ملف طه حسين.. طه حسين من وجهة نظر فلسفية

 ملف طه حسين.. طه حسين من وجهة نظر فلسفية
        

  • عنوان التقرير بالكامل هو: «تقرير عن بعثة لدراسة اتجاهات الأفكار الفلسفية في البلاد الناطقة باللغة العربية». ويجد القارئ ترجمة كاملة له في ملحق لكتابي «طه حسين من الأزهر إلى السوربون» (القاهرة 2003).

          لم يكن طه حسين فيلسوفا بالمعنى الدقيق للكلمة، إلا أنه كان أقرب أدباء عصره إلى الفلاسفة. اختار أن يكون أديباً، لكن الأديب - بالمعنى الذي أراده لنفسه ووفقًا لما قال القدماء وكما مجده هو نفسه في روايته المأساوية «أديب» هو الكاتب الذي يأخذ من كل شيء بطرف؛ وهو الكاتب «الحر» الذي يتحرك بسهولة في ربوع الثقافة الرحبة.

          وكان طه حسين بالفعل واسع الأفق، متعدد المواهب والاهتمامات: كان شاعرا (في شبابه)، وناقدا ومؤرخا للأدب، وقاصا وروائيا، ومترجما، وأستاذا جامعيا يكتب للخاصة، ومبسطا للمعارف من أجل الجمهور، وصحفيا.. فأين موقع الفلسفة في كل ذلك؟ من حسن حظه أنه تلقى في مرحلة تكوينه ثقافة متعددة الروافد؛ ولو أننا تفكرنا قليلا لتبينا أن الفلسفة كان لها دور تأسيسي في تكوين ذلك الأديب، وفي إنتاجه الأصيل منذ البداية.

          تعرض طه حسين في مرحلة تكوينه في ما بين الأزهر والجامعة المصرية لمؤثرات عدة تدفع جميعها نحو الفلسفة. كان هناك أولا تأثير الشيخ الإمام محمد عبده. لم يحضر طه من دروسه إلا القليل، غير أن هذا القليل بالإضافة إلى حضور الشيخ السائد في المحيط الفكري داخل الأزهر وخارج الأزهر (بين «المعممين» و«المطربشين») كان كافيا لإحداث أثر باق في نفس الطالب الضرير رغم حداثة سنه وجدة عهده بالدراسة. ولا بد أنه اطلع في وقت ما من مرحلة التكوين على ما جاء في كتاب الشيخ «رسالة التوحيد»؛ وأدرك أن ما جاء في الرسالة من إحياء وتجديد التقى وتصادم مع دروس التوحيد كما كان يدرسها الطالب في الأزهر. فالمؤلف يذكر القارئ منذ البداية بأن «التوحيد» اسم آخر لعلم الكلام، وبأن «مبناه الدليل العقلي ... وقلما يرجع فيه إلى النقل، اللهم إلا بعد تقرير الأصول الأولى... وبأنه في بيان أصول الدين أشبه بالمنطق في تنبيه مسالك الحجة في علوم أهل النظر». وليكن واضحا أن كاتب تلك السطور عندما يتحدث عن أهل النظر، فإنما يعني الفلاسفة. ولا بد أن هذا التصادم أدى إلى بث الحركة والحيوية في تلك الدروس التي كانت في الواقع صورة متأخرة جامدة لعلم الكلام كما مارسه المسلمون في الماضي، وإلى حفز الفكر من جديد إلى النظر في العقائد الأساسية وتفسيرها والدفاع عنها بالدليل العقلي. وسنرى في ما يلي أن الفلسفة الكلامية كان لها دور حاسم في تشكيل آراء طه في كتابه الأول عن أبي العلاء.

