتحف د.فرانتز ستانجل ما يلي: «قبل هتلر وحتى العام 1938، كانت جامعة جراتس تحصل على جائزة نوبل في العلوم كل عامين، وبعد هتلر أصبحنا نحصل على نوبل كل 30 عاما». هذه الملاحظة المهمة تكشف كيف أن الدكتاتورية والعنصرية لا يمكن أن تحقق أي نهضة، بل على العكس، فهي لا تستطيع سوى أن تقتل أي نهضة، وفي القلب منها النهضة العلمية والبحثية، وصولا للنهضة الثقافية.

          في مقابلة أخرى مع الدكتور ماركوس ياروشكا Markus Jaroschka محرر مجلة Lichtungen الأدبية في جراتس، يقول: «إن ترهيب هتلر ومطاردته لليهود في النمسا بعد العام 1938 أديا إلى هجرة الكثير من الأدمغة من النمسا، وهو ما أثر سلبا في المنجز الثقافي والعلمي للنمسا بشكل عام ولجراتس بشكل خاص».

          مع ذلك فلا يبدو أن المدينة قد تورطت كثيرا في الحروب، خصوصا في القرن الماضي فترة الحرب العالمية، وهو ما تشهد عليه الكثير من عمارتها القديمة الباقية حتى اليوم. ففي خلال الجولات التي قمت بها في أرجاء المدينة كانت العمارات الجميلة والمباني القديمة والأبراج التاريخية كلها تشير إلى روح من الاستقرار، والهدوء. فهذه المدينة في الحقيقة تمنح من يمر بها إحساسا مدهشا بأنها مدينة للسلام، مدينة من تلك المدن التي يمر عليها التاريخ فتقابله بابتسامة، تخفي بها عمق ما يمور بها من خبرات، ولعلها بذلك استطاعت أن تنهي كل ما تعرضت له من مظاهر النزاعات والحروب، دون أن تبقى لذلك آثار مأساوية.

          فالعديد من المصادر التاريخية يشير في الوقت نفسه إلى أن جراتس، مثل العديد من مدن النمسا، تعرضت لهجمات من قبل العديد من البلدان المجاورة لها ولكن معظمها انتهى بالفشل، ومن بين من قاموا بمهاجمة المدينة المجريون في العام 1481، كذلك العثمانيون الذين حاولوا احتلال المدينة وهاجموها في عامي 1529 و1532، كما احتل جيش نابليون بونابرت جراتس في العام 1797وتمت مقاومته، لكن في العام 1809 اضطرت المدينة لأن تقاوم هجومًا فرنسيًا آخر.

تل القلعة الصغيرة

          حين صعدتُ إلى التل الذي يقع في أعلاه برج الساعة الشهير في جراتس، والمعروف باسم «القلعة الصغيرة» أو Schlobberg تمكنت من مشاهدة المدينة تقريبا، وهي تبدو من هناك مثل غابة من المباني المنسجمة، التي لا يمزق تناسقها النشاز الذي تتسبب فيه الأبراج الحداثية الشاهقة. كأنها تجمع هائل لمجموعة من السيدات الأرستقراطيات اللائي يعتمرن جميعا قبعات بلون طوبي فاتح. فكل بنايات جراتس تقريبا يعلوها القرميد المبني بشكل مخروطي تجنبا لتكدس مياه المطر والثلوج، ما يمنح المدينة مشهدا جماليا أنيقا وفريدا.

          إنه نوع من الجمال يعبر عنه الأديب فرانز نابل، قائلا: «لا يصرخ هذا النوع من الجمال عاليا ليلفت إليه الانتباه وينال الإعجاب، فهو مستكف بنفسه مثل النساء الأرستقراطيات الجذابات».

          بمعنى آخر، وكما لفني الشعور وأنا جالس في عربة «التلفريك القطار» التي تهبط على قضبان حديدية مسافة الأربعمائة متر التي تجسد علو هذا التل، ناظرا عبر النافذة الزجاجية الأمامية إلى المدينة، أحسست كيف أن هذه المدينة قد لا تبدو مدينة من تلك المدن التي تُذكّرك، حين تراها للمرة الأولى، بمارلين مونرو مثلًا، أو بالجمال المثير الصاخب بشكل عام، بل هي مدينة تستدعي ملامح امرأة جميلة هادئة الجمال، لكن جمالها الداخلي لا يظهر إلا بعد أكثر من نظرة، وحينها يبدو كيف أن التعلق بجمال كهذا قد يستمر للأبد، بالتالي فهو ليس ذلك النوع من الجمال الصارخ الفاتن الذي يلتهب به المرء وسرعان ما يتمنى أن يمتلك القدرة على نسيانه!

