أفولُ إمبراطوريةٍ وغيابُ أبٍ

  أفولُ إمبراطوريةٍ وغيابُ أبٍ
        

          بدت إسطنبول حيث ولد «أورهان باموك» في منتصف ليلة السابع من يونيو 1952 «مدينة عجوز فقيرة مدفونة تحت رماد إمبراطورية خربة». ذلك هو الموضوع الأثير الذي شغل باموك في كتابه الشائق «إسطنبول: الذكريات والمدينة» فلطالما أحس بأنه ولد في مدينة كانت في أسوأ أحوالها خلال ألف عام من عمرها؛ إذ كان يخيم عليها الذبول، والسوداوية، ومشاعر الإخفاق العميقة الملازمة لنهاية الإمبراطوريات الكبرى، فلا عجب أن يمضي حياته يحارب تلك السوداوية، أو يتقمّصها كما كان يفعل جلّ أهل إسطنبول الذين تركهم انهيار الإمبراطورية شبه حيارى. لكن باموك لم ينس أن يتعرّض لأبيه الغائب، فتلازم في الكتاب غياب مزدوج لإمبرطورية وأب دمغا حياته الشخصية والأدبية.

          كانت إسطنبول حوالي منتصف القرن العشرين مشدودة إلى تاريخ إمبراطوري مفعم بالمجد، ومجتمع دنيوي يرى مستقبله في نموذج الحداثة الغربية لكنه يحنّ إلى الماضي، وكانت المدينة طوال أكثر من ألف وخمسمئة سنة عاصمة لثلاث إمبراطوريات كبرى، وتعاقب عليها نحو مئة وعشرين بين إمبراطور وسلطان، وفيها كانت تصاغ الأحداث الكبرى في تاريخ العالم، ثم فجأة انهار كل ذلك المجد بانهيار الإمبراطورية الدينية، وظهور الدولة القومية العلمانية التي رسمت صورة قاتمة للماضي بأجمعه، وأخذت بمقترح غربي للتحديث، لكن الذاكرة الجماعية مازالت نابضة بتركة الماضي، فارتسمت الحيرة في أعماق المدينة. لم تكرّس الدولة الجديدة اهتماما بماضي البلاد، إنما اعتبرته عائقا أمام تطلعاتها الحديثة، وستكون إسطنبول بإرثها الرمزي موضوعا لكل ذلك، وهو ما استأثر بشغف باموك فجعل منه موضوعا لبعض رواياته وسيرته.

          ينحدر أورهان باموك من عائلة ميسورة كانت تقيم في قصر حجري كبير يعود إلى الحقبة الأخيرة من تاريخ الإمبراطورية العثمانية، لكنها قبل ولادته بعام اضطرت لتأجيره، وابتناء منزل حديث مجاور بخمسة طوابق، ضم كل أفراد الأسرة: الأجداد، والآباء، والأبناء. وإذ كانت الأسرة تحنّ إلى العصر الإمبراطوري، فقد وضع بيانو في كل طابق حيث كانت تطوف ذكريات الماضي في جنبات المنزل الحديث، الذي توهم أهله أنّهم به يقطعون الصلة مع التركة الإمبراطورية، بما فيها القصر الحجري المجاور. ولكن لم يعزف أحد من أفراد الأسرة على أي بيانو في تلك الطوابق الخمسة، حتى ظنها الطفل أورهان حوامل للصور، وهي صور تذكّر بذلك الماضي الذي تلاشى. وكان هذا مثار أسى بالنسبة إليه؛ فقد تعارضت دلالات الزمان والمكان في البيت، فالتصميم الحديث للبيت لم يحل دون العلاقات التقليدية بين أفراده، حيث تبوأت الجدّة المكان الأول في الهرم العائلي، وللاحتيال غير الواعي على حال ملتبسة، ومنقسمة على ذاتها، فقد امتلأت طوابق المنزل بخزفيات صينية، وفناجين شاي، وفضيات، وعلب سعوط، وكئوس من الكريستال، وأباريق لمياه الزهر، وأطباق، ومباخر، وجميعها لم تُلمس، فضلا عن مناضد مزخرفة بالصدف لا يجلس عليها أحد، ورفوف للعمائم لم يكن عليها أي عمامة، وستائر من القماش الثمين لا تستر شيئا يختبئ وراءها. وقد غطى الغبار زجاج المكتبة الوحيدة في المنزل، فلا غرابة في أن يحسّ أورهان بأن «هذه الغرف ليست مفروشة للأحياء بل للأموات». ويعود ذلك إلى أن غرف البيت أثثت وكأنها متاحف صغيرة «لتظهر للزائر المفترض أن لأهل البيت ميولاً غربية».