مدخل إلى الفلسفة

          ولنبق الآن في نطاق الفترة التي سبقت تأليف ذلك الكتاب. ففي سنة 1907 التقى طه بـ «أستاذ الجيل» الفيلسوف أحمد لطفي السيد وأصبح أحد تلامذته المقربين. وصارت دروس الأستاذ النظامية وغير النظامية «مدرسة» ثانية بالإضافة إلى الأزهر. وفي هذه المدرسة الثانية تلقى طه أولى معارفه في الفلسفة اليونانية القديمة وبخاصة أرسطو والفلسفة الإسلامية. ولا بد أن دروس الأستاذ في هذا المجال أعادت ذهن التلميذ إلى نقطة انطلاق الفلسفة الإسلامية بوصفها محاولة للتوفيق بين الإسلام والفلسفة اليونانية - وبخاصة أرسطو - أو بين النقل والعقل. وتشاء الصدف أن يتأكد هذا الاتجاه ويترسخ عندما التحق طه بالجامعة المصرية فور افتتاحها في سنة 1908. ففي هذه الجامعة الوليدة استمع طه إلى دروس أستاذين مستشرقين هما الإيطالي دافيد سانتلانا والفرنسي لويس ماسينيون - عن الفلسفة الإسلامية وعلاقاتها بالفلسفة اليونانية. كان سانتلانا يلقي على طلابه محاضرات تحت عنوان «المذاهب اليونانية الفلسفية في العالم الإسلامي»، ويحاول فيها بصورة منظمة أن يعرض مذاهب الفلسفة الإسلامية بوصفها صورا مبسطة أو مشوهة لأصول يونانية. أما محاضرات ماسينيون، فكانت على نقيض ذلك محاولة لتحقيق التوازن والإنصاف. فهي تتناول حسب العنوان تاريخ الاصطلاحات الفلسفية العربية. إلا أن ماسينيون لم يكن يتوقف عند مستوى الاصطلاحات، بل يدرسها مع ما حملت من مدلولات كما تطورت عبر العصور بداية من اليونان فتلقي المسلمين لها فانتقالها من ثم إلى أوربا في العصور الوسطى. ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن بحث موضوع الاصطلاحات كان يتضمن في الواقع عرضاً لتاريخ الفلسفة في امتداده الطويل، وتأكيداً على دور الوساطة الذي أدته الفلسفة الإسلامية في ما بين اليونان القديمة وأوربا، وعلى تأثر الفكر الإسلامي بطرف وتأثيره على الطرف الآخر، وعلى إسهامه في الفكر الإنساني ككل.

          ومن اللافت للنظر حقاً أن طه كان هو الطالب الوحيد الذي برز من بين الصفوف ليسترعي انتباه لويس ماسينيون. فقد ترك لنا المستشرق الفرنسي وثيقة تاريخية مهمة في صورة تقرير أعده للسلطات الفرنسية عن دراسة اتجاهات الأفكار الفلسفية في البلاد الناطقة بالعربية؛ ويخص فيه بالذكر الطالب طه على نحو مثير للدهشة والإعجاب. يقول ماسينيون في تقريره: «ومما سرني أني وجدت بين طلابنا عقلا من المرتبة الأولى، كفيفاً صاحب بصيرة ثاقبة، هو الشيخ طه حسين». كما عاد ماسينيون إلى التأكيد على نبوغ الطالب وهو يعلق على أداء الطلاب في الامتحان النهائي. فقد لاحظ في هذا السياق أن الطلاب الممتحنين بصفة عامة حفظوا مذكراتهم عن ظهر قلب، وأن ضعفهم البالغ ظهر بصدد الأسئلة التي تنصب على مبادئ العلوم الجديدة، بينما كانوا شديدي الدقة في الإجابة عن المسائل التي عرضت عرضا وافيا في التعليم العربي القديم. إلا أن الأستاذ الفرنسي يستدرك فيستثني طه من ذلك التعميم. يقول: «إلا أن طالباً بلا نظير هو الشيخ طه حسين قدم عن السؤال العاشر شرحاً بلغ فيه غاية الدقة في التعبير لمناقضات العقل المجرد وفقا لكانط».

