سامي عبدالحميد وماجد السامرائي

 سامي عبدالحميد وماجد السامرائي
        

رحلة مرتجلة في ذاكرة المسرح

  • وجدت نفسي في دور شخصيتي المتنبي والملك لير
  • أتمنى تمثيل شخصية الرجل في مسرحية الجوع والعطش
  • من لا يقبل النقد متحجر الذهن، بعيد عن الابتكار، لا ينشد التجديد

          لو عمدنا إلى رسم «بورتريه» للفنان المسرحي سامي عبدالحميد لوجدنا أن ما يجمع تفاصيله يتحدد، أكثر ما يتحدد، بـ«مفردات المسرح» التي عاشها حياة، ومارسها أدوارًا، واضطلع بها مهمات:
وهو، ممثلًا، اعتلى خشبة المسرح بطموح من يعمل على أن يجعل من المسرح رسالة تنوير وتثقيف وإمتاع يحملها الفنان المسرحي إلى الآخرين. وهو، مخرجًا، كان أن تصدى لأعمال مسرحية، كان معظمها مما يُعدّ كبيرًا، فأودع فيها أُسلوبه في الإخراج المسرحي، والمتضمن خلاصة رؤيته الفنية ومحصلة تجربته، دراسة وتدريسًا وممارسة، في المسرح.. فالمخرج، بحسب ما يرى، هو قارئ جديد لنص المؤلف.. يفسره بحسب رؤيته الإخراجية، ولذلك فهو، كما يقول، قد يرجح رؤيته على رؤية المؤلف..
وهو، أستاذًا للمسرح، بين معهد الفنون الجميلة، حيث بدأ، وأكاديمية الفنون الجميلة، سعى لأن ينقل إلى طلابه أن المسرح فن، مهمة الفنان فيه أن يرتقي بذائقة جمهوره.
واليوم، وقد تجاوز الثمانين من سنوات العمر، لا يزال مؤمنًا بتلك الأفكار، وملتزمًا بتلك الرؤى التي بدأ منها، مع تطوير أدائه فيها.. متواصلًا مع أعمال جديدة كان آخر ما قدم منها «أيام الجنون والعسل».. ويواصل العمل مع عملين جديدين لتقديمهما خلال الموسم الحالي، وهما: «بستان البرتقال الأسود» المعدة عن «بستان الكرز» لتشيخوف.. ومسرحية للكاتب الأمريكي اللاتيني يرييل دورخمان بعنوان «أرامل». وإذا كان الحوار مع فنان بتجربته وحضوره الفني يمكن أن يكون دليلًا لقراءته، فنانًا وتجربة فنية، فإن هذا ما نحاوله هنا.

  • نصف قرن، أو أكثر، مع المسرح، وفي المسرح.. ما المشروع الذي كنت قد حملته إلى هذا الفن؟

          - كان مشروعي، في إطاره العام، قد بدأ مع دخولي معهد الفنون الجميلة العام 1950، إذ فهمت أن فن المسرح وسيلة للإمتاع والتنوير والتثوير، ما دعاني أن أستمر فيه، ومعه، إلى اليوم، رغم المصاعب التي واجهتني، كما واجهت زملائي، نتيجة عدم تبني هذا المشروع بجديّة كافية من قبل المؤسسة الرسمية، فضلًا عن التشويهات التي لحقت بهذا الفن المقدس من قبل البعض. أما مشروعي في إطاره الخاص، وقد تبلور في السنوات الأخيرة حين أعلنته من خلال الصحافة، فيتألف من شطرين: الأول، تقديم «ملحمة كلكامش» سنويًا، في موسم معيّن، وفي أحد الأماكن الأثرية، وبشكل استعراضي (Spetacle) ليكون من التقاليد الثقافية لبلدنا، قاصدًا تجسيد هذه الملحمة الخالدة في موطنها، بعد أن تنبّه بعض المسرحيين الغربيين، قبلنا، إلى قيمتها الملحمية، فابتكروا منها «أوبرا» و«باليه» و«مسرحية». والثاني، تقديم «حكايات ألف ليلة وليلة» ممسرحة على مدار السنة، وفي أماكن أثرية أخرى، جاعلًا من هذا تقليدًا ثقافيًا آخر تنفرد به بغداد على وجه أخص.. عاملًا في هذا العرض، أو مجموعة العروض، على أن أزيل الفكرة السائدة عند الغرب والغربيين بأن بلد ألف ليلة وليلة هو بلد الجواري والحسان، وعلي بابا والأربعين حرامي. فهذا العمل سيقدّم تصورًا مختلفًا، وهو: إن في تلك الحكايات الكثير من القيم العظيمة، والحكمة، والنبل.. عارضًا لها أبعادًا أخرى مختلفة عن تلك التي قدمها المسرحيون الغربيون من خلال اعتماد بعض «حكاياتها».