          من الصعب قبول الانتقال السريع من علاقات تقليدية إلى أخرى حديثة، والأصعب استبدال سلوك يومي بآخر جرى اعتباره قديما، وغير ملائم، فقد أحدث هذا التصميم الغربي للمنزل معاناة عند أفراد الأسرة، إذ كانوا يفضلون الأرائك والمخدات على المقاعد الوثيرة، لكنه الذوق المستعار الذي يتعارض مع التركة التاريخية، كي يستجيب لشروط الثقافة السائدة، ولم يلبث أهل البيت أن أدركوا «أن التغريب هو التحرر من قواعد الإسلام» وسوى ذلك «لم يكن أحد على يقين من فائدته في أي شي آخر». لم يقتصر ذلك على إسطنبول وحدها إنما شمل تركيا طوال النصف الثاني من القرن العشرين، وقد استعاد ذكرياته عن منزل عائلته بوصفه متحفا للأثريات والتحف والصور وليس فيه أثر للحياة الحقيقية. تحدّث عن صور الأشخاص الذين تناثروا ولكنه لم يتحدث عنهم، ولم تُعرف مصائرهم. وقد صدر قرار عائلي مهم «لا تنقل صورة أبدا بعد أن تحتل مكانها في المتحف».

          مارست جدّته دورها (الإمبراطوري) في تنظيم شئون البيت، وتوزيع الأثاث وتحديد مواقع الصور وتحديد نظام التواصل والعلاقات. وكانت تعيش في حداد شبه دائم, وتتحدث إلى الجميع وكأنها في سبيلها لتأسيس «أمّة». كانت ترغب في مواصلة الحياة لكنها تتوق إلى أسر لحظات الكمال. تريد أن تستمتع بالمألوف لكنها مازالت تتعثر بالمثالية الموروثة. وقد وجد الطفل أن حياة أسرته قد وُضعت في إطار صارم، وأن الحياة خارج ذلك الإطار أمتع بكثير مما كان يراه في البيت. ومع ذلك لم يحجب ذلك الانتظام القسري لحياة العائلة الحقيقة المرة التي كانت تنخر في التماسك الإمبراطوري، إنه ركام من التنازعات والاتهامات المتبادلة حول الأملاك والثروة، فارتسم تفكك عائلي مناظر لتحلّل الإمبراطورية، وخلال ذلك كان أبوه يتغيّب عن البيت، وكان يخسر ثروته التي ورثها عن الجد الذي وضع الأسرة بكاملها تحت الضوء.

          ركّز باموك على فكرة انهيار الإمبراطورية في كناية مجازية عن انهيار الروابط التقليدية في عائلته. أليس من العجب أن يكون قصرهم الحجري، الذي انتهى مؤجرا في الخمسينيات كمدرسة خاصة، قد بني في الأصل في حديقة رئيس مجلس الوزراء خير الدين التونسي؟ وقد آل الأمر بالعائلة إلى أن تسكن عمارة حديثة بجوار ذلك القصر، فالعائلة ستظل بمكان قريب لذكرياتها لكنها ظلت بين تحديث عام أو محافظة رمزية، فحاولت أن تحافظ على اتزانها في عالم شرع يستبدل بالقديم كل جديد. فشروط الجمهورية العلمانية غير شروط السلطنة الدينية «كانت سوداوية هذه الحضارة المحتضرة تحاصرنا وكلّما عظمت الرغبة في التغريب والتحديث عظمت الأمنية البائسة في التخلص من كل الذكريات المريرة كما الإمبراطورية المنهارة»، فلا عجب حينما يقول باموك إن بيتهم كان متحفا، وكأن العائلة لغة أثرية جيء بها من التاريخ.