تأهيل الفيلسوف بالذكاء العقلي والتعليم الأزهري

          وهنا ينبغي التريث قليلاً حتى لا يفوتنا المغزى الكامل لهذه القصة. فهي لا تدل فقط على تفوق الطالب في دراسة الفلسفة وإعماله للعقل بدلا من الاعتماد على الذاكرة والحفظ وقد كان صاحب ذاكرة حديدية. ينبغي أن نتوقف عند تلك «المناقضات للعقل» التي عالجها الفيلسوف الألماني عمانؤيل كانط في كتابه «نقد العقل الخالص»؛ فهي في الحقيقة قريبة أشد القرب مما نحن فيه. هي مسائل عويصة تتعلق بحدود العالم في المكان والزمان، وتكون الأشياء المركبة من جزيئات بسيطة، وحرية الإرادة، ووجود الله (بوصفه السبب الأول لوجود العالم). وفي رأي كانط أن هذه المسائل التي يطرح الفلاسفة عن كل منها إجابتين متناقضتين تستندان كلتاهما إلى حجج قاطعة لا يمكن حلها إذا نوقشت في نطاق العقل النظري. فهذا العقل معنى بالطبيعة من حيث هي موضوع للعلم، وهو مقيد بشروط الخبرة البشرية التي تفرضها الحساسية (المكان والزمان ومعطيات الحواس) ويفرضها الفهم («المقولات» أو المفاهيم العقلية الأساسية عن وجود العالم الخارجي، مثل الكم والكيف والسببية الحتمية). والأحرى والأوجب في رأي كانط أن تناقش هذه القضايا العليا في نطاق «العقل العملي» (أي في نطاق الأخلاق). وعندئذ يوجد لها حل تطمئن إليه النفوس.

          وعلى ضوء هذا التوضيح نستطيع أن نقول إن تفوق طه في شرح مناقضات الفيلسوف الألماني لا يرجع إلى ذكائه الطبيعي فحسب، بل يرجع أيضاً إلى أنه كان مهيئاً بحكم تعليمه الأزهري لمواجهة تلك القضايا. وذلك أن لها ما يناظرها في علم التوحيد (أو علم الكلام)؛ وقد تنازعت حولها فرق المتكلمين وتضاربت آراؤهم فيها. ومن هذه المسائل خلق العالم؛ وهل اِلإنسان مجبر أم حر؛ وهل تتكون الأشياء من جزيئات بسيطة لا تتجزأ كما يقول الأشاعرة. ولا بد أن نضيف إلى ذلك أن تلك القضايا الكلامية كانت حية بالنسبة للطالب طه حسين، وأن ما عرفه عن كانط كان من بين العوامل التي أيقظت في ذهنه دروس التوحيد.

          وهناك رافد إسلامي آخر غذى فكر طه في مرحلة التكوين، وكانت له أهمية بالغة. وأعني بذلك ابن خلدون و«مقدمته» الشهيرة. يظهر هذا التأثير واضحاً في كتابات طه حسين المبكرة التي سبقت كتابه الأول عن أبي العلاء. كان الاهتمام بابن خلدون شائعاً في الجو الثقافي المصري والعربي منذ القرن التاسع عشر. ويبدو أن ابن خلدون كان حاضراً على نحو أو آخر في برنامج الدراسة في الجامعة الناشئة. ومن ذلك مثلا أن ماسينيون خصص لابن خلدون مكانا في محاضراته. ولكن المهم هو أن طه حسين قرأ «المقدمة» في تلك المرحلة وأنه قرأها على نحو لم يسبقه إليه أحد من معاصريه. فبينما كان الاهتمام الشائع بابن خلدون منصبا على مسائل ملحة مثل أسباب نهوض الدول وسقوطها، وسر تخلف العالم الإسلامي عن ركب الحضارة، فقد انصب اهتمام طه حسين بصفة رئيسية على الجانب الفلسفي من الكتاب جانب منهج البحث أو منطقه. فإذا كانت «المقدمة» تضع في الصدارة المبادئ والأسس اللازمة لقيام التاريخ كدراسة علمية، فإن الطالب طه يقرر في فرعي سلسلة مقالات عن حياة الآداب (1914) عدداً من «المقدمات» اللازمة لقيام تاريخ الآداب كعلم.