  • وبماذا كنت تحلم أول ما بدأت مسارك الفنيّ هذا؟

          - أول ما بدأت مسيرتي الفنية كنت أحلم بأن يصبح المسرح ضرورة حياتية في وطننا، كما هو الخبز.. ولا أزال أحلم بذلك، لأن هذا الحلم لم يصبح بعد حقيقة رغم مرور أكثر من قرن كامل على نشأة المسرح الحديث على أيدي الرواد (أمثال: مارون النقاش، وأبو خليل القباني، وجورج أبيض، وحقي الشبلي، وعلي بن عيّاد).

          كنت أحلم بأن يُرسّخ المسرح في الوطن العربي تقاليد خاصة به، كما البلدان المتقدمة مسرحيًا.. وأن تكون فيه مسرحيات دائمة العرض، لا مسرح مناسبات ومهرجانات، وألا تكون الفرق الوطنية، أو القومية، عاطلة عن العمل إلاّ في أيام وأسابيع أو أشهر معدودة.. وأن يعتز المسرحيون فيها بروادهم من الكتاب والمخرجين والممثلين كما يعتز الانجليز بشكسبير، وديفد غاريك، ولورنس أولفييه، والفرنسيون بموليير وسارة برنار ولوي بارو، والروس بتشيخوف وتولستوي وستانسلافسكي. وأتساءل: هل بادر أحد منا بإحياء مسرحيات شوقي، وعزيز أباظة، وتوفيق الحكيم، وخالد الشوّاف، وعلي أحمد باكثير، كما فعل أولئك مع بن جونسون، ويوربيديس، وفيكتور هوغو؟ وهل لدينا عروض مسرحية مستمرة لسنوات طويلة، كما هو الأمر مع مسرحية «الأميرة توراندوت» لكارلو غوتسي، التي أخرجها الروسي فاختانغوف بداية القرن الماضي؟ وهل استطاعت أية فرقة من فرق المسرح الوطني أن تقيم برنامج خزين مسرحي (ريبتوار)؟

          الصنف المسرحي الوحيد الذي أسس لنفسه تقاليد في بلادنا العربية هو ما نسميه بـ«المسرح التجاري»، حيث يقيم عروضه الطويلة الأمد، والمعتمدة على إبراز نجوم التلفزيون والسينما، والتي تلتقي جميعها عند قواسم مشتركة هي «النكتة» و«الرقصة» و«الأغنية» و«القفشة» و«الخلاعة»، مع الأسف.

  • على صعيد شخصي، أين وجدت حلمك هذا متحققًا في ما قدمت من أعمال: هل في عمل المخرج، أم في أداء الممثل، أم في أجيال الممثلين الذين تخرجواعلى يديك مدرسًا لفن المسرح؟

          - ما حققته لم يكن حلمًا وإنما كان واقعًا وتطبيقًا لمعتقدي بأن للمسرح رسالة ينبغي إيصالها إلى المتلقي.. وقد تم ذلك التطبيق، على ما أحسب، في عملي الإخراجي، حيث حققت نجاحات مشهودة في هذا المجال، مع بعض الإخفاقات أحيانًا. وأذكر من أعمالي التي أعتز بها مسرحية «المفتاح» ليوسف العاني، و«تموز يقرع الناقوس» لعادل كاظم، و«هاملت عربيًا» المعدة عن شكسبير، و«بيت برناردا ألبا» للوركا، و«ملحمة كلكامش» لمترجمها طه باقر، و«ثورة الزنج» لمعين بسيسو، و«مهاجر بريسبان» لجورج شحادة، و«الزنوج» لجان جينيه، و«في انتظار غودو» لصاموئيل بيكت، و«عطيل في المطبخ»، و«طقوس النوم والدم» المعدتين عن شكسبير. وفي مجال التمثيل أعتز بتمثيلي دور الشاعر المتنبي، ودور الملك لير، ودور الطبيب في مسرحية «رحلة في الصحون الطائرة» لمخرجها إبراهيم جلال، ودور الملك في مسرحية فلاح شاكر «تفاحة القلب» لمخرجها رياض شهيد.

          وأما في مجال التعليم، فإني أفخر بتعليمي مئات، إن لم أقل آلاف الطلبة في معهد الفنون وكلية الفنون، وقد أصبح الكثيرون منهم نجومًا في المسرح، والسينما، والتلفزيون.. يكفي أن أذكر منهم: طعمة التميمي، وصادق علي شاهين، ومحمود أبو العباس، وفوزية الشندي، وفوزية عارف، وشذى سالم، وإقبال نعيم، وفيصل جواد، وعزيز خيون.

  • هل تعدّ نفسك مدرسة في المسرح العراقي؟

          - لا أستطيع القول إنني أسست مدرسة في مسرحنا، ولكني، مع زملاء لي وأساتذة سبقوني، أسسنا هذه المدرسة.

  • ومنهم، على سبيل المثال لا الحصر؟

          - أذكر منهم حقي الشبلي، وإبراهيم جلال، وجاسم العبودي، وجعفر السعدي. كما أننا في «فرقة المسرح الفني الحديث» أسسنا مدرسة منذ العام 1965 وحتى العام 2003.. تخرج فيها عدد كبير من فناني المسرح المعروفين، وقد درّس فيها عن طريق التطبيق رواد المسرح، أمثال يوسف العاني، وخليل شوقي، وإبراهيم جلال. وهل يمكن ألا نذكر ممثلتين هما زينب، وناهدة الرماح.