عاصمة الثقافة الأوربية

          حين تتأمل المدينة من أعلى تل «القلعة الصغيرة»، ويعانق عينيك الجمال المتجانس للمدينة سرعان ما يمكنك أن تتبين نتوءات قليلة في المشهد تمثلها أبراج الكنائس والكاتدرائيات التي تمتلئ بها المدينة، وتجسد كل منها ألوانًا من العمارة الأوربية التقليدية الجميلة، التي تعود في معظمها لعمارة عصر الباروك، ثم تلتمع في المشهد بضع ماسات، سرعان ما تتجلى كنماذج معمارية ذات طابع شديد الحداثة، وعندما تسأل عن أي منها تأتيك الإجابات بعبارات تحمل دوما تاريخا محددا هو العام 2003، وكلمة العاصمة الثقافية.

          فقد اختيرت جراتس في العام 2003 عاصمة للثقافة في أوربا، ولأجل هذا الحدث المهم حشدت المدينة جهودها لتأسيس عدد من الأبنية الجديدة، والتصاميم المعمارية، لعل أبرزها مبنى «متحف الفن الحديث» Kunsthaus، الذي صممه المعماري الإنجليزي بيتر كوك بالتعاون مع كولين فورنيير، المصمم النمساوي من جراتس، واستلهما فيه أفكار ما بعد الحداثة في المدارس المعمارية العصرية، على اعتبار أن المتحف قد تم تصميمه من أجل عرض جميع الأعمال المعاصرة من الفنون النمساوية الحديثة في الفن التشكيلي خلال الأربعة عقود بين تاريخ تشييده وابتداء من العام 1960، وبينها الأعمال الحداثية الخاصة بفن الفيديو، والإنترنت، والأعمال المركبة وسواها. وكانت الفكرة أيضا في تعانق هذا البناء شديد الحداثة مع المبنى المتاخم له الذي يعود إلى عصر الباروك.

حب الاختلاف

          كان من اللافت حقا أنني في اليوم الذي شهدت فيه هذا المبنى ليلا لأول مرة كانت هناك لافتة ضوئية مضاءة باللون الأحمر تحمل كلمتين باللغة العربية هما «حب الاختلاف» في تأكيد لجوهر مدينة ثقافة وعلوم مثل جراتس تحتفي بالاختلاف وترى فيه منبع خصوبة البشرية وتعايشها.

          أما التصميم الثاني فيقع على بعد أمتار عدة من مبنى متحف الفنون الحديث وهو جسر حداثي التصميم يعرف باسم Mur Island، أو جزيرة نهر مور، وهو جسر مواز للجسر التقليدي القديم الذي يفصل بين قسمي جراتس المفصولين بالنهر، لكن هذا الجسر الحديث اتخذ شكل جزيرة تبدو كفقاعة زجاجية حديثة، أو بالأحرى قبة زجاجية تطفو على النهر، تقع في وسط النهر مباشرة، وأقيم بها مقهى محاط بمساحة مفتوحة، ثم يمتد من طرفيها ممر لولبي تغطى أجزاء منه بالزجاج، ويمثل بقية جسد الجسر. وقام بتصميم هذا الجسر المصمم الأمريكي فيتو أكونشي Vito Acconci.

