بابلو نيرودا.. الشاعر المفتون بالـحياة

بابلو نيرودا.. الشاعر المفتون بالـحياة
        

          قبل أربعين عامًا تقريبًا رحل شاعر شيلي الكبير بابلو نيرودا تاركًا وراءه عددًا هائلاً من الأعمال الإبداعية التي تنتمي إلى أجناس أدبية شتى. لكن هذه الأعمال ظل ينتظمها، على اختلافها وتنوّعها، سَلك جامع وهو التغنّي بالحياة. فنيرودا كان مفتونًا بمباهجها مقبلاً عليها يريد أن يروي ظمأه منها.

          هذا الشاعر قد رأى الأرض، كل الأرض، مملكة واحدة تسكنها أمة واحدة وتتملّكها أشواق واحدة. لهذا مضى يزرعها، منذ نعومة أظفاره، طولاً وعرضًا، متغنيًا بجبالها وغاباتها وبحارها، منحازًا لفقرائها، منتصرًا لعشّاقها وثوارها ومتمرّديها.

الحياة كرواية رومانسية

          حياة الرجل كانت ملحمة مثيرة يكاد المرء لا يصدق كل أحداثها ووقائعها.. وقد روى فصولها بنفسه بشاعريّة فائقة في كتابه «أشهد أنني قد عشت»، متأنيًا في بعض تفاصيلها تأنّي من يستمتع بسردها وحكيها. هذه الحياة المدهشة تمتزج فيها المغامرات السياسية بالمغامرات العاطفية بالمغامرات الشعرية. فالحياة عند الرجل مجازفة وككل مجازفة تحتاج إلى جرأة وشوق إلى المجهول، ولمّا كان هذا الشوق وتلك الجرأة من أخصّ خصائص شخصية نيرودا، فقد كانت حياته أقرب ما تكون إلى رواية رومانسية جميلة تتداخل فيها القصص العاطفية في الأحداث الاجتماعية.

          وُلد نيرودا في الثاني عشر من شهر يوليو عام 1904 في قرية صغيرة بوسط شيلي. توفيت والدته التي كانت تعمل مدرسة ولم يبلغ بعد شهره الثاني، فتزوج والده الذي كان يعمل موظفًا صغيرًا في السكك الحديدية من بترينيداد كانديا التي حدبت على الطفل، وأولته كلّ عنايتها ورعايتها حتى أن الشاعر سمّاها في مذكّراته «بملاكه الحارس» وأهدى إليها بعض قصائده.

          لا يمكن للشاعر أن يستحضر صورة مسقط رأسه دون أن يستحضر صورة الأمطار التي تنهمر دون انقطاع «كانت السماء تمطر، في القرية، شهورًا بأكملها، أعوامًا بأسرها، كان المطر يتدلّى خيطانًا كأنها إبر طويلة من البلّور تنكسر على أسطح المنازل، أو إنّه يستحيل أمواجًا شفّافة تلطم النوافذ». هذه الأمطار كانت صديقة الشاعر في طفولته، كما أشار إلى ذلك في مذكّراته، تصحبه إلى المدرسة وترافقه في مسالك الغابة.

          في عام 1910 التحق نيرودا بمدرسة القرية. وقد شيّدت هذه المدرسة في قلب الطبيعة حيث أشجار التفّاح البرّي تمتد حتى الأفق والأنهار المترقرقة تتخلل الغابات الكثيفة، وغناء المزارعين يرتفع من كل مكان ليمنح بعض العزاء لأهل الريف الفقراء.

نيرودا شاعرًا

          نشر نيرودا أعماله الشعرية الأولى وهو لم يبلغ عامه الخامس عشر، وقد تقبّل الجمهور قصائده باحتفاء كبير وانعطف الدارسون عليها بالنظر والتأمل، ووضع الموسيقيون لها الألحان وحظي الشاعر - بفضلها - بشهرة كبيرة جعلته محلّ احتفاء وتقدير في كلّ عواصم الدنيا. فهذه القصائد قد جمعت، بحسّ شعريّ لافت، بين الأسئلة الاجتماعية والأسئلة الوجوديّة جمع تآلف وانسجام. فالشعر هنا ليس مجرد تدفق عاطفيّ سائب وإنّما هو صرخة احتجاج على الشرط الإنساني، على الجور الاجتماعي، على العوز والفاقة يطمسان إنسانية الإنسان.