  • نعود إليك ممثلًا، مع أية شخصية من الشخصيات التي أديت أدوارها وجدت نفسك أكثر حضورًا؟

          - وجدت نفسي في المتنبي، حيث كنت أشعر أحيانًا، وأنا على خشبة المسرح، أنني هو ذلك الشاعر العظيم بكبريائه، وبحسه القوي، وتعبيره البليغ. كنت أُلقي أبيات شعره المثير وكأنها من بنات فكري وقلبي. فلقد درست شخصيته بعمق، وتقمصتها بدقة، على ما أذكر. شعرت بأنني إنسان كوفيّ، أو من أبناء مدينة السماوة (وللمصادفة، فإنني ولدت فيها!).

          كما وجدت نفسي في «الملك لير» يوم مثّلت دوره العام 1985، عندما شعرت فجأة، وأنا على خشبة المسرح، بأنني قد تحولت إلى ملك عجوز مهدّم، تنكرت له بنتاه اللتان منحهما سلطة بلاده كلها!

  • وهل أدركت العامل الذي ولّد مثل هذا الشعور عندك؟

          - لقد تأثرت بـ«الثيمة» التقليدية للمسرحية، وهي «عقوق الأبناء».. وهنا أقصد عقوق بعض الذين درّستهم. لم يتنكروا لي، ولكنهم ينكرون جميلي عليهم أحيانًا.

  • هل تستهويك شخصيات شكسبير.. فقد مثلت «الملك لير» وأخرجت «عطيل»، وكنت قريبًا من شخصيات أخرى له.

          - لقد مثّلت «الملك لير».. كما أخرجتُ «عطيل»، وتعمّقت في دراستها، وبخاصة بعد أن أصبحت مفردة من عيّنة أطروحتي لنيل الدكتوراه، وناقشت الاسم والقومية والدين، وعرفت أن الأصل هو إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، وهي «حكاية التفاحات الثلاث»، وقد استبدل شكسبير التفاحات بالمنديل. كما أني حوّلت «هاملت» إلى «أمير عربي» في المسرحية التي جعلت لها عنوانًا آخر جديدًا، هو «هاملت عربيًا»، وكان ذلك في أواسط سبعينيات القرن الماضي. وتصديت لشخصية «ماكبث» فجعلتها أمثولة لكل من ينشد الطموح غير المشروع.. وكان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. وغالبًا ما كنت أمثّل مقاطع من تلك الشخصية وأنا أدرّس الطلبة فن التمثيل، وخصوصًا المقطع الذي يقول فيه: «أهذا خنجر يلوح لي متجه المقبض نحو يدي؟».. متخيلًا الخنجر الذي كان يروم طعن «الملك دانكن» به، وهو يلاحقه قبل أن يُقدم على تنفيذ جريمته.

  • على أي نحو تتبادل الدور مع نفسك ممثلًا ومخرجًا؟ وكم من الممثل ينتقل إلى المخرج، وكم من المخرج يحكم الممثل؟

          - أقولها صراحة: إن للإلهام دورًا في تبني الدور الذي أمثله. فما إن أقرأ النص المسرحي وأتفحص الدور الذي سأمثله حتى يتمثل أمامي.. وسرعان ما أدخل فيه وألبس لبوسه. وهذا كله يحدث قبل أن أتلقى إرشادات المخرج... فما إن يأخذ المخرج دوره حتى أجد نفسي واقفًا عند مفترق الطريق: فإما أن أتفق معه في إرشاداته، وأتبع تفسيراته، وإما أن أقف ضدها.. وقد أستطيع إقناعه، وقد يستطيع إقناعي.. وإن كنت أظل أحمل معي قناعتي، وذلك لأنني أمارس المهمتين معًا: مهمة المخرج، ومهمة الممثل. وأصدقك القول بأنه لم يحصل يومًا خلاف شديد بين «الممثل» و«المخرج»، مع أنني عملت مع مخرج يفرض رأيه، ولا يقبل مني أي مقترح أو موقف. مثل هذا المخرج يختلف تمامًا عن موقفي مخرجًا مع الممثلين الذين يعملون معي، فأنا أمنحهم قسطًا من الحرية في التعبير عن أنفسهم، وأحاول حثّهم على الاقتراب من مقترحي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الاتجاه في مجال التمثيل في أيامنا هذه، وخصوصًا مع فرق المسرح التجريبي، يميل إلى إعطاء حرية أكبر للممثلين واللجوء إلى تمارين «الارتجال - الابتكار».