          وفي مثل هذه النماذج الحديثة للعمارة يتجلى إحساس القائمين على هذا المشروع ومدى خصوصية ما تتمتع به جراتس من نماذج معمارية عريقة، وخصوصا أن مدرسة عريقة للتصميم الهندسي عرفت باسم «مدرسة جراتس» نشأت في العام 1970، وأصبح أكثر عناصرها اليوم أساتذة كبارا تخرجت على أيديهم دفعات متعاقبة من المصممين والمعماريين المميزين، وكان عليهم أن يمنحوا الأجيال اللاحقة امتدادا لهذا التراث يتمثل في صيغ معمارية شديدة الحداثة ومبتكرة التصميم بشكل لافت، عن وعي كامل، في أول الأمر وآخره، أن مدينتهم مدينة للثقافة والفنون بشكل عام ينبغي أن تعبر عمارتها عن هذه الخصوصية بشكل أو بآخر، وعبر الدمج المتناغم للعمارة التقليدية العريقة مع نظيرتها الحداثية العصرية بل وما بعد الحداثية التي تستلهم التقنيات الحديثة.

          كما أن مدينة تمتلك قائمة طويلة من أبرز الأسماء في حقول العلوم المختلفة والفنون والموسيقى والأدب، كان لا بد لأجيالها الجديدة أن تراعي ذلك عند تصميمها للمباني الأربعة عشر للجامعات الجديدة التي أنشئت بها خلال السنوات الخمس عشرة الماضية.

          من اللافت في هذه المدينة أنك يمكن أن تلتقي في اليوم الواحد أكثر من مصري في مدينة جراتس، وفي الندوات الأدبية التي يشارك فيها أي أديب عربي سوف تجد بين الحضور عددا كبيرا من المصريين والعرب المقيمين في جراتس. فهناك جالية كبيرة من المصريين في النمسا بشكل عام. بالإضافة إلى الطلبة الذين يدرسون هنا إما في الجامعات المختلفة وإما من يحصلون على منح دراسية في المعاهد المختلفة وبينها المعهد العالي للترجمة، إضافة للأنشطة المختلفة التي تقوم بها منظمات دولية مثل المعهد الأفروآسيوي، وكذلك المهرجانات الأدبية التي تقوم بها هيئات ثقافية مختلفة في جراتس، وبينها مثلا مهرجان المركز الثقافي المعروف باسم Kulturzentrum bei den Minoriten والذي تديره إحدى المثقفات الناشطات في جراتس وهي الدكتورة بيرجيت بولزل Dr. Birgit Polzl ويقدم سنويا أنشطة أدبية بارزة.

كولاريتش وهاندكه

          عند زيارتي للمركز الثقافي أو ما يطلق عليه Litraturhause في جراتس تعرفت على عدد كبير من أسماء الكتاب والأدباء النمساويين، وبينهم الأب الروحي للثقافة المعاصرة في جراتس وفي النمسا ألفريد كولاريتش Alfred Kolleritsch الذي أسس ما يعرف باسم «منتدى حديقة المدينة» Forum Stadtpark، وهو منتدى أدبي كان له دور كبير في الستينيات في إطلاق حركة أدبية مهمة من النمسا، كما أسس مجلة Manuscript، أو «مخطوط»، التي تعد أول مجلة طليعية في النمسا، وكانت نواة لتشكيل جماعة أدبية طليعية عرفت باسم «جماعة جراتس» تكونت من كولاريتش وبيتر هاندكه، الشاعر والكاتب المرموق، والفريده يلنيك وبارباره فريشموت، وغيرهم. وأسهمت المجلة في إطلاق والتعريف بعدد كبير من الأدباء النمساويين، من بينهم إرنست جاندل Ernst Jandl، وأوزوالد فينر Oswald Wiener، كما أن المجلة نفسها نشرت لـ بيتر هاندكه Peter Handke الذي جاء لدراسة القانون في جراتس العام 1961، وفي 1963 بدأ نشاطه الأدبي يأخذ شكلا أوضح، فتعرف إلى ألفريد هولتسنجر الذي كان يرأس قسم الأدب والتمثيليات الإذاعية في راديو جراتس. وتعرف أيضا إلى ألفريد كولاريتش في العام نفسه، ونشر له كولاريتش في «مخطوط» لأول مرة في العام 1964. وبعد عام واحد نشرت إحدى أهم دور النشر في ألمانيا «زوركامب» روايته الأولى وبعدها تفرغ للكتابة. وقد لعبت هذه المجلة دورا كبيرا في التعريف بعدد كبير من أهم الكتاب النمساويين الذين حققوا الشهرة لاحقا.

«مانوسكريبت» وما بعدها!