المدينة الرمادية

          راحت إسطنبول تتباهى بحزنها في عيني باموك، فلم تعد قلبا لإمبراطورية عالمية إنما أصبحت شاهدا حيّا على رجل مريض طال احتضاره، ثم انتهى أمره. وللتخلص من عار الماضي جرّدت إسطنبول من أهميتها، ولم تعد تصلح أن تعتصم بها البلاد، كما كان ذلك خلال الحقب الرومانية، والبيزنطية، والعثمانية. أصبحت مدينة بدرجة ثانية، فخيم عليها الحزن، وبدا وكأنها مدينة حِداد لشعب يتيم، مدينة رمادية لا تعرف للفرح معنى «لا نرى في إسطنبول ما نراه في المدن الغربية حيث تحفظ بقايا الإمبراطورية العظيمة كمتاحف للتاريخ وتعرض بزهو. يواصل أهل إسطنبول حياتهم ببساطة بين الخراب». أتكون إسطنبول قد آلت إلى موضوع للانتقام من الإمبراطورية؟ فكيف يقع إهمالها، فتندلع فيها الحرائق، وكأنها عار يذكر بحقبة مخجلة؟ إذ تصلح إسطنبول أن تكون علامة دالة على مصائر المدن الكبرى التي تحمل على كاهلها تركة الأجداد، وآمال الأحفاد في آن.

          استأثرت إسطنبول باهتمام باموك، فوصفها في أحوالها كافة، ومن خلالها وصف التحولات التي عرفتها أسرته، لكنه ادّخر موقفه من فكرة الأبوّة إلى وقت يتيح له فضحها، فحينما فاز بجائزة نوبل في الآداب في خريف العام 2006 كان مشغولا بموضوع الأبوّة، وبهوية تركية، وهي تعيد تعريف نفسها بين إرث أبوي إمبراطوري ثقيل، ودولة حديثة تبحث لها عن موقع في خارطة العالم المعاصر، وكل ذلك على خلفية الصراعات العميقة في بنية المجتمع التركي حول الأقليات، والمعتقدات، والحريات، والانتماءات الثقافية. واختار في خطابه أمام الأكاديمية السويدية أن يتحدّث عن الأبوّة، وانصبّ اهتمامه على حقيبة تركها أبوه في غرفته، ولا يغيب التناظر بين مدينة آفلة وأب غائب «قبل وفاته بعامين أعطاني أبي حقيبة صغيرة مملوءة بكتاباته، ومخطوطاته ويومياته، وعلى طريقته المعتادة في المزاح والسخرية أخبرني أنه يريدني أن أقرأها بعد رحيله، وهو يقصد موته».

حقيبة منسيّة

          نُسيتْ حقيبة الأب حيث هي، فلا حاجة للابن برؤية ما تحتويه مادام الأب حيًّا، فكأن فتح الحقيبة يضمر رغبة في موت الأب، وذلك أمر شائن يخرّب العلاقة بين الأبوّة والبنوّة، إلى ذلك ليس من اللائق العبث بما يعود للأب في حياته، فكل شيء سيكون مباحا حال غيابه. تحول الأبوة دون العبث بأسرارها، لم يجرؤ أورهان على تخطي تلك الحدود، وهو المتردّد. والحال هذه، فالخوف يعبّر عنه بصيغة التقدير والاحترام، وستكون التركة مباحة في ما بعد، فكل أب ستكون له تركة يتناهبها أولاده، ويرثونها، وربما يختصمون حولها. وجد باموك نفسه بين إرث إمبراطوري منهوب وتركة غامضة في حقيبة الأب «أول الأسباب التي أبعدتني عن محتويات الحقيبة هو بالطبع خوفي من ألا أعجب بما سأقرأ.. كان خوفي الحقيقي، الشيء الحاسم الذي لم أكن أود أن أعرفه أو أكتشفه، هو احتمال أن يكون أبي كاتبا جيدا. لم أستطع فتح حقيبة أبي لأني كنت أخشى ذلك. بل أسوأ من ذلك، لم أستطع أن أعترف بذلك الخوف بيني وبين نفسي. فلو تحقّق خوفي وخرج أدب عظيم من حقيبة أبي، فإنه كان لزاما عليّ أن أعترف أنه داخل أبي كان يكمن رجل مختلف تماما. وكان ذلك احتمالا مرعبا، لأنني حتى مع تقدّمي في العمر كنت أريد لأبي أن يبقى فقط أبي، وليس كاتبا». مادام البريق الإمبراطوري قد تلاشى، فلا بأس من الحصول على مجد شخصي عبر تخطّي المنافسة مع الأب.