  • في سيرتك المسرحية تتحدث بمزيد الإعجاب عن إبراهيم جلال مخرجًا، فهل من تأثير مباشر له عليك في مجالي الإخراج والتمثيل؟

          - كان المخرج الراحل إبراهيم جلال يمتلك حسًا مسرحيًا عاليًا، ومعرفة بالدراما وتأثيراتها، بمعزل عن دراسته الفنية.. وقد تعرّفت إلى تلك الموهبة عند أول لقاء لي معه عندما أخرج مسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير، وكنت يومها لا أزال طالبًا في كلية الحقوق (العام 1948).. وقد أثبتها عندما مثّلتُ الدور الرئيسي في مسرحية تشيخوف «أُغنية التم» العام 1956، وقلت له: كيف لي أن أُمثّل دور عجوز وأنا ما زلت بعد شابًا قويّ الجسم، جهوري الصوت؟ فردّ عليَّ قائلًا: «أُحس أنك قادر على تمثيله، وأنك ستنجح أيما نجاح، وستُحب الدور وتتبناه بكل جوارحك». وهذا ما حدث فعلًا.. فلقد مثّلتُ الدور نفسه مرات عدّة، وفي أزمنة وأماكن مختلفة.. (مثلته مع المخرج الراحل قاسم محمد في بغداد العام 1973، ومثلته يوم قمت، أنا نفسي، بإخراج العمل العام 1982، ومثلته مرة أخرى مع قاسم محمد في الشارقة العام 1999).. وفي كل مرة كنت أتذكر أستاذي إبراهيم جلال، وأستعيد ملاحظاته.

  • بما أن المخرج هو مَن يختار لك الدور الذي تؤديه في العمل الذي يُخرج، فهل وجدت نفسك يومًا مكرهًا على أداء دور لم تكن راغبًا في تأديته؟

          - لا.. لا أعتقد أنني أُكرهتُ يومًا على تمثيل دور لم أكن راغبًا في تأديته. ولكن قد يحدث أحيانًا أن أُجامل هذا المخرج أو ذاك فأقبل دورًا وأمثله وأنا غير متحمس لتمثيله. ولكني، في مثل هذه الحال، كنت أُرجّح تصوري عن الدور على تصور المخرج وهذا ما حدث لي مرة مع المؤلف المسرحي المعروف عادل كاظم عندما أخرج، هو نفسه، مسرحيته «ليس إلاّ»، وكلفني بتمثيل دور البطولة فيها.. فكثيرًا ما كنا نختلف في أدائنا أثناء التمارين، وكثيرًا ما كنت أُرجح مقترحي.. ولكني كنت أُضطر لتنفيذ مقترحه.. وقد انعكس هذا الاضطرار على أدائي الدور في أثناء عرض المسرحية، حيث لم نوفق في إحداث التأثير المطلوب على المتلقي. وأقولها، كما هي عادتي على الدوام، إن المسرحية تنجح عندما يحبها الممثلون.

  • هل من شخصية لا تزال تتمنى أن تمثلها على خشبة المسرح؟

          - نعم... شخصية «الرجل» في مسرحية يوجين يونسكو «الجوع والعطش».

  • لماذا؟ ماذا وجدت في هذه الشخصية؟

          - هذه الشخصية تصوّر الإنسان في هذا العصر وهو تائه، ضائع، مشوش الفكر، يعيش ضغوط الحياة في مجتمع التكنولوجيا الجديدة، وقد أصبح أشبه بالآلة، وفقد الروح والتلقائية.

  • وماذا كنت ستقول لجمهورك من خلالها؟

          - أقول للإنسان: أرجوك احتفظ بإنسانيتك وحافظ عليها لأنك إن فقدتها ستتحول إلى «بهيمة».

  • من هو الممثل الناجح بحسب رؤيتك هذه؟

          - هو ذلك الممثل مرهف الحس، مرن الجسد والصوت، المستجيب لجميع المتغيرات التي يتطلبها الدور... هو الممثل ذو الخبرة العريضة.. الممثل الذي يعيش الدور ولا يمثله.

  • مما يوثَر عنك قولك إن «لا ثوابت في الفن المسرحي»، و«إن الابتكار والارتجال عامل أساس من عوامل الإبداع، وطريق صحيح لإيجاد البدائل الأفضل». وهنا أود أن أسأل: في أي الأعمال التي قدّمت، أو التي أديت أدوارًا فيها، أقدمت على مثل هذا؟

          - التاريخ يؤكد عدم الثبات، والفن يستوجب التجديد، وتطور حاجات المجتمع يفرض التغيير.. فما كان أعرافًا وتقاليد في زمن ما، وفي مكان ما، تمّ الاتفاق عليها بين الفنان والمتلقين تصبح بعد حين بالية، متأخرة، ينبغي إيجاد بدائل لها.. وما كان مبتكرًا في حقبة معينة قد يصبح مبتذلًا في حقبة تالية. هل ظلت المجتمعات كما هي عبر الزمن؟ وبالنسبة للفن المسرحي ظهرت الكلاسيكية، وبعد حين ظهر من جدّد فيها، ومن بعد ذلك حلت الرومانسية، وعلى أنقاضها قامت الواقعية.. ولم تمض ثلاثون سنة حتى ظهر مخالفوها من الرمزيين... وهكذا. ومثل تلك التحولات والتجديدات حصلت في المسرح وفي عناصر الإنتاج المسرحي. ولم يحصل ذلك كله إلا من طريق الابتكار. وشهد القرن العشرون تطورات كثيرة، وكبيرة في حقل المسرح.. لذلك أطلق عليه البعض تسمية «قرن الابتكارات».