          في مكتبة المركز الثقافي Literaturehause اطلعت على الأعداد الأولى من مجلة «مخطوط» Manuscript وعلى العديد من الدوريات الثقافية الأخرى الأخرى، وأعمال أهم كتاب النمسا، وبينهم، مثلا، بالإضافة لمن سبق ذكرهم، أعمال ألفريده يلنك، الحائزة على «نوبل» في الآداب في 2004، في العديد من الترجمات لغير الألمانية، وأعمال لكتاب وكاتبات، مثل بارباره فريشموت Barbara-Frischmuth، التي تناولت الثقافة التركية والعربية كثيرا في كتاباتها، وإلياس كانيتي Elias Canetti الحائز على «نوبل» في الآداب أيضا في 1981، وريلكه Rainer Maria Rilke، وهيرتا موللر (جائزة نوبل) وغيرهم.

          أما الكاتب النمساوي المصري الأصل طارق الطيب فأوضح لي تفاصيل ما عرف باسم جماعة أدباء جراتس (GAV) التي تم تأسيسها في العام 1973 كواجهة مختلفة لـ (P.E.N.-Club)، العديد من الكاتبات والكتاب والفنانين والفنانات أعضاء وعضوات في هذه الجماعة، التي تقدم العديد من القراءات بمقابل، وتنظيم اللقاءات الأدبية، ومساعدة الكتاب على ترويج أعمالهم بشكل لائق. كنت أتمنى أن ألتقي الكاتب الرائد كولاريتش، لكن الظروف لم تسمح بذلك مع الأسف، لكنني، حظيت بفرصة اللقاء مع شخص آخر مرموق في الوسط الثقافي النمساوي وفي جراتس على نحو خاص، وهو الدكتور ماركوس ياروشكا Markus Jaroschka، رئيس تحرير دورية ثقافية أخرى مهمة في جراتس وهي Lichtungen، الذي أوضح لي الدور المهم الذي لعبته دورية «مانوسكريبت» على يد كولاريتش وجماعة جراتس، وأوضح أنها كانت تتقاسم الأهمية مع مجلة أخرى كانت تصدر في ألمانيا آنذاك باسم Aczent وتعني بالألمانية معنيين هما «اللكنة» أو «التجديد»، كما أخبرني أن جراتس قد حظيت بشهرة ثقافية كبيرة في الستينيات والسبعينيات في المناطق الناطقة بالألمانية بسبب النجاح والشهرة التي حققتها مجلة «مانوسكريبت».

مجلة «ليتشجِن»

          بالنسبة لمجلة «ليتشجِن» Lichtungen، وهي كلمة لا مقابل لها في العربية (تعني الأماكن الفسيحة أو الخالية من الأشجار في الغابة) فقد صدرت لأول مرة في العام 1981 على يد مؤسسيها أوتو إيجن رايتش وهورست جيورج هابرل، والأخير كان ناشطا ثقافيا مهما وأحد مؤسسي مهرجان الخريف الستيري (النمساوي) أو خريف شتايرمارك: وهو مهرجان عالمي للفن المعاصر (أدب ومسرح وفنون تشكيلية وأفلام ورقص وموسيقى وعمارة وغيرها)، يقام سنويا خلال شهري سبتمبر وأكتوبر في مقاطعة شتايرمارك، تم تأسيسه في العام 1968 وهو أقدم المهرجانات التقليدية الفنية في أوربا كافة.

          وقد تولى د.ياروشكا رئاسة تحرير المجلة في العام 1990، ويعمل مع طاقم مكون من خمسة أفراد، ويقول: حين بدأت العمل أردت أن أحقق لونا من الخصوصية للمجلة، وبشكل لا يبدو فيه أي تنافس مع المجلات الأخرى وبينها «مانوسكريبت»، لأن كولاريتش صديق حميم، ولم أكن أبتغي التنافس إطلاقا.