ابحث عن ابن خلدون

          وينبغي أن نلاحظ هنا أن هذا الاهتمام المبكر بقضايا المنهج كان نقطة تحول حاسمة في حياة طه، فلقد ظل منذ ذلك التاريخ معنياً بمشكلة المنهج في دراسة التاريخ وتاريخ الأدب العربي بصفة خاصة. أقول ذلك لأن من عادة النقاد أن ينقضوا على ما سجله طه حسين في كتابه عن الشعر الجاهلي (1926) من إشادة بالفيلسوف الفرنسي ديكارت ومن إيمان بشكه المنهجي. فهم يتوهمون بناء على هذه الأقوال أن وعي طه بقضايا المنهج وشكه في أكثرية الشعر الجاهلي يرجعان إلى اتباعه لمنهج الشك الديكارتي. وغاب عنهم أن هذا التطور الاهتمام بالمنهج وبدايات الشك في صحة الشعر الجاهلي - وقع قبل سفره إلى فرنسا، وقبل تمكنه من القراءة بالفرنسية، وقبل أن يعرف ديكارت. وغاب عنهم أيضاً أن الفضل الأول في ذلك التطور الحاسم الاهتمام بمنهج التاريخ وضرورة اتباع الشك في النقد التاريخي يرجع إلى ابن خلدون. ومن الثابت على أي حال أن منهج ديكارت في الشك لا علاقة له بالشعر ولا بتاريخ الأدب ولا بالتاريخ بصفة عامة. كل ما هنالك أن ديكارت كان هو الجد الأعلى للشك وواضع شعاره الأول في العصور الحديثة، وكان دوره إذن ثانويا. أما ابن خلدون، فقد تصدى للموضوع مباشرة؛ فأظهر شيوع الكذب في الأخبار التاريخية وأسبابه، وانتقد سذاجة المؤرخين وسطحيتهم وعجزهم عن التعمق والتمحيص، وطعن في صدق الرواة، وتقصى دوافعهم؛ ووضع لأول مرة المبدأ الأساسي في النقد التاريخي، وهو ضرورة تمحيص الأخبار المروية من حيث الصدق أو الكذب بوضعها على محك الواقع - «الواقعات» أو وقائع الاجتماع أو العمران الإنساني حسب تعبيره والنظر في مدى مطابقتها لهذا الواقع.

          فإذا جئنا إلى رسالة طه حسين عن أبي العلاء، لاحظنا أولا أنه يختار للدراسة شاعراً فيلسوفاً. ولم يكن الدافع الرئيسي لهذا الاختيار أن أبا العلاء كان مثله كفيفا، بل إنه كان فيلسوفا قريبا من همومه الفكرية في تلك المرحلة. ومما يذكر بالمناسبة أن أحمد لطفي السيد كان يدفع به في ذلك الاتجاه: كان يقول له: «أنت أبو العلاؤنا». ونلاحظ ثانياً أن مؤلف الرسالة يصدرها بتعريف فلسفي لواقع التاريخ كما يفهمه. يقول: «ليس الغرض من هذا الكتاب أن نصف حياة أبي العلاء وحده، وإنما نريد أن ندرس حياة النفس الإسلامية في عصره، فلم يكن لحكيم المعرة أن ينفرد بإظهار ثماره المادية أو المعنوية. وإنما الرجل وما له من آثار وأطوار نتيجة لازمة، وثمرة ناضجة لطائفة من العلل اشتركت في تأليف مزاجه، وتصوير نفسه، من غير أن يكون له عليها سيطرة أو سلطان». والواقع كما يفهمه مؤلف الرسالة هو العالم بأسره كشبكة من العلاقات السببية الضرورية: «... لأن الكائن المستقل ... لا عهد له بهذا العالم. إنما يأتلف هذا العالم من أشياء يتصل بعضها ببعض، ويؤثر بعضها في بعض، ومن هنا لم يكن بين أحكام العقل أصدق من القضية القائلة إن المصادفة محال، وأن ليس في هذا العالم شيء إلا وهو نتيجة من جهة وعلة من جهة أخرى». ويقرر الفيلسوف الشاب أن «المذاهب الحديثة» في الدراسة التاريخية تعترف «بما بين أجزاء العالم من الاتصال المحتوم» وتسلم بأن «حركة التاريخ جبرية».