          وسرى الابتكار إلى فن الإخراج، وفن التمثيل، وفن التصميم المنظري، وفن الإضاءة.. وحيث إن الابتكار يقود إلى خلق بدائل، فإنه يقود إلى التجديد الذي لا يحصل إلا بتحريك الذهن، وهو ما ينتج الإبداع.

          الارتجال قرين الابتكار، وهو يحتاج إلى تحريك الذهن وإلى سرعة البديهة والتأليف الآنيّ. وإذا كان «ستانسلافسكي» قد حثّ تلامذته وممثليه على اللجوء إلى الارتجال في بداية القرن، فقد أصبح «الارتجال» عاملًا أساسيًا في تدريب الممثلين في أواخر القرن، وخصوصًا في فرق المسرح التجريبي (مثل «فرقة المسرح الحي» و«فرقة مسرح الشمس»، وفي «المسرح المفتوح»، و«المسرح البيئي»... وغيرها)، حيث أدرك فنانو تلك الفرق، وسواهم، أن الارتجال يهيء فرصًا أكبر للأنواع، مخرجًا الممثل من طوق القوالب الجاهزة، وفاسحًا المجال الواسع للابتكار وتلقائية الأداء.

          وسرت موجة الارتجال منذ تسعينيات القرن الماضي. وبعد أن اطلعت على مسارات الفرق التجريبية، ومنها «فرقة أودين» الدانماركية التي يقودها الإيطالي «يوجينيو باربا» صاحب المسرح الثالث ومعهد انثربولوجيا المسرح، اُستخدمتْ تقنية الارتجال ليس في أداء الممثلين الذين يعملون معي، بل حتى في مجال التأليف الجماعي للنصوص المسرحية، كما حدث في ثلاث مسرحيات قصيرة قدمتها أواخر التسعينيات، وهي «إلى إشعار آخر»، وهي عن مدرّس عنيف يتحوّل إلى آكل للحوم البشر.. و«الكفالة» التي هي عن محتجز سياسي يُنسى سنوات في السجن، وعندما تقرر السلطة إطلاق سراحه بكفالة لا يجد من يكفله في مجتمعه بعد أن ديست القيم النبيلة في هذا المجتمع، لذلك فضّل البقاء في السجن على الخروج منه إلى مجتمع فاسد. ثم كانت «شكرًا لساعي البريد» التي تتناول استغلال ساعي البريد ومدير مكتبه رسائل المواطنين بعد فتحها والتعرف إلى ما تنطوي عليه من أسرار، وبالتالي لجوؤهما إلى الابتزاز.

          في هذه الأعمال الثلاثة كنا أمام نصوص خام، فقمت مع الكادر التمثيلي بتطويرها وجعلها نصوصًا ذات مقومات فنية.. ولجأنا إلى الارتجال في الإخراج والأداء. وقبل بضعة أشهر قدّمتُ عملًا مسرحيًا بعنوان «أيام الجنون والعسل»، وهو عن تعرّض مستشفى الأمراض العقلية والنفسية في بغداد إلى قصف صاروخي... وتكوّن العمل بالكامل من طريق الارتجال، ولكن على قاعدة نص روائي لأحد نزلاء المستشفى هو الكاتب خضير ميري.

  • وماذا وجدت من الجمهور والمخرج؟

          - بالنسبة للمسرحيات المذكورة كانت استجابة الجمهور رائعة. أما أنا، كممثل عمل مع مخرجين آخرين، فلم أمرّ معهم بتجربة الارتجال بفحواها التفصيلي لكونهم لم يكونوا قد وقفوا على تقنية الارتجال وفوائدها.. بل إن البعض منهم لم يكن يؤمن بها، وبدلًا من ذلك فهم يفرضون على الممثلين، وأنا منهم، ما يفكرون به هم وحدهم، ولا يتقبلون مقترحات الممثلين.

  • بدأتَ حياتك مع المسرح، وفي المسرح، مع تصاعد تيار الواقعية في الأدب والفن، ثم كانت عاصفة «مسرح العبث» في ستينييات القرن الماضي، التي طغت، نسبيًا، على المسرح العراقي والعربي.. وقد مضيتَ، أنت، مع الاتجاهين، فعلى أي نحو تعاملت مع هذا «الازدواج المسرحي»، إن جاز التعبير؟