          واضح أن الأبوّة تجد صدودا من طرف البنوة لأنها تحول دون تشكّل هويتها الخاصة. كان الأب رحّالة جعل الأدب في رتبة ثانية بعد الحياة، وهذا سبب كاف لجعله مخيفا بالنسبة إلى الابن الذي يرى «أن بداية الأدب الحقيقي هي رجل يغلق على نفسه الباب في غرفة مع كتبه». وأعتقد أنه لكي تكون كاتبا ذا شأن فينبغي أن تقبع طوال عمرك بين جدران أربعة تنسج خيوط أسطورة أدبية، ولأن أباه لم يأسر نفسه بين تلك الجدران برحلاته المتكررة إلى الغرب، فيكون ثلم تلك الصفة المجيدة، وهي العزلة التي يراها الابن السبب الوحيد وراء وجود الكاتب. والحال هذه، فلا أبوّة موقّرة ومرهوبة الجانب إلا بالعزلة، وصنع أسطورة شخصية. يلازم الغموض كل أبوة.

          اعتكف الابن في غرفة مغلقة ليكتب رواياته، فيما كان الأب يسافر من أجل أن يكتب انطباعاته، وملاحظاته، ومذكراته، مودعا إياها في حقيبة مقفلة. لا فرق، في نهاية المطاف، بين الاثنين، فكل منهما يخفي نفسه أو تجاربه في مكان بعيد عن الأنظار، الأول يعيش حياة معلنة، ثم يطمر تفاصيلها في حقيبة يدوية، والثاني يعيش حياة سرية، وينشر تخيلاته على الملأ بكتب مطبوعة. ثمة حامل للتجارب سواء أكان حقيبة أم كتابا، وكما أنه يحتمل ألا تفتح حقيبة الأب، فليس من اللازم أن تُقرأ روايات الابن. لا يريد الابن الاعتراف بخطئه، وهو ينسج رواياته معتكفا، لكنه تجاسر وفضح خطأ الأب «حين أرسلت نظراتي إلى حقيبة أبي، بدا لي أن ذلك هو ما سبب انزعاجي.. أحزنني أن أرى أبي يخبّئ أفكاره العميقة في هذه الحقيبة، أن يتصرف كما لو أن العمل كان ينبغي أن ينجز سرّا، بعيدا عن أعين المجتمع، والدولة، والناس. ربما أن هذا كان السبب الرئيس خلف شعوري بالغضب من أبي لأنه لم ينظر إلى الأدب بالجدية التي نظرت بها».

انزواء الكاتب

          لا يبدو السبب متماسكا، ولا متّسقا، فالابن نفسه كان منزويا في غرفة يعمل على أن يكون كاتبا. حدث كل ذلك والحقيبة مركونة إلى جواره، ولم يجرؤ على فتحها، ثم فجأة اكتشف الأمر «حالما فتحت الحقيبة استعدت رائحة الرحيل فيها، تعرفت على عدد من اليوميات.. كان معظم اليوميات التي أخذتها بيدي ضمن ما كتبه حين تركنا إلى باريس في شبابه. كنت أتمنى أن أعرف ما كتبه أبي وما فكّر فيه حين كان في عمري حينئذٍ. ولم يمض وقت طويل قبل أن أدرك أنني لن أجد شيئا من ذلك. ما أزعجني أكثر من غيره كان عثوري هنا وهناك في اليوميات على صوت الكتابة لديه. لم يكن ذلك صوت أبي، قلت لنفسي؛ لم يكن صوتا حقيقيا، أو على الأقل لم تكن له صلة بالرجل الذي عرفته أبا. نمت مخاوفي ألا يكون أبي هو أبي عند الكتابة، كان ثمة خوف أعمق: الخوف ألا أكون في أعماقي أصيلا، ألا أجد شيئا جيدا في ما كتبه أبي، كل ذلك زاد من مخاوفي أن أكتشف أن أبي وقع تحت تأثير هائل لكتّاب آخرين، وأن أهوي نتيجة ذلك في حالة من اليأس التي عانيت منها بشكل سيئ حين كنت شابا، على النحو الذي أثار الأسئلة حول وجودي نفسه، رغبتي في الكتابة وما أنتجته». ظن الابن أنه من الخطأ أن يكون امتدادا لأب كاتب وقع تحت تأثير كتّاب آخرين، فهذه سلسلة مزعجة من التأثيرات التي تُخفي موهبة الابتكار، وتعيقها، ولهذا رغب في أن يكون أبوه أبا فحسب، كي تبدأ الأمور به، أي بالابن ليكون في ما بعد أبا.