أقواله المضللة للنقاد

          وهنا أيضاً نلاحظ أن أقوال طه حسين في ما يتعلق بمذاهب البحث الحديثة تضلل النقاد فيبالغون في تقدير المؤثرات الأجنبية في تشكيل صورة العالم كما رسمها طه في كتابه الأول، وفي تقدير دور مؤرخ الآداب الفرنسي هيبوليت تين على وجه التحديد. ويغفل هؤلاء النقاد دور المؤثرات الإسلامية، رغم التأثير القوى الواضح للمذهب الجبري في علم الكلام على ذلك التصور الحتمى للعالم؛ كما يغفلون مؤثرات فلسفية أخرى من بينها بعض أقوال ابن خلدون في «المقدمة» وقصائد أبي العلاء نفسه.

          ولم يكن من قبيل المصادفة إذن أن طه حسين بعد أن ألَّف عن أبي العلاء رسالته الأولى اختار ابن خلدون موضوعا لرسالته الثانية في السوربون. اختاره لأنه كان يعرفه معرفة جيدة، ولأنه أراد أن يتوقف طويلاً عند صديقه القديم مؤلف «المقدمة» ليقيمه تقييماً نهائياً على ضوء «المذاهب الحديثة» التي بدأ يتعرف عليها مباشرة في فرنسا. من هنا تضمنت هذه الرسالة الثانية نقداً مفصلاً ومنظماً لابن خلدون على ضوء مادة التاريخ ومادة الاجتماع كما درسهما طه في السوربون. ولا يتسع المجال هنا لتقييم هذا النقد المنظم، فقد فعلت ذلك في كتابات أخرى (انظر كتابي السالف الذكر). ويكفي أن أقول باختصار إن طه حسين لم يكن منصفاً في تقييم ابن خلدون، وذلك رغم حسن اختياره للموضوع (فقد كان ذلك عملاً أصيلاً ورائداً) ومهارته في إدارة عملية النقد. ومما يدل على ذلك أن طه حسين ظل طيلة حياته أي قبل السفر إلى باريس وبعد عودته منها يستند إلى أرضية خلدونية صلبة في تأريخه للإسلام وتأريخه للأدب العربي وفي آرائه عن المجتمع العربي بين البداوة والحضارة.

          وأود الآن أن أعود إلى نظام العالم كما تصوره طه حسين في كتابه عن أبي العلاء. التصور كما قلت فلسفي، وأسلوب الكتابة أسلوب معروف في الكتابة الفلسفية. فالكاتب هنا يقرر قضاياه تقريراً بعبارة موجزة قاطعة وذات طابع نهائي لا يقبل النقاش. ويحضرني في هذا الصدد مثال غربي يعد نموذجاً واضحاً لهذا النوع من الكتابة الفلسفية. وأعني بذلك أسلوب «الرسالة المنطقية الفلسفية» التي ألفها الفيلسوف النمساوي لودفيج فتجنشتين في أوائل القرن العشرين، أي في وقت موازٍ تقريباً لرسالة طه حسين عن أبي العلاء. فرسالة فتجنشتين تتألف من جمل أو فقرات مرقمة يقررها تقريراً عن تكوين العالم بأكمله من وقائع بسيطة ومفردة وعن كل القضايا التي يمكن أن تقال تصويرا لتلك الوقائع وتكون بذلك مفيدة (ذات معنى) وتحتمل الصدق والكذب. فإذا حاول أحد أن يخرج عن هذه الحدود حدود العالم وحدود اللغة لم يجد عندئذ ما يقال من عبارات مفيدة. لم يجد إلا ما «يتبدى» فيما يقول فتجنشتين وما يحسن السكوت عنه؛ وذلك في رأيه عن مجال التصوف.