          - أقولها صراحة: في الستينيات لم أكن أعرف شيئًا عن «مسرح اللامعقول»، أو «مسرح العبث». ولكن عندما كنت أدرس فن التمثيل في «الأكاديمية الملكية لفنون الدراما» في لندن تسنى لي أن أمثّل دورًا في مسرحية من هذا الصنف للفرنسي «جان جينيه»، وكانت بعنوان «رقابة عليا»، وأسميتها، بعد أن ترجمتها إلى العربية، «في انتظار الموت». وقتها لم يشرح لنا المخرج ماهية هذا النوع من المسرح، تاركًا الأمر لنا، ولكني لم أجد الوقت الكافي لتعرّفه. وعندما عدت إلى بغداد، في العام 1966، قمت بإخراج النص المترجم للمسرحية لحساب «الجمعية البغدادية»، وهي جمعية ثقافية اجتماعية، كان كل من الأديب الراحل جبرا إبراهيم جبرا، والمعماري رفعت الجادرجي من إدارييها. ومثّل معي في هذه المسرحية كل من: روميو يوسف، وعوني كرومي.. يومها أدهشْنا الحضور بأدائنا المتوتر الإيقاع، القوي والسريع.. ولم نكن، نحن المشتركين بتقديم العمل، نعرف تقنيات مسرح العبث وأسراره. وما أعجبنا في النص هو ذلك الصراع المحتدم بين سجناء ثلاثة داخل زنزانة حول كيفية الوصول إلى مرتبة مجرم عاتٍ في زنزانة أخرى. وبعد انتهائنا من العرض جاءنا الأستاذ جبرا بنص مسرحية «صاموئيل بيكت» الشهيرة «في انتظار غودو» وقد ترجمها إلى العامية العراقية، وطلب إخراجها. قرأنا النص أول مرة فلم نفهم منه شيئًا.. ثم قرأناه مرة، وأخرى، حتى بدأنا نتلمس ما فيه من معانٍ عميقة حول ضياع الإنسان في هذا الزمن وانتظاره من يخلّصه. وكان علينا لكي نفهم النص أكثر الاطلاع على حيثيات مسرح اللامعقول، وفلسفة العبث. وبالفعل كانت مجلة «المسرح» المصرية هي العون لنا في هذا من خلال ما نشر فيها عنه.

          بعد سنوات ازدادت معرفتي بنتاجات أصحاب هذا المسرح، وفي المقدمة منهم صاموئيل بيكت، ويوجين يونسكو، وآرثر أداموف، وجورج شحادة، وجان جينيه، وهارولد بنتر... فكان لي أن أخرج مسرحية شحادة «مهاجر بريسبان»، ومسرحية جينيه «الزنوج السود»، ومسرحية يونسكو «الجوع والعطش».. وقد رأيت في هذه الأخيرة أعظم نص مسرحي كتب في القرن العشرين من ناحيتي الشكل والمضمون.

          قبل هذا لم تكن ثقافتي المسرحية على ما هي عليه الآن من اتساع وعمق، لذلك لم أكن أدرك في أي اتجاه أسير في أعمالي.. فكنت أنتقل من مدرسة فنية إلى أخرى، ومن أسلوب إلى آخر، منقادًا لإعجابي بالنصوص التي تقع في يدي.. فبدأت، مثلًا، بالمسرحية الرومانسية «الرجل الذي تزوج امرأة خرساء» لأناتول فرانس.. وتناولت مسرحية واقعية ليوسف العاني هي «تؤمر بيك».. وتصديت لمسرحية تاريخية كلاسيكية لعادل كاظم هي «تموز يقرع الناقوس»، وأخرجت مسرحية ملحمية بريختية هي «الاستثناء والقاعدة». وبالمقابل أخرجت مسرحية ملحمية عراقية ليوسف العاني هي «المفتاح»، كما أخرجت لشكسبير «تاجر البندقية» و«هاملت» و«حلم ليلة صيف» و«ماكبث» و«عطيل». وأدركت، من بعد هذا، أنني أنتمي إلى صنف من المخرجين الانتقائيين أمثال الألماني ماكس راينهارت الذي يطرق أبواب المدارس المسرحية كلها، ويدخل داخلها ليعالج عناصر إنتاجها بالأسلوب المناسب لها، أي عدم اتباع أسلوب واحد مع الجميع.

  • هل هو ازدواج مسرحي، إن جاز التعبير؟

          - لا، ليس ازدواجًا مسرحيًا، بل هو تنوع مسرحي، وهذا ما أؤمن به وأعمل عليه.

  • وهل هذا هو ما تسميه «المسرحة»؟

          - تمامًا، فـ «المسرحة» و«التمسرح» (Theatricality)، أو إضفاء صفات مسرحية على الواقع بشكل مسرحي قد يختلف، بنسبة أو بأخرى، عما هو موجود في الحياة، أو أن يختزل ماهو موجود في الحياة، أو يجرده من تفاصيله وتلك هي مهمة الفنان المسرحي، وإلاّ لن يصبح المسرحي فنانًا إذا اكتفى بنقل الواقع فوتوغرافيًا كما هو.. وهذا هو، مع الأسف، الاتجاه السائد في حقل الفن المسرحي هذه الأيام، فالفنان المسرحي الحقيقي إما أن يضيف، وإما أن يختزل، لا أن يستنسخ.