          عالج فرويد هذا الشعور النفسي الخطير بطرحه فكرة «قتل الأب» أي عدم امتلاك الهوية الناجزة بوجود تبعية تربط الابن بأبيه. خالج باموك هذا الشعور، فظل يحوم حول فكرة الأب، وحول الحقيبة المقفلة، فهو لا يريد أن يعترف بقيمة محتوياتها، ولا بأهمية كاتبها، لكنه يخاف مما تطمره في داخلها. وبعد تردّد فتح الحقيبة «قرأت المخطوطات واليوميات القليلة، فما الذي كتب عنه أبي؟ أتذكر بعض المشاهد القليلة التي رآها من شبابيك الفنادق الباريسية، بعض القصائد، المفارقات، التحليلات». تحقق ما رغب الابن فيه.

          هنالك عزوف لا يكافئ حال الترقّب المتصاعدة التي لازمت الابن تجاه الحقيبة، ولأنه خذل بتركة أبيه، وهو ما كان قد رغب فيه، وخان الاتفاق الضمني حول عدم الاطلاع عليها إلا بعد وفاته، فقد وارب في قول الحقيقة، بل كذب «لم أخبره أنني فتحت الحقيبة وحاولت قراءة محتوياتها؛ بدلا من ذلك نظرت جانبا، ولكنه فهم. تماما كما فهمت أنه فهم. ولكن كل هذا الفهم وصل إلى أقصى نقطة في ثوان؛ لأن أبي كان إنسانا سعيدا ومرحا وواثقا من نفسه، ابتسم لي بالطريقة التي يبتسم دائما. وأثناء مغادرته البيت كرر الأشياء الحلوة والمشجعة التي كان دائما يقولها بوصفه أبا».

عزوف عن الانتساب

          لم يرد الابن أن يعثر في حقيبة أبيه إلا على ما كان يتخيله ويريده، وبذلك تأكد بأنه غير موصول بنسب كتابي ذي شأن، فقد كان أبوه مشروع كاتب لم يحالفه الحظ، أما الابن الذي انكبّ على تنقيح موهبته بصرامة كاملة بين أربعة جدران، فقد تحقق له ما أراد. «حقيبة الأب» رمز لعبء الأبوّة التي يتجنّب فتحها كثير من الأبناء إلا بتأفّف، وربما بخوف، كيلا يعترفوا بالمديونية لآبائهم. وربما يضمر الأبناء كراهية لفكرة الاستمرارية عبر فكرة الأبوّة، ويريدون اطّرادها عبر البنوّة. لم يشر باموك إلى أبنائه، إنما أشار إلى كتبه، ففيها انتسابه اللاحق، ومنها ينبغي أن تبدأ الأشياء المهمة، وفي هذه الحال ينبغي قطع دابر الأبوّة، كما ينبغي قطع الصلة مع التَركة الإمبراطورية.
--------------------------------------
* أكاديمي من العراق.

----------------------------------------------

أحِنُّ إلى أرْضِ الْحِجَازِ وَحَاجَتي
                              خيام بنجد دونها الطرف يَقْصُر
وما نظري من نحو نجد بنافعي
                              أجَلْ، لاَ، وَلكنِّي عَلَى ذاكَ أنْظُرُ
أفي كل يوم عَبرة ثم نظرةٌ
                              لَعَيْنِكَ يجْرِي مَاؤُهَا يَتَحدَّرُ؟
متى يستريح القلب، إما مجاور
                              حزين وإما نازح يتذكر؟
يقولون كم تجري مدامعُ عينهِ
                              لها الدهر، دمعٌ واكِفٌ يتحدر
وليس الذي يجري من العين ماؤها
                              وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تَذُوبُ وَتَقْطُرُ

قيس بن الملوح

 

عبدالله إبراهيم