          لهذا فكرنا في ثلاثة أمور نحقق بها خصوصية المجلة، أولها النشر للأسماء الشابة وصغار السن من الكتاب في جراتس وفي أرجاء النمسا وألمانيا، أما الأمر الثاني فكان عن طريق عمل ملفات عن آداب العالم المختلفة خارج أوربا، وأنجزنا عددا كبيرا من الملفات عن الثقافة والأدب في تركيا وتشيلي وكوبا والكونغو، وأخيرا عن سيبيريا وروسيا وأرمينيا، لأنها كانت عاصمة الثقافة الأوربية للعام 2012، وفي الأعداد المقبلة سنخصص ملفا عن الشعر في البرتغال، وعدد آخر عن أدب البرازيل، لأنها سوف تكون ضيفة معرض فرانكفورت للكتاب في دورته المقبلة.

          ونفكر في ملف عن الأدب العربي مستقبلا أيضا.

          أما العنصر الثالث الذي حاولت به المجلة أن تحافظ على خصوصيتها، فكان تخصيص نحو ثلث المجلة لجزء خاص بالفن التشكيلي المعاصر في النمسا والثقافة الألمانية.

          ويوضح د.ماركوس ياروشكا أنه يسعد بالفخر وبالسعادة الكبيرة حين يحصل أي من الكتاب الشباب الذين نشر لهم في المجلة على جوائز أدبية مرموقة، وهناك عدد لا بأس به من الشباب الذين حصلوا بالفعل على جوائز، وآخرهم على سبيل المثال الكاتب كليمنس سيت الذي حصل على جائزة لايبتزج للكتاب.

          ويعرب ياروشكا عن سعادته بما أنجزته المجلة من ملفات أدبية من ثقافات العالم خلال السنوات الست الأخيرة، بالإضافة إلى أن المجلة نشرت مقالات للعديد من الكتاب الذين حصلوا لاحقا على جائزة نوبل، ومنهم أورهان باموق من تركيا وألفريده يلنك وهيرتا موللر، أكثر من مرة، وتوماس ترانسترومر الشاعر السويدي، الذي نشرت قصائده في المجلة مطلع التسعينيات، ولو كليزيو من فرنسا. ويقول إن المجلة منتشرة بشكل كبير في شرق أوربا وفي منطقة البلقان، وخصوصا أنها تنشر عادة باللغتين الألمانية واللغة التي يحتفى بثقافتها.

طارق الطيب

          في محاولة لاستجلاء الطابع الثقافي العام للنمسا بشكل عام، سألت الكاتب النمساوي المصري الأصل طارق الطيب، وخصوصا أنه يقوم بالتدريس في جامعة جراتس، بالإضافة لكونه كاتبا معروفا في النمسا عن وضعه هنا ككاتب من أصل عربي أصبح جزءا من الثقافة النمساوية وكيف يرى الاختلاف في النظر للثقافة بين الثقافتين العربية والنمساوية فقال: «الاختلاف يأتي عادة من النظرة الخارجية، بمعنى: كيف ينظر النمساوي للأدب العربي وكيف ينظر العرب للأدب النمساوي. الأفق هنا أوسع في ما يتعلق بالنظر للأدب بشكل عام؛ فلو ذكرنا مثلا أمام القراء العرب كلمة «جائزة نوبل في الأدب» نجدهم يتذكرون نجيب محفوظ ولا يعرفون شيئا عن الآخرين مثلا، ولو ذكرت هذا للقراء في النمسا، رغم حصول «ألفريده يلينيك» على الجائزة بعد محفوظ بسنوات فلن تجد هذا التركيز عليها.

          كما أن الثقافة أيضا لها منابع أوسع هنا عن طريق الترجمات المتوافرة للكتاب العرب في اللغة الألمانية، والتي تتفوق بمراحل على الترجمات القليلة جدا للكتاب النمساويين مثلا، رغم ثراء الأدب النمساوي. الراديو والتلفزيون يخصصان برامج مطولة للحديث عن كاتب عربي أو فنان عربي، وتتم دعوة الكثيرين سنويا، سواء من المؤسسات الأدبية أو من الجامعات أو غيرها. وهناك بالطبع النظرة العامة المؤثرة في الميديا عموما عن العرب وعن المسلمين والصور السيئة المنقولة يوميا والتي تحتاج إلى سنوات طويلة لمحو كآبتها.