          استقرّ نيرودا عام 1921 في العاصمة سانتياجو وعيّن وهو في سنّ الثالثة والعشرين قنصلاً لبلاده في بعض الدول الآسيوية والأوربية. وكان في تلك الأثناء يكتب الشعر بغزارة مدهشة حتى وُصف شعره برحيق النجوم وهو الماء الأثيريّ الذي اعتقد القدماء أنه يفيض من النجوم ويؤثّر في أفعال الناس وأقدارهم. وربّما كانت الحرب الأهلية الإسبانية من أكثر الأحداث التي أثرت في شعره ومواقفه الفكرية وخياراته السياسية.

          فاز سنة 1971 بجائزة نوبل للآداب. وقد استقبله، في مطار ساندياجو، الآلاف من الشيليّين وكان على رأس هؤلاء سلفادور ألندي.

          في عام 1973 أطاح الجنرال بينوشي بالحكومة الشرعية في شيلي وأمر جنوده بإعدام الرئيس ألندي ثم مضى يطارد كلّ المثقفين ومن بينهم نيرودا. يقول كتّاب سيرة الرجل إن جنود الجنرال بينوشي اقتحموا منزله بعد الإطاحة بالرئيس ألندي، فوجدوا شيخًا أقعده المرض فأحاطوا به يسألونه عن الأسلحة التي يخبّئها، فأشار إلى قصائده متمتمًا «تلك أسلحتي». فما كان منهم إلا أن اندفعوا، غاضبين، يحطمون أثاث البيت ويمزّقون كل ما عثروا عليه من كتب وقصائد. وبعد أيام قليلة صحبته زوجته إلى المستشفى وقد ساءت حالة فاعترض سبيلهما الجنود، ومضوا يفتشون الشاعر المحتضر ويكيلون له الشتائم غير مبالين بالدموع التي تنهمر غزيرة من عينيه. قالت زوجته حين دخل نيرودا المصحة انبسطت أسارير وجهه وهمس بعد أن أكرهه الأطباء على تناول بعض الأدوية: إني مسافر.. ثم استغرق في نوم عميق لم يستفق منه أبدًا. وإذا كانت شهادة المصحّة تؤكد أن نيرودا قد توفي بسبب إصابته بالسرطان، فإن زوجته قد ارتابت في أمر الأطباء الذين أمضوا هذه الوثيقة وأكّدت أن زوجها توفي على إثر نوبة قلبية ملمّحة إلى أنه قد مات مقتولا، وهذا ما أكّده، في مرحلة لاحقة، سائقه الذي أكّد أن الشاعر قد تم اغتياله على يد عميل تابع لنظام بينوشي. بسبب من هذا مازال الحزب الشيوعي في شيلي يطالب باستخراج جثة الشاعر للتحقق من أسباب موته.

نيرودا إنسانًا

          ذكر أندري مارل في رائعته «الأمل» دور الشاعر والدبلوماسي نيرودا في مساعدة آلاف الثوار من أنصار الجمهورية على الفرار من إسبانيا الفاشية. فالرجل قد قضى الأيام الطوال في محطات القطار وفي أرصفة المواني مستخدمًا حصانته الدبلوماسية، مشرفًا على نقل الآلاف من الهاربين من القمع الفاشي. وقد تمكّن - على الرغم من الملاحقات والمطاردات - من نقل الكثيرين إلى وهران في الجزائر ثم استأجر لهم، بعد ذلك، سفينة أقلّتهم إلى أمريكا اللاتينية.

          كما أنّ نيرودا منح الروائي الكولومبي ماركيز حين كان مطاردًا من الشرطة المكسيكية بطلب من السلطات الكولومبية جوازه الدبلوماسي وساعده على الإقامة في باريس.

          لقد تحاشى الشاعر النبيل سرد تفاصيل هاتين الحادثتين في سيرته وترك الشعراء والأدباء الذين حماهم من بطش الطغاة يروونهما في كتبهم وحواراتهم، وقد كان من ضمن هؤلاء الرواة الشاعر رافائيل ألبرتي الذي كان يردد أنه يدين بحياته لنيرودا.

          كان الشاعر يستلذّ ركوب الخطر. وقد وصف في مذكراته الكثير من القصص التي تصوّر مغامراته، منها القصة التي تصوّر رحلة هروبه عبر جبال الأنديز وهو يمتطي صهوة حصانه.. فقد كان يخوض النهر تلو النهر، ويتسلّق الجبل تلو الجبل، ويدخل الغابة تلو الغابة، مقتحمًا أمواج المياه التي تنحدر من قمم الأنديز هادرة قويّة، حاثا حصانه على مواصلة السير على الرغم من ارتفاع الماء، وفي مكان ما من غابة قصيّة لم تطأها قدم إنسان بعد، حفر الشاعر بخنجره القصائد التي كتبها على جذوع الأشجار لتغطّيها بعد أيام قليلة الطحالب والزهور والأعشاب، وتصبح جزءًا من الغابة أي جزءًا من الطبيعة، أي جزءًا من الكون.