  • أنت ترى أن عملية إخراج عمل مسرحي هي عملية تفسير وابتكار. فهل نفهم من هذا إمكان تقديم رؤية مغايرة لرؤية المؤلف؟

          - أعني بالتفسير هنا استخدام الأدوات المتاحة للمخرج (الممثلون، والمناظر، والأزياء، والملحقات، والإضاءة، والمؤثرات السمعية والبصرية) وتوظيفها لنقل رؤية المؤلف، أو الرؤية الخاصة به، وتوضيح المقصود من محتوى المسرحية، أي لخلق التجانس بين الوسائل السمعية والبصرية والحركية وبين العناصر الدرامية، وهي، في رأيي المخالف لرأي أرسطو، الشخصية أولًا، والفعل ثانيًا، والفكرة ثالثًا. فالشخصية هي التي تصنع الأحداث مجبولة بوساطة الفعل الرئيس والأفعال الثانوية التي تنتج فكرة معينة، وهي القول الذي يريد المؤلف، أو المخرج قوله، أو الخطاب الذي يريد المنتج إيصاله إلى المتلقين، ولا يمكن أن يصيب التفسير هدفه إلا بعد عملية التحليل التي تسري على معاني النص، الظاهرة منها والخفية، وعلى أنغام الكلمات، وإيقاعها، وعلى أبعاد الشخصيات وأهدافها وعلاقاتها مع بعضها البعض، والصراعات القائمة بينها في المسار نحو الهدف الأعلى الذي هو الفكر.

          «المسرحة»، إذًا، هي صياغة الواقع الحياتي وصهره في بوتقة الفن المسرحي. والمسرح إطار مصغَّر للأطر الحياتية الكبيرة. والمسرح تكثيف لتفاصيل الحياة التي ليس من السهل حصرها.. ولا يتم التكثيف إلا بعقل مدبّر، وبصيرة نافذة، ومعرفة واسعة، وخبرة متراكمة.

  • وهذا يقودنا إلى السؤال عن رؤية المؤلف ورؤية المخرج؟

          - يتفق الدارسون والمعنيون على وجود نوعين من المخرجين المسرحيين: الأول هو المخرج المفسّر، وهو الذي يطابق رؤيته مع رؤية المؤلف، ويكون أمينًا على أفكاره، وملتزمًا بمحتويات النص وإرشاداته.. ومهمته هي أن يجسّد ما في نص المؤلف بممثلين أحباء على خشبة المسرح، وفي فضائه.. وهي مهمة إبداعية أيضًا. والثاني هو المخرج المبتكر الذي يختلف في رؤيته عن رؤية المؤلف بنسبة أو بأخرى، متخذًا من أفكار المؤلف نقطة انطلاق لتحقيق رؤيته هو. ولذلك فإن عليه أن يقرأ النص قراءة جديدة يصوغ من خلالها نصًا للعرض، لا للقراءة، وهذه، بالتأكيد، عملية إبداعية فيها كثير من الابتكار ويسمى المخرج في هذه الحالة بـ«المؤلف الجديد» للنص، ذلك أنه لم يلتزم بأفكار المؤلف، ولا اعتمدها في تفسيره. ولكني أقول: إن المبدع الأول هو المؤلف، فلولا نص المؤلف لما تكونت لدى المخرج رؤية خاصة به.

  • وأين قمت أنت شخصيًا بذلك؟ في أي عمل من الأعمال التي أخرجت؟

          - دعني أقدّم مثالًا من مسرحية «هاملت» لشكسبير، فقد رأى ذلك الشاعر الكبير أن سبب تردد هاملت في الإقدام على الأخذ بالثأر لأبيه من قاتليه، عمّه وأمه، هو ضعف إرادة الأمير الشاب ومحبته لأمه، وخوفه من النتائج التي قد تترتب على فعله إذا ما أقدم عليه، بينما رأيت أنا، عندما أخرجت العمل، أن السبب هو محاولة «هاملت» جمع الأدلة التي تدين كلًا من عمّه وأمه.. وقد دامت محاولته هذه أمدًا طويلًا من الزمن إلى أن خطرت له فكرة تقديم تمثيلية أحداثها مشابهة لما حدث في جريمة مقتل أبيه، وتقديم التمثيلية على مرأى ومسمع القاتلين ليتبيّن ردود أفعالهما تجاهها، بما يثبت ارتكابهما الجرم.

  • من أين تستمد حقك في أن تفعل هذا مع «نص المؤلف»؟

          - لا حقّ للمخرج أبدًا في أن يعتدي على إبداع المؤلف، فذلك ظلم وتعسف.

  • ولكنك أعطيته مثل هذا الحق؟

          - الذين يقومون بمثل هذا يقولون إن نصوص المؤلفين ليست مقدسة حتى نتحاشى التطاول عليها بالحذف والتغيير والإضافة. فإذا ما فعل المخرج ذلك فإن عليه أن ينسب النص الجديد لنفسه، وليس للمؤلف الأصلي.. أي أن يشير إلى أن العمل الذي يقدمه مقتبس عن نص آخر، يذكره ويذكر مؤلفه. وهنا تحضرني واقعة في هذا الشأن، فحين أقدم المخرج السينمائي والمسرحي الإيطالي «فيسكونتي» على إخراج مسرحية الكاتب الإنجليزي «هارولد بنتر» استضاف الأول الثاني لمشاهدة العرض.. فلما انتهى وخرج «بنتر» من الصالة التفّ حوله الصحفيون يسألونه رأيه.. فقال لهم: إنه عرض جيد، ولكنه ليس لي وإنما هو لفيسكونتي!