          ومن الطريف أن برتراند رسل أستاذ فتجنشتين قال في أسلوب تلميذه: «... كان فتجنشتين كعادته قاطعا، يطلق رأيه كما لو كان أمرا إمبراطوريا للقيصر». ولعلنا نستطيع أن نقول شيئاً من هذا القبيل عن أسلوب طه حسين في رسالته عن أبي العلاء. ولكن ليس ذلك بالأسلوب الفلسفي الوحيد. فهناك أسلوب آخر، وهو الأسلوب المسترسل الموجه صراحة أو ضمناً لمخاطب حقيقي أو افتراضي بهدف الشرح والإقناع. فلنقل إنه أسلوب الكتاب المعلمين. وأوضح نموذج في هذا المجال هو أسلوب «المعلم الأول» أرسطو. فكتاباته محاضرات أو مذكرات سجلها طلابه لمحاضراته. وهو لا يثبت رأيا لنفسه إلا مع إيراد آراء السابقين في نفس الموضوع وإيراد الاعتراضات الحقيقية أو الممكنة والرد عليها. ومن علامات التوازي الغريب مع الفوارق بين فتجنشتين وطه حسين أن كلا منهما مارس الكتابة بأسلوب أو آخر في مرحلة مختلفة من حياته. وذلك أن الأديب العربي بعد أن كتب ما كتب عن نظام العالم الصارم في كتابه الأول، أخذ في مرحلة النضج يمارس الكتابة بلغة «الأحاديث» المسترسلة؛ وهو أسلوب سلط عليه الضوء الدكتور جابر عصفور في كتابه «المرايا المتجاورة». ولهذا التطور في أسلوب الكتابة مغزى فكري عميق يتجاوز مستوى اللغة. فنظام العالم كما تصوره طه حسين في البداية شبكة من العلاقات السببية الحتمية، وهو تصور قد يكون مناسبا لمنطق العقل والعلم (في ذلك العصر)، ولكنه لا يتسع في الواقع لحرية الفنان وقدرته على الإبداع ولا يتسع لحرية اِلإنسان بصفة عامة وليس فيه مكان للمعجزات ولا للإيمان بالعلل الغيبية. وإذا كان طه حسين قد تحول بعد ذلك إلى لغة الحديث المسترسل، فإن ذلك يعني من بين ما يعني أنه أخذ يفكك تلك الشبكة الصارمة التي قيد بها نفسه في شبابه لكي تتسع لقدرة الفنان على التعبير عن ذاته، ولقدرة الإنسان على الاختيار، ولما يمليه الإيمان أو «منطق القلب».

          وقد تطور فتجنشتين على نحو مماثل والتشبيه مع الفارق. فبعد أن وضع في «الرسالة المنطقية الفلسفية» التي كتبها في شبابه نموذجاً رياضيا منطقيا للعالم ولما يقال عنه من كلام مفيد، انقلب على نفسه في مرحلة لاحقة فهدم ذلك النموذج الصارم وأخذ يرسل الأحاديث.

مشكلة العلاقة بين العلم والدين

          وهو ما ينتهي بنا إلى نقطة أخيرة في ما يتعلق بالطابع الفلسفي لتفكير طه حسين. وذلك أن انشغاله على نحو انفرد به بالمنهج في دراسة تاريخ الأدب والتاريخ بصفة عامة أدى به إلى مواجهة مشكلة أعم، وهي مشكلة العلاقة بين العلم والدين أو بين العقل والإيمان. وهي مشكلة أساسية في الفلسفة الإسلامية ولها دور بارز في الفكر الغربي، وتصدى لها طه حسين صراحة بداية من الثلاثينيات في القرن الماضي عندما كتب مقالات تتناول الموضوع مباشرة، كما واجهها في «على هامش السيرة» وفي «مرآة الإسلام». ومن حق قارئ هذه الأحاديث المسهبة أن يستمتع بما فيها من إمتاع ومؤانسة وقص عذب، ومن موسيقى وإيقاع، ومن جمال النثر العربي القديم، ومن لغة القرآن الكريم. إلا أن هذه الجوانب الجمالية ينبغي ألا تخفي عن القارئ الحصيف ما يعتمل تحت السطح من اضطراب وقلق ومن تقليب للأمر على وجوهه المختلفة ومن تذبذب بين المناقضات. وقد أدرك ذلك مارون عبود عندما قال في كتابه «الغربال» إن طه حسين «يعكر ولا يصطاد». وهو قول صائب بقدر ما يؤكد جانب القلق في فكر طه حسين. إلا أن هذا القول في حاجة إلى تصويب. فمن الصحيح أن طه حسين حرك المياه الراكدة، ولكن الصيد كان وفيرا رغم القلق أو بسببه.
--------------------------------
* كاتب من مصر.

 

عبدالرشيد الصادق محمودي*