نحو أنسنة الفكر القومي

 نحو أنسنة الفكر القومي
        

          السيد رئيس تحرير مجلة العربي.. تحية إكبار وتقدير إلى سيادتكم ودمتم ومجلتكم الغراء صرحًا من صروح الثقافة والإبداع عبر مشارق الأرض ومغاربها.

          تعقيبًا على المقال الذي كتبه الباحث اللبناني هاني فحص، والمنشور في العدد 644 - يوليو 2012، بعنوان «المستقبل والعروبة والأنسنة»، كان التفكير منصبا في الآونة الأخيرة حول الدعوة إلى إحياء الفكر القومي وتطوير أساليبه بعدما أصبح فريسة الإعلام المعادي، وتكالبت على الأمة العربية دول طامحة لإجهاض المشروع القومي وطمس هويتنا بشتى الأساليب، وقد ألقى الباحث الضوء على مفهوم الهوية ومدى تراجع هذه الفكرة التي باتت محل تشكيك عند الكثيرين، واضعًا تصورًا سياسيا للمنظومة القومية في ظل هذا التحول الاجتماعي في وطننا العربي، غير أن الأيديولوجيا تبقى عنصرًا من العناصر المؤثرة في القرار السياسي وقد تلعب ظروف أخرى الدور نفسه، حيث تعيش أمتنا العربية عصرا مدت فيه العولمة جذورها على المستوى الإقليمي والدولي، باسطة نفوذها على الفرد والجماعة وتداخلت فيه التفاعلات السياسية متجاوزة الحدود المرسومة بين الكيانات، ولا شك في أن التردي الحاصل في الواقع العربي الراهن قد أفرز موجة من التشكيك في وجود هوية قومية يشترك فيها سكان الوطن العربي المجزأ فكريًا وسياسيًا، وبالرغم من التغييرات السياسية التي طرأت على المنطقة العربية تم إحياء فكرة الهوية التي أصبحت قضية للجدل بعد أن كانت مسألة بديهية، والفضل الكبير يعود إلى مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي الذين طالبوا بإحياء فكرة تجديد المشروع القومي الذي غاب لعقود طويلة ومزقته التجاذبات السياسية والعرقية.

          وبما أن مسألة الهوية لاتزال محل تشكيك، فإن الحاضر يفرض علينا أن نحافظ على مكتسباتنا الحضارية، وبالحفاظ على الهوية نكون قد حافظنا على بقائنا، وهذا يدخل ضمن الواعز القومي، وصدق أحد المفكرين حين قال:

          «من لم يملك هوية لا يصنع تاريخًا ولا يغير واقعًا ولا يحلم بمستقبل».

          لكن دعونا نلقي نظرة خاطفة عن نشأة الفكر القومي وتداعياته على المنطقة، فلا شك في أن المشروع القومي بدأت ملامحه بالتشكل  منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر في بلاد الشام. وقد جاء كرد فعل غاضب على النهج العنصري الذي مارسته الدولة العثمانية بحق العرب. وتواصل كفاح دعاته بعد طرد الأتراك في مواجهة الحرب العالمية الأولى، من اتفاقيات ومعاهدات، وضعت المشرق العربي تحت هيمنة قوى استعمارية أشد شراسة وأكثر فتوة، هي قوى الاستعمار الغربي. وفي خمسينيات القرن الماضي كانت معظم البلدان العربية قد أنجزت استقلالها السياسي، وتصاعد النضال من أجل تحقيق الوحدة. لكن المشروع القومي لم يتمكن حتى هذه اللحظة، من المضي قدمًا في إنجاز مشروعه الوحدوي حتى أصبح عقبة جديدة مضافة في طريق الوحدة العربية.