  • كما يبدو فإن حجم المؤثرات الأجنبية عليك هو الأكبر؟

          - أقول بصراحة: لولا تلك المؤثرات لما كان هناك تقدّم واضح في مسرحنا، ليس في العراق وحده، وإنما في عموم الوطن العربي. فمن المسرحيين الأجانب اقتبس «مارون النقاش» مسرحياته الأولى، ومن الأجانب تعلّم «زكي طليمات» تقنيات المسرح الحديث، ومن الأجانب تعرفنا إلى المدارس والاتجاهات والتيارات المسرحية المختلفة.. ورحنا ندرِّس طريقة «ستانسلافسكي» ونطبّقها في معاهدنا الفنية. ومن المسرح الفرنسي جلب لنا «حقي الشبلي» تقاليد وأعراف المسرح الرومانسي، والمسرح الواقعي، والمسرحيات جيدة الصنع. ومن أمريكا تعلّم «إبراهيم جلال» ملحمية بريخت. ومن تشيكوسلوفاكيا عرفنا مصطلح «سينوغرافيا»، ورحنا نتخبط في تفسيره وتطبيقه.

  • هذا كله لا عيب فيه، فمثلما نأخذ منهم الكثير فإنهم، هم أيضًا، يأخذون منا الكثير: ألم يستفيدوا من علم علمائنا، وشعر شعرائنا، وفلسفة فلاسفتنا؟

          - صحيح أننا، نحن العرب، امتلكنا ممارسات شبيهة بممارسة الفن المسرحي، كالحكواتي والسماجة والبساط والمقامات.. وغيرها... إلا أننا لم نحولها إلى عروض مسرحية متواصلة، ولم نستفد منها إلا في النصف الثاني من القرن الماضي.

          صحيح أننا أسسنا معاهد وكليات للفنون الجميلة، ومنها فن المسرح.. ولكن مناهجها مأخوذة، هي الأخرى، عن مناهج المؤسسات الفنية الأجنبية. ولنقل مثل هذا على ما وضعنا من كتب وأصدرنا من مجلات. ولا ضير في هذا.

  • من يقرأ ما كتبت في تجربتك المسرحية يلاحظ مسألة مهمة، وهي النقد الذاتي الذي مارسته مع ما وجدته قد أخفق من الأعمال المسرحية التي توليت، أنت شخصيًا، إخراجها. فهل تجد في هذا «النقد الذاتي» وأنت تمارسه لازمة لنجاح الفنان؟

          - الفنان الواثق من نفسه ومن عمله، ومن قدراته الفنية هو الذي يمارس النقد الذاتي، وهو الذي يتقبّل نقد الآخرين لعمله، لأن رفض مثل هذا النقد سيبقيه متكلسًا ومتحجرًا لا يلتفت إلى أخطائه وهناته. وهنا أؤكد أن الفنان، وهو في خضم إنتاج عمله الفني، يندفع ذاتيًا وهو يعتقد أن كل ما يفعله صحيح ومؤثر وجميل، ويبقى قاصرًا عن تقويم عمله، وهو لا يدري أن المتلقي لعمله ينظر نظرة مغايرة لنظرته، وقد يكتشف أخطاء وقع فيها الفنان، ولم يلمسها وهو مندمج بعمله...

          أنا نفسي وقعت في مثل هذه الأخطاء، لأكتشفها بعد حين، عندما قمت بإخراج مسرحية جورج شحادة «مهاجر بريسبان».. كنت أتصور أنها ستنجح أيما نجاح، وستبهر المتفرجين شكلًا وموضوعًا، وخصوصًا بعد أن بذلت في صياغتها جهدًا مضنيًا دام أكثر من ستة أشهر.. ولكن النتائج كانت بخلاف ما توقعت.. فقد قوبلت المسرحية عند عرضها بفتور.. وتبيّن لي، في ما بعد، أنني لم أمسك بالإيقاع الصحيح للعرض، حيث أصابه الترهل في مشاهده الأخيرة.

          وهنا أكرر على الدوام أن على المخرج، لكي ينجح في عمله، أن يجلس في مقعد من المقاعد المخصصة للجمهور ويراقب عرض مسرحيته ليلمس مدى تأثيره في نفسه، كمتفرج وليس كمخرج.. بمعنى أن يمارس نقدًا ذاتيًا. وأضيف: ليس فنانًا ذلك الذي يترفع عن نقد عمله، أو يرفض نقد الآخرين له. من لا يقبل النقد متحجر الذهن، بعيد عن الابتكار، لا ينشد التجديد.

 





 





سامي عبد الحميد مع النجمة سعاد العبدالله





 





للإلهام دور في تبني الدور الذي أمثله