          من ناحية أخرى وبشكل خاص، استوعبتني النمسا ككاتب نمساوي من أصل عربي لأكتب وأحصل على جوائز ومنح أدبية قيِّمة وسفر لتمثيل النمسا في الخارج دون أسس شيفونية وطنية ولا أعلام! الثقافة هنا أيضا جزء لا يتجزأ من حياة النمساوي، بدءا من الحضانة حتى ما بعد المعاش. هناك برامج وفيرة ومناسبة لكل الأعمار ولكل الفئات، وكما ذكرت هي جزء متصل بالحياة يدخل فيها ويخرج منها بانسجام كبير!

          سألته عن الكتاب النمساويين الذين يحب أن يقرأ لهم فقال: أحب الكثير من الكتاب النمساويين: فمن الراحلين مثلا تستهويني القراءة لكل من: توماس بيرنهارد، شتيفان تسفايج، روبرت موزيل، إلياس كانيتّي، أنجبورج باخمان (هناك جائزة سنوية شهيرة في النمسا باسمها، ماتت مبكرا!)

          أما من الأحياء فأحب أعمال باربارا فريشموت، بيتر توريني، بيتر هاندكه، ألفريده يلينيك، راديك كناب.

اللغة العربية من اللغات المهمة
في معهد لغات جامعة جراتس

          في لقاء مع فلوريكا جريسنر مسئولة الشئون الطلابية والتبادل الثقافي ونيابة عن هانا ريسكو مديرة المعهد العالي للترجمة أوضحت أن المعهد مكون من 12 قسما مختلفا يبلغ عدد الدارسين في أقسامه جميعا بين 1300 و1400 دارس ودارسة، وهذه الأقسام هي لغة منطقة البلقان، وهو قسم مهم لأنه يضم اللغات الصربية والبوسنية وهي لها أهمية كبيرة في النمسا لأنها تقع بجوارها، ثم الإنجليزية، والفرنسية والإيطالية والإسبانية والروسية واللغة العربية والتركية والمجرية والسلوفينية، إضافة إلى قسم خاص بالترجمة للصم والبكم، وهو قسم يحظى بإقبال شديد، لأن حكومة النمسا تلزم جميع المؤسسات الحكومية والبرلمان على نحو خاص بتوفير مترجم في حال وجود ولو فرد واحد من الصم أو البكم في أي مؤسسة. ويقوم بالتدريس في المعهد عدد من الخبراء في مجال الترجمة من أساتذة الترجمة الذين يشترط إجادتهم للخبرة العملية في الترجمة الفورية جميعا في اللغة التي يقومون بتعليمها.

          بالنسبة للغة العربية وكما تقول رئيسة القسم كريستين شلاجر يتراوح عدد الدارسين في القسم سنويا بين 35 و40 دارسا، حيث تقول كريستين شلاغير مسؤولة القسم إن الاهتمام باللغة العربية زاد كثيرا عقب أحداث 11 سبتمبر، بسبب زيادة اهتمام الغرب بفهم الثقافة العربية، وعادة ما يقوم بالتدريس في قسم اللغة العربية جنبا إلى جنب مع الأساتذة النمساويين، عدد من الأساتذة العرب ومن مصر بشكل خاص، بسبب العدد الكبير للجالية المصرية في النمسا، وأيضا من السودان والعراق.

          ويركز المعهد على تخريج دفعات من الأشخاص المؤهلين للعمل في مجال الترجمة الفورية، ولذلك لم يهتم بعلوم نظرية الترجمة إلا قبل 15 عاما فقط، واليوم غالبا ما يحصل الخريجون على الدراسات العليا قبل أن يبدأوا في العمل بشهاداتهم العلمية.

          لذلك لا تبدو ترجمة الأدب هدفا من أهداف هذا المعهد، ولكن الدارسين الذين يرغبون في العمل في مجال الترجمة الأدبية عادة ما يجب أن تتوافر لديهم هذه الرغبة في حب الأدب وترجمته.

          ويحظى هذا المعهد بأهمية كبيرة في النمسا، لأنه واحد من ثلاثة معاهد فقط موجودة في النمسا، حيث يوجد المعهدان الآخران في فيينا وفي تيرول.
----------------------------------------
* بعض الصور المتضمنة في الموضوع حصلنا عليها من مؤسسة Graz Tourismus في جراتس.
صورة طارق الطيب من تصوير هانس لابلر.