          وعلى الرغم من الواقع السياسي العربي المتردي والمتشرذم الذي نعيشه اليوم بعد الثورات التي طالت بعض الأقطار العربية، والتي كنا نأمل من ورائها أن تستقيم الأمور، فقد رأى بعض المفكرين أن العودة إلى القومية والتمسك بالعروبة هي أحد الحلول الأساسية التي ستنتشلنا مما نحن فيه. وهنا خلص د.فايز قزي إلى مجموعة من التطلعات لمواجهة تحديات الفكر القومي، أبرزها: «تحقيق التكامل بين القومية والعروبة وبين الأوطان والأمة، خصوصًا أن هذا التحدي استحال تجاوزه في التجارب الوحدوية السابقة، الأمر الذي لن يتم إلا بإعادة صياغة القومية لا العروبة، بشكل سياسي اجتماعي ديمقراطي منفتح على النظم السياسية الإنسانية الحديثة.

          لذا كان لزامًا علينا أن نأخذ عدة تدابير تحمي هويتهم من الاستلاب وتؤسس لفكر جديد يتماشى وواقعنا العربي وفق النقاط التالية:

          - اعتماد الحكومات العربية على الأسلوب الديمقراطي في التعامل مع المواطنين ومعالجة القضايا الاجتماعية وفق القانون الذي يكون فيصلاً بين الدولة والأفراد.

          - تكريس العمل العربي المنظم والهادف إلى تطوير صيغة التعاون العربي وتوزيع عادل للثروات.

          - حل المسائل الإقليمية سلميًا وضمن قواعد الحق والعدل والديمقراطية.

          - تحقيق ثورة ثقافية جديدة تعيد إلى الدول العربية مكانتها بين الشعوب حتى نتمكن من نقل رسالة العيش المشترك بصفة حضارية.

          وتظل أمام الحركة القومية في هذا المجال قضيتان مهمتان لابد من معالجتهما بالمنهج نفسه، أي الديمقراطية والواقعية.

          يجب متابعة الجهود لرفع التصادم المصطنع بين فكرة الوحدة العربية والوحدة الإسلامية، وإقناع الإسلاميين بأنه من غير العملي ولا المنطقي أن يتم القفز من فوق الوحدة العربية إلى الوحدة الإسلامية، وأن هناك علاقة جدلية بين العروبة والإسلام، ويمكن لكليهما أن يلعب دورًا توحيديًا يكمل دور الآخر، فالعروبة هي الجسر إلى الطوائف والأقليات غير المسلمة، والإسلام هو الجسر إلى الأقليات القومية الأخرى الموجودة في الوطن العربي.

          كذلك معالجة مسألة الأقليات القومية من منطلق التعصب وإكراهها على الذوبان في العروبة أثبت وسيظل يثبت أنه في غير مصلحة العمل الوحدوي، ويتناقض مع مبدأ الطوعية والاقتناع. ولذلك، لابد من الانطلاق من مبدأ الاعتراف بحقوق هذه الأقليات والحوار معها وإقناعها بأهمية التكاتف لبناء الوطن المشترك والتنوع في إطار الوحدة والديمقراطية والمواطنة الكاملة، ومثال ذلك الاتحاد الأوربي الذي بني على قوميات مختلفة.

          ومن أولويات الحركة القومية أن تجد لنفسها صيغة تنظيمية تؤطر فيها حركتها وتحقق التواصل والتفاعل ما بين أفرادها وتكون بمنزلة البنية التحتية للدعوة الوحدوية، على أن تجسد الديمقراطية ضمن مؤسساتها وبين أعضائها، وأن تتسم بالواقعية والعملية فتتلاءم مع الواقع القطري دون أن يعني ذلك التسليم به.

          وفي النهاية، فإن الذي يحقق الوحدة العربية هو الشعب العربي. والإنسان المصمم على تحقيق هذا الهدف بعزم وبإرادة صلبة وبإيمان مطلق، حينئذ يمكن للوحدة العربية أن تتحقق حين لا تخور عزيمة المناضلين، وحين يكون النضال ثابتًا وقائمًا على منهج سليم وعلى آلية مدروسة.

شهاب جوادي
تونس