نيرودا وتعدد أساليب الكتابة

          انحاز نيرودا إلى الشعر الملتزم، ومثل كل الشعراء الملتزمين كانت تستبدّ به شهوة عارمة لتغيير العالم وتقويم خلله.. فلا شيء تمّ ولا شيء قد اكتمل.. كل شيء مازال في بدايته الأولى، وعلى الشعر أن يتقدم ليكمل ما كان ناقصًا. هكذا فهم نيرودا الشعر، وهكذا فهمه كل الشعراء الملتزمين الذين ظهروا في بداية القرن العشرين. وهذا الفهم للشعر قد حوّل القصيدة إلى زجاج شفّاف ننظر من خلاله إلى المضمون. فمن خصائص هذا الشعر أنه يردّنا باستمرار إلى العالم ويدفعنا إلى تأمّله قصد إصلاحه. لهذا لجأ الشعراء الملتزمون إلى اللغة المتعدّية أي اللغة التي تشفّ عن الواقع الذي تصدر عنه.

          لكن هذا لا يعني أن مدوّنة الشاعر قد اقتصرت على هذا الضرب من الشعر دون سواه، فنيرودا قد كتب في كل المضامين الشعرية، بل لعلّ أجمل قصائده هي تلك التي تمتزج فيها العذوبة الغنائية بالنبرة التأمّلية ذات المنابت الشرقية.. وهو في هذا، يذكّرنا ببورخس في قصائده التي استلهمت الحكمة الشرقية وحوّلتها إلى عنصر مكين من عناصرها. ولعلّ رائعته «يموت» خير مثال على هذا النمط من الشعر المتأمل.. فنيرودا قد سعى في هذه القصيدة إلى استخراج المدهش المباغت من اليومي المألوف، معوّلا على لغة واضحة غامضة، قريبة بعيدة، أليفة غريبة:

          ميت ذلك الذي يخضع لعاداته، مكررًا حياته كل يوم.
          ذلك الذي لا يغيّر ملابسه ولا ينحرف عن طريق عمله ولا ينظر إلى المغيب بعينين جديدتين.
          ميت ذلك الذي يؤثر اللونين الأسود والأبيض الجنوح إلى الوضوح على سرب غامض من الأحاسيس الجارفة.
          تلك التي تجعل العينين لامعتين، وتحوّل التثاؤب إلى ابتسامة، وتعلّم القلب أن يرتجف حين تدهمه المشاعر.
          ميتْ ذلك الذي لا يقلب الطاولة ولا يجرؤ ولو لمرة واحدة في حياته على الهروب من النصائح المنطقية.
          ميّت ذلك الذي لا يسافر ولا يطالع ولا يصغي إلى الموسيقى.
          ميت ذلك الذي يرفض المساعدة ويقضي سحابة يومه متذمرًا من حظه العاثر أو من استمرار المطر في الهطول.
          ميت من يتخلى عن مشروع قبل أن يقبل عليه.
          ميت من يخشى أن يثير الأسئلة حول ما يجهل، ومن لا يجيب عندما يُسأل عن أمر يعرفه.
          ميت من يجتنب الشغف ولا يجازف باليقين في سبيل الشك من أجل أن يطارد بعض أحلامه.

          ومن أجمل كتب نيرودا الشعريّة كتابه الموسوم بـ«كتاب الأسئلة» الذي ترجمه الشاعر محمد الرفرافي. هذا الكتاب الذي احتوى على الكثير من الأسئلة الشعرية طرحها الشاعر في سطر أو سطرين يعدّ إنجازًا شعريًا باهرًا. فهذه القصائد/الأسئلة هي من قبيل القصائد المكتنزة التي تلمع كالبرق لتفتح أمام المتقبّل أفقًا لا يحدّ منتهاه.

من هذه الأسئلة:

          - هل ثمة أكثر حزنًا من قطار واقف تحت المطر؟
          - من أين يأتي ربيع باريس بكلّ هذه الأوراق؟
          - لماذا تنتحر أوراق الشجر حين تصبح صفراء؟
          - مَن هم الذين هتفوا فرحين حين ولد اللون الأزرق؟

          إن شعر نيرودا، كل شعر نيرودا، هو في أصل جوهره احتفاء بالحياة واحتجاج على كلّ وجوه القبح فيها، ومن ثمّ فهو مزيج عجيب من الغناء والغضب، من الفرح والرفض، مؤكدًا بذلك عبارة كولريدج التي قال فيها إنّ قيمة الشعر رهن بمدى ما يتحقق من نظرة ناقدة للحياة.
-------------------------------------
* شاعر وأكاديمي من تونس.

 

محمد الغزي*