 

 

إبراهيم فرغلي  
  




صورة الغلاف





 





أسقف البنايات القرميدية وزخارف عصر الباروك تعانق سقف متحف الفن الحديث بنتوءاته الحداثية في تناغم فريد





خصوصية عمارة جراتس دفعت «اليونسكو» لاعتبارها واحدة من أبرز معارض العمارة الخاصة بالعصور الوسطى





جراتس.. مدينة تتعانق فيها العمارة بالغابات





مقهى حديقة المدينة حظي باستماتة المثقفين في جراتس للدفاع عنه وعدم هدمه في الستينيات، وأصبح مركزًا انطلقت منه مجلة مانوسكريبت وجماعة جراتس وكان مقرًا لاجتماعات أبرز رموز الثقافة الطليعية في جراتس مثل كولاريتش وهاندكه وفويتش





فلوريكا جريسنر





هانا ريسكو





جامعة جراتس احتفلت أخيراً بمرور 425 عامًا على إنشائها وهي ثاني أقدم جامعة في النمسا وتعرف باسم جامعة كارل فرانزن





في محاضرة بقسم اللغة العربية بمعهد اللغات بجراتس إلى أقصى اليمين المحاضرة ألكسندرا مارتش وإلى يمينها مجموعة من طالباتها العربيات والنمساويات





آثار أعلى تل القلعة من الحقبة التي حاول فيها العثمانيون السيطرة على النمسا





مدينة جراتس كما تبدو من «التلفريك» أو القطار الذي يصعد إلى أعلى تل «القلعة الصغيرة»





تمثال الفارس المجهول أعلى تل القلعة





في اليوم الذي وصلت فيه إلى جراتس تمت إضاءة هذه الجملة العربية «حب الاختلافات» أعلى متحف الفن الحديث. وهي لفتة تكشف أن المجتمعات المولعة بالثقافة وبالمعرفة مشغولة بالتسامح ومعرفة الآخر





مدينة تتعانق فيها التلال والغابات بالعمارة





هذا المبنى المعروف باسم Land haus بني في العام 1557م على يد المصمم البريطاني دومنيكو ديلايلو كجزء من مبنى حكومة ستريا





هذا النفق يقع أسفل تل القلعة وهو ممر كان يستخدم كنفق وملجأ أثناء الحروب





 





برج الساعة الشهير أعلى تل القلعة





جدارية تذكارية في حديقة المركز الثقافي افتتحت في العام 2003م





بعض المباني القديمة لاتزال مكسوة بالخشب تأكيدًا على طابع العمارة العتيق في جراتس





تنتشر في جراتس العديد من مكتبات الكتب القديمة





في جراتس وبسبب العدد الكبير من الدارسين والطلبة تنتشر الدراجات كوسيلة مواصلات مفضلة لدى الشباب





متحف الفن الحديث أحد أبرز التصميمات الحديثة في جراتس الذي أنشئ في مناسبة جراتس عاصمة أوربا الثقافية العام 2003م ويعرف باسم الكابتن الفضائي الأليف وصممه بيتركول فركولين فورنيير





هذه الجزيرة الحديثة على نهر مور صممت تأكيدًا على التاريخ العريق للعمارة في جراتس وافتتحت العام 2003م وتعرف باسم «جزيرة مور»





هذه الأقفال أغلق كلا منها عشيقان تمنيا أن يستمر عشقهما للأبد وهي سمة لافتة في جراتس مدينة الحب والشباب





الجرافيتي واحد من سمات جراتس حيث الفنون الجدارية الشعبية على النهر وأسفل الجسور





بادبرة فريشمونت





بيتر هاندكه





طارق الطيب





في أقصى اليسار د. برجيت بولزل تفتتح ندوة في مهرجان أدبي وعلى المنصة عدد من الكتاب من خارج النمسا وفي أقصى اليمين هارتموت فندريش المستعرب الألماني والمترجم





كولاريتش





غلاف من أغلفة «مانوسكريبت»





غلاف عدد من مجلة «ليتشجن»





محرر «العربي» إبراهيم فرغلي مع الناقد الدكتور ماركوس يوشكا رئيس تحرير مجلة «ليتشجن»